مظاهرة حاشدة في حضرموت تطالب بالإفراج عن السياسي محمد قحطان    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    "يقظة أمن عدن تُفشل مخططًا إجراميًا... القبض على ثلاثه متهمين قاموا بهذا الأمر الخطير    شاهد :صور اليوتيوبر "جو حطاب" في حضرموت تشعل مواقع التواصل الاجتماعي    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    صراعات داخل مليشيا الحوثي: قنبلة موقوتة على وشك الانفجار    المهرة.. محتجون يطالبون بالإفراج الفوري عن القيادي قحطان    ناشطون يطالبون الجهات المعنية بضبط شاب اعتدى على فتاة امام الناس    لليوم الثالث...الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً على مديرية الخَلَق في الجوف    اللجنة الوطنية للمرأة تناقش أهمية التمكين والمشاركة السياسة للنساء مميز    رئيس الوفد الحكومي: لدينا توجيهات بعدم التعاطي مع الحوثيين إلا بالوصول إلى اتفاقية حول قحطان    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    مجلس النواب يجمد مناقشة تقرير المبيدات بعد كلمة المشاط ولقائه بقيادة وزارة الزراعة ولجنة المبيدات    ثلاث مرات في 24 ساعة: كابلات ضوئية تقطع الإنترنت في حضرموت وشبوة!    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    الصين تبقي على اسعار الفائدة الرئيسي للقروض دون تغيير    مجلس التعاون الخليجي يؤكد موقفه الداعم لجهود السلام في اليمن وفقاً للمرجعيات الثلاث مميز    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    منظمة التعاون الإسلامي تعرب عن قلقها إزاء العنف ضد الأقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    البرغوثي يرحب بقرار مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية مميز    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    وفاة محتجز في سجون الحوثيين بعد سبع سنوات من اعتقاله مميز    قيادات سياسية وحزبية وسفراء تُعزي رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح في وفاة والده    مع اقتراب الموعد.. البنك المركزي يحسم موقفه النهائي من قرار نقل البنوك إلى عدن.. ويوجه رسالة لإدارات البنوك    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    عبد الله البردوني.. الضرير الذي أبصر بعيونه اليمن    أرتيتا.. بطل غير متوج في ملاعب البريميرليج    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    تغير مفاجئ في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    الداخلية تعلن ضبط أجهزة تشويش طيران أثناء محاولة تهريبها لليمن عبر منفذ صرفيت    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود درويش.. المصلوب في رحم القضية
نشر في المنتصف يوم 04 - 11 - 2013

خير ما نستذكر من فارق الحياة، من أهل الفكر، هو أن نستعيد بعضاً ممّا قدموه بين أيدينا أيامد . شادية شقروش وجودهم بيننا، وما أنجزته عقولهم، خاصة إذا كان هذا الإرث يشكل رمزاً يُقتدى ومثلاً يحتذى في مجال إبداعهم الثقافي والأدبي.
وجدت في وفاة الشاعر الفلسطيني الكبيرمحمود درويش، لحظة للوقوف بإجلال أمام بعض أعماله الكبيرة وقصائده التي دخلت كل بيت وسكنت كل وجدان، كما أقرأت القضية الفسلطينية بأكثر من عشرين لغة، بل وأرخت لتاريخ قضية بلده وشعبه واهله، ما لم تستطع معه الأيام إدثاره في غياهب التراكمات ، وما لفتني منها: "أنا يوسف يا أبي" و"في يدي غيمة" و "مديح الظل العالي" و " لم أعتذر للبئر"، بكونها تلتقي فيها مفردات نابضة، بخاصة قصيدة أنا يوسف يا أبي ، وما تحمله هذه القصيدة، من ربط تاريخي يجمع الماضي، بكل مكوناته الأسطورية، في الذاكرة المتواترة مضموناً المتعددة رموزاً، ليحضره في واقع الأيام يرسم صورة معاناة هذا الشعب وهذه القضية بإبداع يصعب على غير الشاعر الراحل إحضاره في متون القصيد. وفي بعد آخر لهذه القصيدة، إن درويش بذكائه الفطري، يعلم مدى حضور قصة يوسف في الذاكرة الانسانية، وليس الإسلامية فحسب، لما تختزنه من بلاغة في الموضوع وإنسانية تحاكي الوجدان وتشعل الخاطر، فكانت قصيدة يوسف تأخذ أبعادها بكل المقاييس لتكون خطاباً إنسانياً كما هي القضية الفلسطينية، وكما كان يريدها ويراها درويش.
***
استمد الشعراء مادتهم من تاريخ البشرية، وتعاملوا مع موضوع يوسف بحرية، ولعل أبرز من تمثّل هذا الموضوع هو الشاعر محمود درويش حيث اتخذ من موتيفات يوسف رموزا للتعبير عن القضية الفلسطينية فتحول يوسف إلى نموذج اللاجئ، الفقير، المنبوذ.....إلخ، ولعل الصورة المشاهدية التي تتماشى مع المعطيات الراهنة هي صورة الأخوة الأعداء الذين زجوا بيوسف في عمق البئر . فكيف تمثل الشاعر الرمز الديني للتعبير عن القضية الفلسطينية؟
1 قصيدة " أنا يوسف يا أبي ":
لم تكن عبارة "أنا يوسف يا أبي" في النص "المقدس" موجهة إلى الأب، وإنما كانت موجهة إلى الإخوة ليؤكد لهم أنه هو يوسف، وبأن الله أكرمه، ولكن النص الشعري فارق النص المقدس بكلمة يا أبي، فتبدو عبارة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي"، طافحة بالشكوى، وبالمسكوت عنه في النص المقدس، وكأنه بهذه الصياغة يخبر عن شكوى يوسف لأبيه، وهي كلمات ترد على شكل حضور صريح تأخذ شكل ومضات تتسع ببريق القصة الدينية ليتوارى خلفها كلام مفارق "يؤسس شكلاً آخرَ من أشكال الحضور، يتسم بالغموض والخفاء":
" أَنا يوسفٌ يا أَبي.
يا أَبي، إخوتي لا يحبُّونني،
لا يريدونني بينهم يا أَبي.
يَعتدُون عليَّ ويرمُونني بالحصى والكلامِ
يرِيدونني أَن أَموت لكي يمدحُوني
وهم أَوصدُوا باب بيتك دوني
وهم طردوني من الحقلِ
هم سمَّمُوا عنبي يا أَبي
وهم حطَّمُوا لُعبي يا أَبي
حين مرَّ النَّسيمُ ولاعب شعرِي
غاروا وثارُوا عليَّ وثاروا عليك،
فماذا صنعتُ لهم يا أَبي؟
الفراشات حطَّتْ على كتفيَّ،
ومالت عليَّ السَّنابلُ،
والطَّيْرُ حطَّتْ على راحتيَّ
فماذا فعَلْتُ أَنا يا أَبي،
ولماذا أَنا؟
أَنتَ سمَّيتني يُوسُفًا،
وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئب;
والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي..
أبتي! هل جنَيْتُ على أَحد عندما قُلْتُ إنِّي:
رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَّمس والقمرَ، رأيتُهُم لي ساجدين؟ (ص77).
يصبح للكتابة عند محمود درويش سلطان ساعة شروعها في نقل المدرك المعلوم، وضرب من الإبداع والتأسيس، إذ يصبح ما كنّا نظنه مجرد نقل ضربا من الكتابة للتاريخ، فيتقمّص الشاعر صورة فلسطين ناطقا باسمها، ويتحول الإخوة الأعداء إلى بعض العرب و يتحول الذئب إلى الرأي العالمي الغربي أما الأب يعقوب فيتحول إلى بعض الأنظمة العربية المتبنية للقضية الفلسطينية.
***
2 قصيدة "في يدي غيمة" :
تتشكل القصيدة من عدة مقاطع تستوقفنا منها هذه المقاطع:
" أسرجوا الخيل
لا يعرفون لماذا ؟
ولكنهم أسرجوا الخيل في السهل
كان المكان معدا لمولده: تلّة
(...)ودخانا من اللازورد يؤثث هذا النهار لمسألة
لا تخص سوى الله، آذارٍ طفل
الشهور المدّلل، آذار يندف قطناً على شجر
اللوز.
(....)
آذار أرضٌ لليل السّنونو، ولامرأةٍ
تستعدّ لصرختها في البراري... وتمتدّ في
شجر السنديان.
يولد الآن طفلٌ،
وصرخته،
في شقوق المكان
افترقنا على درج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطرٌ; هل أسأت إلى إخوتي
عندما قلت إني رأيت ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أتذكّر
أسماءهم. ولا أتذكّر أيضًا طريقتهم في
الكلام... وفي خفّة الطيران "(ص1920).
تأتي هذه القصيدة غارقة في التكتّم صعبة الانقياد، "فتتشابك الملفوظات وتزدحم العبارة في جميع الاتجاهات لتنتشلها من عقال العادة وترتقي بها إلى مصف الرمز".
يتجلى الحضور المقنّع ليوسف في النص الدرويشي حين يمزج الشاعر بين آذار (مارس) شهر الخصب والنماء والولادة والطفولة، فتتجلى طفولة الطبيعة عبر هذا الشهر الذي يؤثثها ببساطه ولكن الجملة التي يتناسل منها المعنى هي (دخانا من اللازورد)، فالدخان فيه إحالة إلى الثورة، وتقتضي مسألة القبض على المعنى المبعثر العودة إلى الفاتحة النصية التي اتخذها كلازمة يعود إليها كلما احتبست في حلقه العبارة وهي " أسرجوا الخيل / لا يعرفون لماذا/ لكنهم أسرجوا الخيل في السهل "(ص19).
من عادة الفرسان أن يُسرجوا الخيل للحرب، ولكن فرسان محمود درويش لا يعرفون السبب، معنى ذلك أنهم لا يملكون الوعي التام للاستعداد للحرب، فيخلق لهم الشاعر طفلاً محارباً لذلك تأتي المقاطع الموالية مبشرة بالولادة وهي ولادة آذار طفل الشهور المدلل، فيستجمع الشاعر العبارة في مخيلته ليعلن عن ميلاد البراءة، ميلاد الطفولة، ميلاد الربيع، فتمتزج الطفولة بالطبيعة لتعلن عن ميلاد الثورة التي أحال عليها دخان اللازورد الذي أثث النهار، فالدخان الملون بألوان الربيع يشكل غيمة لذلك جاء عنوان القصيدة في يدي غيمة، حيث يكررها الشاعر في المقاطع الأخرى بقوله:
" تجرحني غيمة في يدي: لا
أريد من الأرض أكثر من هذه الأرض: رائحة الهال والقش
بين أبي والحصان
في يدي غيمة جرحتني، ولكنني
لا أريد من الشمس أكثر من
حبّة البرتقال وأكثر من
ذهب سال من كلمات الأذان "(ص2223).
تدل الغيمة على قدوم الخير والبشارة، وعقب حلول الغيمة ثورة غير واعية بشرت بميلاد الربيع/ الطفل، الذي يعتقد أن صرخته لا تلائم طيشه، ولكن في صرخته مطر وخصب ونماء، في صرخته حرية وإيذان بعهد جديد، إنها البراءة عندما تتحد بالطبيعة:
" يولد الآن طفل
وصرخته،
في شقوق المكان
(...) كانوا يقولون:
في صرختي حذر
لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطر؛ هل أسأت إلى إخوتي
عندما قلت إني رأيت ملائكة يلعبون في باحة الدار ؟ لا أتذكر
أسماءهم، ولا أتذكرأيضا طريقتهم في الكلام...، وفي خفتي الطيران "(ص2122).
يتساءل الشاعر في غمرة التفاؤل بقدوم الثورة ويتساءل عن ذنبه أيضا، فهل ذنبه في رؤيته التي جمعت بين المكر والخديعة مع الفطرة والبراءة ؟ فهل أذنب الشاعر عندما عبر عن تلك البراءة ؟ هل أساء إلى الكبار ؟ هل وجه إليهم الشتيمة عندما قال أنه رأى ملائكة يلعبون مع الذئب في باحة الدار ؟ لعمري أن هذه العبارة هي قمّة الهجاء الموجّه إلى الكبار، فيفرغ الشاعر كلمة اللعب من دلالتها الأصلية ليشحنها بدلالة رمزية، إذ الملائكة لا يلعبون مع الذئب، ولكن الطفولة البريئة تلعب بالحجارة مع الصهاينة المحتلين في باحة الدار/ فلسطين.
يبدو النفاذ إلى دواخل الشعر الدرويشي مجرد اغتصاب للكلام وإحلاله في غير مواضعه ففكرة القناع الضارب في التكتم، يفصح عنها التنافر الظاهر والتلاعب بالكلمات التي تتعاضد لتكثف حشدا من الدلالات المعبرة عن عمق القضية، فهذه الطفولة الثائرة التي عبر عنها الشاعر بآذار والطفل والملائكة لهما طريقتهما في الكلام أي في التعبير عن الثورة.
ثم يدخل الشاعر في حوار داخلي ليكشف القناع عن الإخوة الذين يحبهم والذين أناروا عتمته:
" لي إخوة آخرون
إخوة يضعون على شرفتي قمرا
إخوة ينسجون بإبرتهم معطف الأقحوان "(ص22).
ثم يعود الشاعر ليعبر عن أولئك الذين فرّوا من القضية وهم الإخوة الكبار، فهؤلاء الذين أوهموا الصغار بالثورة لم يتركوا أثرا، أما الصغار فلهم طريقتهم في الكلام، إنها لغة الحجارة التي لم يفصح عنها الشاعر، أما الكبار فلغتهم وحوارهم يبدو فيه وقع الثورة ولكنه لم يترك أثرا.
تنهض البنى المولدة للمعنى من خلال تشظي المعنى وتفتته على جسد القصيدة برمتها، لأنها تمتلك مقدرة فائقة على الزيغ والتكتم، فتتمظهر وفق أشكال عديدة من خلال تغيّر الملفوظات لتوحي بالخروج من معنى إلى آخر، ولكنّها مراوغة من الشاعر، للتعبير عن أطفال الحجارة الذين واجهوا العدو الصهيوني بثورة خرقت أفق توقع الكبار، فلهم طريقتهم في الكلام وهو التعبير بالحجارة، فاتحدت البراءة بالطبيعة لتخلق وليمة في فصل الصيف الذي هو فصل الحرارة والقحط، فصرخة الطفل (آذار) المشحونة بالمطر كفيلة بان تخلق حقولا من القمح :
" سبع سنابل تكفي لمائدة الصيف
سبع سنابل بين يدي، وفي كل سنبلة
ينبت الحقل حقلا من القمح، ... "(ص21).
يمزج الشاعر بين آيات القرآن فيُرَهَّن الآية لصالحه، فتصبح الآية آيته، ويمزج بين قوله تعالى"في كل سنبلة مئة حبة" وحلم الملك في سورة يوسف (سبع سنابل) ليحيل على قصة يوسف لكنها إحالة خافتة، والمشهد المقابل لهذا المقطع هو مشهد الحصاد في فصل الصيف، فما الذي حصده هؤلاء الكبار الذين اسرجوا خيولهم، و سنّوا الشرائع لا ليقيموا الثورة، وإنما أسرجوا خيولهم لكي يرقصوا رقصة الخيل وقت المحنة، يقول الشاعر فيهم :
" الشرائع ... سكوا حديد السيوف
محاريث. لن يصلح السيف ما
أفسد الصيف قالوا. وصلوا
طويلا، وغنوا مدائحهم للطبيعة
لكنهم أسرجوا الخيل
كي يرقصوا رقصة الخيل
في فضة الليل."(ص23).
تتمرد اللغة الشعرية على الحصار، وتظل محتفظة بمعاني شتى، ففي لحظة المحنة يسرج الكبار خيولهم ويوهمون الصغار بالثورة؛ ولكنهم يلتقون من أجل الرقص وسنّ الشرائع، بهذه الصيغة أراد محمود درويش أن يوجه النقد اللاذع للحكام الذين تبنّوا القضية الفلسطينية، ولكن القضية والثورة تحمَّلَها الطفل الفلسطيني الذي استطاع أن يقف في وجه الأعداء، بالحجارة التي هي عنصر من عناصر الطبيعة فتحول سيف الكبار عن وظيفته الأصلية إلى وظيفة الحرث لأنه لم يستعمل: قالوا وصلوا طويلا وغنوا مدائحهم للطبيعة، ولكن الصلاة والغناء والكلام لا يجدي ساعة الجد، لذلك يرى الشاعر أن الطفولة التي مثّل له بالربيع هي التي استطاعت أن تعبر عن الثورة ضد الظلم، وأثثت سماء فلسطين بدخان وردي أقبلت من خلاله غيمة المطر، الذي سيطفئ لهيب النار المشتعلة في فلسطين وعلى يد الطفل سيتم الخلاص مثلما كان الخلاص على يد يوسف، أما الكبار/العرب فإنهم لا يستطيعون التعبير عن الثورة حتى لو أرادوا، لأنهم لا يستطيعون اللعب مع الذئب مثل ما فعل الصغار فمن يؤول هذه الرؤيا؟
تتغير رؤيا يوسف/ الشاعر، وهي رؤية مشهدية: فالملائكة/الطفولة، تلعب مع ذئاب الغدر لعبة الحجارة، وهي طريقة في الكلام للتعبير عن الموقف الرافض.
يمتزج موقف الشاعر مع موقف الطفولة لتدعيم الرفض، والإعلاء من قيمة هؤلاء الذين أطلق عليهم الإخوة الآخرون ، وهم أطفال الحجارة لأنهم تركوا الأثر، والتاريخ يشهد، في حين لم يترك الكبار الذين يملكون وسائل الثورة أي أثر.
***
3 قصيدته "مديح الظل العالي":
اتخذ الشعراء المعاصرون في قصائد عديدة من بئر يوسف أو سجنه رمزا للظلم والظلام، أو للحرب والحصار والمجازر، وهي تعبر عن الموت الموت والدمار.
يستلهم كل شاعر الرموز الدينية بطريقته الخاصة فيمتصها ويعيد بعثها من جديد في حلّة مغايرة فكيف عبّر محمود درويش بهذا الرمز
لعل أكثر الشعراء استحضارا للبئر هو محمود درويش، كما أنه أكثر الشعراء استحضارا لقصة يوسف لذلك نجده في " مديح الظل العالي" يعرّي الواقع ويكشف القناع عن زيف الخطابات العربية وسياسة الحكام، ويتمثل وحدة الشعب الفلسطيني في خضم الحرب، عايش الشاعر أحداث المجازر الرهيبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، فانفعل بحسه وأعصابه فكانت هذه القصيدة بمنزلة الخطاب السياسي للمجلس الفلسطيني الذي انعقد في دمشق في بداية الثمانينات لذلك يوجه الشاعر النداء للفلسطيني كي يقرر مصيره بنفسه فيقول:
"رموك في بئر وقالوا: لا تسلم
وأطلت حربك يا ابن أمي
ألف عام، ألف عام، ألف عام، في النهار
فأنكروك لأنهم لا يعرفون
سوى الخطابة والفرار
هم يسلخون الآن جلدك
فاحذر ملامحهم وغمدك
كم كنت وحدك يا ابن أمي
يا ابن أكثر من أب
(...)
سقط القناع عن القناع عن القناع
لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء
واضرب عدوك ...لا مفر
(...)
واضرب عدوك بي ... فأنت الآن حر"(ص 223637).
عبر الشاعر عن مجازر صبرا وشتيلا من خلال استحضاره العديد من الرموز، في هذه القصيدة المطولة، فاستوقفنا موضوع البئر كرمز للحصار وتضييق الخناق، فبات الفلسطيني وحده في هذا الضيق وسقط القناع عن الجميع، عن الإخوة والأصدقاء، فأمام مجازر صبرا وشاتيلا التي استهدفت المخيمين والمناطق السكنية المحيطة بهما (...) على يد جماعة متطرفة تابعة لميليشيات الجبهة اللبنانية اليمينية بتوجيه من المسؤولين في الجيش الإسرائيلي، الذين وفروا العناية والتغطية الكافيتين لهذه العملية الإرهابية، وبذلك كان سقوط مئات القتلى من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وكانت السياسة الإسرائيلية مكشوفة للعالم بأسره.
يصل صوت الشاعر الرافض إلى أسماع المقاومين في بيروت وفلسطين، ويناديهم ليبصروا الحقيقة المرّة، فهم يشبهون يوسف، ولكنّهم وسط بئر من النار والدمار، فلا يد تنتشلهم للخروج من هذه الهاوية، وعلى الفلسطيني أن يقاوم ويضرب عدوه كي يُبعث من جديد، ولا ينتظر المساعدة من أحد؛ لأن القناع أصبح مكشوفا عن الإخوة، الذين أصبحوا أعداء بصمتهم وتخاذلهم وعجزهم عن نصرة إخوتهم من خلال ضعف التنسيق في مواجهة العدوان الإسرائيلي، كما سقط قناع الدول التي تدّعي صداقتها للعرب، وسقط القناع عن الأطماع الإسرائيلية:
" كسروك، كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبّأوك وأنشأوا لديك جيشا
حطوك في جحر ... وقالوا لا تسلم
ورموك في بئر ... وقالوا لا تسلم" (ص 2122).
يحيل الإلقاء في البئر على النسيان والتناسي، لذلك يستنهض الشاعر همم المقاومين كي يزيدهم نشاطا ويقوّي عزائمهم، بعدم الالتفات إلى أي مُعين، لأن الإخوة والأصدقاء يسبحون في هيولى الزيف، فالصّمت أمام الحصار الذي ضربته إسرائيل على بيروت من أجل حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في الانتماء والحرية، ثم تنفيذ المجزرة، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، وكشفت المستور.
***
4 قصيدة " لم أعتذر للبئر":
يحضر محمود درويش موضوع البئر من عتبة العنوان ويُكرّر هذا الرمز اللغوي خمس مرات ليحيل به الشاعر على فلسطين / الوطن المحتل يقول:
" لم أعتذر للبئر حين مررت بالبئر
استعرت من الصنوبرة العتيقة غيمة
عصرتها كالبرتقالة، وانتظرت غزالة
بيضاء أسطورية، وأمرت قلبي بالتريث
كن حياديا كأنك لست مني ! هاهنا"(ص 33).
يحيل استحضار البئر ضمنيا على ظمأ الشاعر، لذلك ينشد الماء من خلال استحضاره دال الغيمة التي عصرها كالبرتقالة، وكأن سماءه افتقرت للغيوم وذاته تصحرت، لذلك يخرج من الزمان مرتقبا غزالة أسطورية كي تتوغل به في دهاليز النفس المظلمة، ليخاطب قلبه متخذا من البئر معادلا موضوعيا يبث له الشكوى والحنين:
" وأمرت قلبي بالتريث:
كن حياديا كأنك لست مني ! هاهنا
وقف الرعاة الطيبون على الهواء وطوروا
النيات ثم استدرجوا حجل الجبال إلى
الفخاخ، وهاهنا أسرجت للطيران نحو
كواكبي فرسا وطرت، وهاهنا قالت
لي العرافة: احذر شارع الإسفلت
والعربات وامشي على زفيرك هاهنا" (ص 33).
يعلن الشاعر أنه أمام هذا البئر وقف الرعاة الطيبون على الهواء وطوّروا النيات وكأنه يسترجع النص الديني بتمطيطه، فالتاريخ يعيد نفسه والأنماط تتكرر وتتحوّل، وما فعله إخوة يوسف فعله الأحفاد عندما طوروا النيات واستدرجوا الشعب الفلسطيني إلى مصيدتهم، فيصبح:
تمتزج الأنا الشاعرة بالأنا الجمعية وتمشي على زفيرها، فكل الأماكن في الوطن ملغّمة، أصبح الوطن فخا، لذلك استعار الشاعر فرسا أسطوريا وطار نحو كواكبه، ولعل هذا الخروج من الزمان فيه إحالة على الواقع المرّ، الذي يعيشه الشاعر رفقة شعبه، ولعل طيران الشاعر يجسد هروبه إلى ذاته المنكسرة التي تتحول إلى قبر ثم إلى بئر، فكأنه بذلك يصارع ذاته، لذلك جعل من البئر رمزا وأخرجه من تكوينه الأرضي والمائي إلى تكوين "معرفي ذي دلالة بالموت والحياة، والفكر والصمت والغضب، وما يمكن أن يكون دالا على ماضي له حياة، وعلى فعل تجري خفاياه"، في عمق فلسطين بعد التنكيل بشعبها.
جسّد مصارعة الذات بالانتصار عليها عندما كسر خرافة الطيران، ثم دار حول البئر المجسّد لعمق الذات، فيَصّدّع صوت الأنا القابعة في الظلمات ليعلن الشاعر:
" أرخيت ظلي وانتظرت، اخترت أصغر
صخرة وسهرت، كسرت الخرافة وانكسرت
ودرت حول البئر حتى طرت من نفسي
إلى ما ليس منها، صاح بي صوت
عميق: ليس هذا القبر قبرك، فاعتذرت.
قرأت آيات من الذكر الحكيم وقلت
للمجهول في البئر: السلام عليك يوم
قتلت في أرض السلام، ويوم تصعد
من ظلام البئر حيا !" (ص 34).
حاول الشاعر تكسير خرافة انتظار المنقذ والمخلص ومزج بين يوسف عليه السلام والمسيح وهما رمزا الخلاص، وإذا كان يوسف قد خلص شعبه من المجاعة، فإن المسيح مازال خلاصُه مُرجَئًا في خاتمة الحياة، لذلك يُرَهَّن الشاعر الآية لصالحه، فيُدخل فيها دال البئر ليحيلنا مباشرة على دعوات الأنبياء الذين امتُحنوا بالبئر والقتل، وهي إحالة من الشاعر على ذاته والذات الجمعية للنهوض من قبرهم، الذي قَبًرهُم فيه العدو لتصبح فلسطين أرض السلام مهد الانبعاث، ومهد الأنبياء ومهدا لثورة والثوار، ففيها رُميَ يوسف في البئر وفيها رفع الله المسيح إليه، ليعود مُخَلَّصا للأرض من كل رجس.
يحاول الشاعر في هذه القصيدة أن يستنهض الهمم ويوقد العزائم من أجل الثورة ضد الأوضاع المتردية.
* ناقدة جزائرية وأستاذة السيميائيات وتحليل الخطاب في جامعة تبسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.