مقالات محمد مصطفى العمراني أثناء وقوفي في شارع الستين بانتظار سيارة أجرة توقفت بجواري سيارة خصوصي ، في البداية ظننته أحد أصدقائي توقف ليوصلني كثر الله خيره لكن سائقها نزل وصافحني ثم فاجأني بقوله : تنتظر تاكسي يا أستاذ ؟ أيوه . سأوصلك وحاسبني مثل التاكسي . ركبت معه وأخبرته بوجهتي ، ولأن مشواري حينها كان طويلا ، وطال أكثر بسبب الزحام الذي يسبق رمضان عادة بدأت أتحدث معه لتمضية الوقت ، وجر الحديث بعضه حتى سألته عن أبيه وعمله ، لقد صعقت حين أخبرني وبكل هدوء أن والده يعمل في تجارة المخدرات .! أنت تمزح صح ؟! سألته . أو قصدك أنه يبيع قات ؟ أبي تاجر مخدرات فعلاً . أنت تتكلم جد ؟! أوقف السيارة جانبا وفتح هاتفه وأراني صورة والده بجوار سيارة فخمة محاطاً بمرافقين. قلت: مش كل واحد معه سيارة فخمة وحرس يتاجر في المخدرات . وحينها أراني عدة صور لوالده بجوار عينات عدة من أكياس المخدرات ، ومبالغ مالية ضخمة ، وحقائب وأسلحة ، وعدة شوالات قات . ولماذا السلاح والقات بجوار المخدرات ؟ ضحك ساخراً وأجاب : هي كلها منظومة واحدة . وبلا وعي سألته : طيب وأنت ... ؟ قصدك لماذا لم أعمل معه ؟ أعاد تشغيل السيارة وتحركنا وبدأ يتحدث : ربما ستقول عني أنني غاوي فقر ، أنا كنت أقول : وماذا سيحدث لي؟ نحن فقط نسلم ونستلم ، لكن مقتل أخي في إطلاق نار من حرس الحدود السعودي جعلني أتوقف ، لقد قتلوه رغم أنه كان يخزن معهم دائماً في منفذ حرض ، ذات يوم وصلت لجنة من الرياض إلى المنفذ لترفع تقارير وتراقب العمل ، اللجنة وصلها بلاغ بوجود عملية تهريب قات ومخدرات فوجهت الدوريات هناك بمتابعة العملية والقبض على المهربين ، وحتى لا يتهم الضباط بالتواطؤ تحركوا بجدية ، كان أخي يقود صالون فيها بضاعة بمائة مليون ريال وأكثر ، وهنا قاطعته : مائة مليون ريال ؟ أيوه المخدرات غالية جدا ، الكيس 200 جرام بعشرين ألف ريال سعودي . حاول الهرب منهم لكنهم أطلقوا عليه الرصاص وقتل ، وصادروا السيارة بما فيها . أراني صورته ، شاب في مقتبل العمر . سالت دموعه وهو يروي : تصور أبي أنكر أن يكون له علم بعمل أخي ، وتبرأ منه أمام المشايخ والوجهاء في منطقتنا بعدما أذاعت وسائل إعلام سعودية مقتله في عملية تهريب مخدرات.! أبي أمام الناس شيخ محترم يتاجر بالسلاح فقط ، لكن في الحقيقة يتاجر بكل شيء.! لو تجلس معه مثقف جداً ويبهرك بطرحه ويقرأ كتب ، وفي رمضان يتوقف عن عمله ويتوب . بعد مقتل أخي راجعت حساباتي ونصحتني أمي بالابتعاد عن الوالد وعمله ، باعت ذهبها وأعطتني قيمة السيارة ، لي فترة أحاول تغييرها إلى أجرة دون جدوى ، ما اشتغلت بها صرفتها ، أحياناً أتسلف قيمة البترول سلف ، بس تعرف : أنا مرتاح ، يعني مرتاح نفسيا ، متصالح مع ضميري . طيب ليش ما تنصح أبوك يترك هذا العمل ؟ ما يستطيع يا أستاذ ، هذه عصابات دولية منظمة ، ضروري قرار استثنائي من الإدارة بالخارج . وأضاف: أبي أصلا ما دخل المنظمة إلا بعد وساطات وضمانات من شخصيات كبيرة ، وبعد اختبارات مكثفة ، ودروات تدريبية ووو ألخ . وتساءلت في نفسي: هل هذا الولد ساذج وعلى نياته حتى يخبرني بكل هذه الأسرار الخطيرة ؟! أم أنه يمثل علي فيلم هندي لأتعاطف معه ؟! من يدري ؟ كل شيء جائز . لم أطمئن له تماماً لكنني أميل إلى تصديقه. أنا شخص بعد حالي ولم أتخيل يوما أن ألتقي في بلادنا بمن يتاجر بهذه الأشياء ، كنت أراها في الأفلام فقط .!! قررت أن أسمع المزيد منه ، على الأقل سأكسب فكرة قصة ، دعوته للعشاء على حسابي ، ونحن نتعشى أخبرته : بصراحة أنا غير مستوعب هذه القصة كلها. فوجئ بحديثي الصريح فتوقف عن الأكل وكأنه تجمد ، ثم ظهر عليه الارتباك وهم بالوقوف والانصراف لكنني أقسمت عليه أن يكمل العشاء معي وحتى أزيل إحراجه قلت : أنت شاب صادق لكن القصة غريبة . وأضفت : هل أخبرت أحد قبلي ؟ أرتشف جرعة من الماء وتحدث : أخبرت أحد الشباب لكني فوجئت به يطلب مني أن أتوسط له ليعمل مع والدي ، تصور هذا الشاب طالب بالجامعة ؟! وشغلني بالفعل يريد العمل مع والدي ، جاء لي إلى الشقة أكثر من مرة وأنا أتهرب منه وأعتذر ، وأقسم له أني هارب من أبي أصلاً . كل الذين أعرفهم ويعملون مع الوالد في تجارة المخدرات غرقوا في مشاكل لا أول لها ولا أخر ، مصابون بأمراض لا حصر لها ، واحد عنده صمامات القلب تعالج بالأردن وألمانيا وبالأخير مات بالمستشفى ، لا يمر عليهم شهر واحد دون نكبة ، أو حادث ، حياتهم جحيم حقيقي . اشرب الشاي وأنصت له: تصدق يا أستاذ لي ثلاث سنوات هنا ما زرت أحد ولا أحد زارني ، ولا تحدثت مع أحد إلا بكلام عام ، واحدة دكتورة كنت أوصلها لما أختها تأخذ سيارتها ، لما بدأت أكلمها عن أهلي وألمح لها عن عمل والدي خافت وما عاد تتصل بي أوصلها .! الواحد محتاج إنسان يتكلم معه ، يفضفض ، الوحدة قاتلة ، عايش لوحدي حياتي كوابيس ووحشة ، لكن الحمد لله أن رمضان جاء لأني سأرجع البلاد .. قاطعته : ترجع عند والدك ؟ أرجع في رمضان إلى البيت من أجل أمي وأخواتي فقط ، الوالد في رمضان إنسان ثاني ، يعقد هدنة مع الله ومع خلقه . ولا يسألك أين كنت ؟! الوالد قال لي بصراحة: أنا قد تورطت في هذه التجارة وأنصحك تبتعد عنها . عجيب .! وما عرض عليك دعم تعمل لك مشروع ؟ عرض علي ملايين ، حاول معي أسافر أدرس بالخارج ، لكني حرمت فلوسه رغم أن له تجارة أخرى في قطع غيار السيارات ، لكن أمواله ملوثة ولا خير فيها . أنتهى مشواري معه ومازلت إلى الآن غير مصدق تماما للقصة التي رواها لي.! *قصة قصيرة 1. 2. 3. 4. 5.