لم تكن أم محمد تعلم وهي تودع الفصول الدراسية قبل ما يزيد عن ربع قرن؛ أنها ستعود إليها على هذا النحو التراجيدي المؤلم.. لقد دلفت إلى هذه الغرفة الضيقة، وكأنها تدخل قبرا موحشا يتنازعها بين شدقية شبه حياة وشبه موت.. هي ليست ميتة حتى تقبل به نهاية محتومة.. وليست حية بما فيه الكفاية حتى تعلن عن رفضها له.. وما أقسى الحياة حين تفقد هويتها فاصلا رفيعا بين الحياة والقبر. كان فصل الدراسة في صباها واحة مرح، وملتقى فرح، تتقاسم فيه مع أترابها المتيسّر من العلم، والمتاح من شقاوات المدرسة، تودّعه وهي تحنُّ إليه، ولا تذهب منه حتى تعقد موعدا للحضور إليه مع زميلاتها في غد قادم يكون لهن فيه شأن من براءات العمر، وطُرَفِ الحياة.. لكنّه اليوم غرفة ضيقة كئيبة، تتقاسم فيه مع ابنتيها ومع جيران إجباريين النهارات المملة المثقلة بالترقب والحذر والمساءات الطافحة بكل معاني الشتات والضياع. تبدأ مأساة أم محمد بوفاة زوجها في مدينة عدن.. هي مأساة ثقيلة عليها وعلى ابنتها ذات الثمانية عشر ربيعا، وعلى ابنتها الأخرى التي تزوجت منذ عامين، وأصبح زواجها مصدر قلق للأسرة الصغيرة لما تخلله من مشاكل شتى.. ومع هذا فقد كان عزاء أم محمد في وفاة عائلها الوحيد دفء ببيتها الصغير الذي توّج بناؤه في أحد أزقة مدينة عدن، تاريخا من الكفاح والمكابدة مع الراحل الفقيد.. كانت تجد عزائها في كل حوائط البيت وزواياه، وكّلما انتابتها المخاوف من غد مجهول، يُخيّل إليها أن أبواب هذا العش الصغير ونوافذه تقول لها: لا تيأسي، ولا تسلمي، فأمامك مهمة شاقة في تأهيل ابنتك الباقية لديك حتى تطير إلى عش الزوجية.. لا وقت لديك للمخاوف. غير أنَّ المأساة تناسلت على نحو مروّع.. عادت ابنتها المتزوجة أو التي كانت متزوجة إليها بعد أن طلقها زوجها، وليس معها غير ما يستر جسدها من الثياب.. وما دون ذلك فلا شيء يذكر.. ولم تكد أم محمد تفيق من صدمتها المزلزلة بطلاق ابنتها؛ حتى قرعت الحربُ طبولَها في مدينة عدن، وحلَّت المحرقة بالمدينة المنكوبة.. ووصلت ألسنة اللهب إلى ذلك العش الصغير فأحالتْها رمادا.. أو بقايا رماد.. ولم يكن لدى أم محمد وابنتيها المكلومتين خيار آخر سوى النزوح، والهروب من ويلات هذه الحرب.. إلى أين؟؟ سؤال صارخ لا يعلمن له إجابة.. المهم أن يخرجن من لظى هذا التنور المحرق وكفى.. وفي مدرسة عتيقة في أحد أرياف مديريّة الشمايتين في منطقة الحجرية ألقينَ عصا الترحال.. أرملةً وشريدتين.. ثالوث حزْن جارف يتقاسم بؤسَ هذا الفصل.. ويعيش في هذا العالم الضيق مع آخرين... وحّدهم المصير، وجمعتهم المأساة في هذه الغرفة الموحشة التي تجثم في زواياها أسراب طائرة وزاحفة من الحشرات والحسرات. لاشيء في حياة هذه الأسرة غير الحزن، ووطن يمتدُّ في الذاكرة روايةً من الخيبات والمآسي.. الفقر عنوانها.. والحرب أهم فصل فيها.. ولولا هذه الأيدي الرحيمة التي تمتد إليها بين الحين والآخر بما يسدُّ الرمق لكانت النهاية الحتمية خاتمة المطاف.. الموت جوعا. وبصوت مفجوع تسرد أم محمد طرفا من مأساتها قائلة: لم أكن أتوقّع من الحياة كلَّ هذه القسوة وكل هذه الخسارات: موت عائل.. وخراب دار.. ومكابدة الحياة من أجل بقائها هي وابنتيها طرفي عالمها الجديد بقاءً مقرفا يتناسل فواجع ومهانات ذل.. ثم هذا الشتات الممتدُّ جرحا يزداد اتساعا في وطن مذبوح يتقاسم لحم أبنائه مليشيات الحوثي النازيون الجدد، الذين لا يأبهون لأنين الثكالى، وصراخ المكلومين.. الجديد في سلسة الوجع هذه أنّ أم محمد تعاني من أمراض وعلل شتى . أحالت ما تبقى من رمق لديها إلى جمرة تتقد وجعاً، وجعلتها تتمنى الموت ولا تتمناه في آن.. فكيف لها أن لا تتمناه وصرير الألم ينخر جسمه المتعب؟ وكيف لها أن تتمناه وهي ترى ابنتيها وحيدتين إلا منها.. عاريتين إلا من حبها.. فقيرتين إلى من حنانها ورعايتها؟؟ وقبل ذلك كله وبعده كيف لها أن تسعى إلى طبيب؟ وهي بالكاد تؤمّن قوت يوم، لها ولرفيقتيها المحطّمتين.. وعن العودة إلى مدينة عدن؛ تقول أم محمد بعد دموع مصحوبة بزفرة حارة: كيف أعود وإلى أين؟ وقد أصبح منزلنا الصغير ركاما، ونحن في انتظار جهود الإغاثة، التي نسمع عنها بين الحين والآخر في ملتقيات النازحين ، وليس لها في الواقع أي وجود. وتضيف: لقد أصبح هذا الفصل كل شيء في حياتنا.. وأصبحت آمالنا متواضعة بسيطة.. لا تزيد عن طرقات المحسنين على باب هذا الفصل بعد أن كنا في منزلنا مستورين، ولولا هذه الآلام التي تجبرني على كسر جدار الصمت؛ لرضيت بهذا المصير الحزين.. رضاء العاجز المستسلم.. مأساة هذه المغدورة، وأمثالها من النازحين، تتشكّل يوما عن يوم تحت سنابك الحرب الملعونة وطناً كسيرا.. نازفا.. يصرف الأيام مملة في مسيره المحزون.. الممتد من الموتِ.. إلى الموت...