لو أن الخطاب الديني اشتغل على ما يسمى ب"الواجبات الكفائية" عُشر ما اشتغله على المواعظ في النوافل لكان حالنا أفضل، ربما وجدوا في مواعظ النوافل المغرق ذاك خيطاً لبقاء الأتباع في دائرتهم، ففي كل موسم خطاب يشد الأتباع، ولا يكاد يمر شهر أو أسبوع دون أن يضعوا لها نافلة كي يبقوا الأتباع ضمن الدائرة. الواجبات الكفائية هي الاحتياجات التي يحتاجها كل بلد وإن لم تتوفر يأثم الجميع كما قال الفقهاء الأوائل، فمن لم يصنع دواءه وغذاءه وسلاحه وأثاثه ومركبه وكل احتياجات بلده فإنه لم يحقق بعد ذلك الواجب، وإغراق الأمة طوال العام بالنوافل يجعل المتدين مطمئناً أنه قد تجاوز الواجب وصار في مرتبة أعلى هي النافلة، وقد يعطيه شعوراً بالتعالي على من هم مقصرون بنظره، بل لقد صارت تلك النوافل في تعامل المجتمع كأنها واجبات! إنما من يتأمل فلسفة القرآن في نوافل العبادات فإنه لا يجد لها إلا هامشاً بسيطاً قد يكون خاصاً بالنبي أكثر من كونه عاماً، وحتى لو افترضنا عمومه فإن الطبيعي أن يبقى في فئة من المجتمع كان يطلق عليهم الغزالي في إحيائه "الخاصة" وفئة أخرى أقل سماها "خاصة الخاصة"، أما في أيامنا اليوم فقد انقلب الهرم رأساً على عقب. إن انحراف الخطاب الديني عن أولوياته حرف معه الأمة، وصار يتحمل جزءا كبيرا من أسباب تراجعنا وتخلفنا، انظروا فقط حجم الخطاب الموجه للمرأة من لباس وحركة وغيره، وحجم الخطاب الذي يعظم ويجرم أذية الآخر وقتله! أيهما يستلهكه ذلك الخطاب؟ ولماذا صار القتل سهلاً في مجتمعاتنا؟ ولماذا ضعف الضمير الأخلاقي الرادع للإنسان؟ أعرف أن الرادع الخارجي مفقود في لحظتنا هذه، وهذا ساهم في المشكلة، ولكن تفعيل الرادع الداخلي يخفف ذلك الإجرام. إنني لا أحكي عن خطاب سنوات وإنما عن خطاب عقود وقرون.