في مثل هذا اليوم من ثماني سنوات رحل فارس الصحافة اليمنية يحيى علاو ويصدق في رحيله قول الشاعر: وما كان قيسٌ هَلْكُهُ هلكَ واحدٍ ولكنّهُ بنيانُ قومٍ تصدّعا رحلَ علاو.. تاركا فرسانٍ الميدان يتامى وغرباء لا يجدون من يربت على أكتافهم، ولا من يشنّف آذانهم بعد كل معلومة قيمة يجيبون عنها بتلك العبارة العلاوية الجميلة (كلاااام سليييم). كان علاو إنسانًا بسيطًا.. ينتمي إلى تراب الوطن بعفويته وتلقائيته.. لا يتكلّف بالتأنُّق والتمظهر.. يمشي بين الناس واحدا منهم، بل ربما وُجد في بعض المشاهد التي قدّمها من جمهوره من هو أجمل منه هنداما وأكثر تأنُّقًا، وقد لا يتمّيز علاو بين جمهوره بغير المكرفون، وبنبرات صوتٍ كان بسيطا وعفويا وتلقائيا.. لكنَّ علاو كان قبل ذلك كلّه وبعده إنساناً متميّزا لأنه كان يدرك ما شروط التميّز الحقيقية.. ومن أين تُؤخذ.. وكان علاو مثقفا من طراز رفيع.. ظهر ذلك في ثنايا كل برامجه التي قدّمها وعلى وجه الخصوص برنامج فرسان الميدان.. حيث كان يجيد انتقاء المعلومات التي سيقدّمها، ثم يجيد تبسيطها وتقديمها، ثم يجيد التأكيد عليها وكل ذلك بأسلوب يجمع بين موضوعية المعلومة وبين التشويق والإثارة والترويح.. وفي خلال ساعة واحدة كان علاو يقدّم للمشاهد طبقا متنوعا من المعلومات الحياتية المهمّة والمتنوعة يحضر فيها الفقه الإسلامي، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، ويحضر فيها الوطن أرضا وإنسانا، وتحضر فيها الطرافة والإضحاك الهادف، ويحضر فيها علاو وكأنه حلم منتظر للمشاهد يظل يتحيّنه على لهفة وشوق حتى إذا حضر.. مرت الدقائق عجلى، فلا يدري إلا وعلاو يهتف بنبرته المحببة (نرجو أن تكونوا قد استمتعتم). وكان علاو سائحاً عاشقا للأرض والتاريخ.. أطلق لفكره ولقدميه العنان في طول اليمن وعرضها، وأثبت أنَّ الإعلامي الناجح هو ذلك الذي يترك البرامج المعلبة التي تنتجها المكاتب المكيفة، ثم ينزل إلى الناس تلمّساً لهمومهم، ومشاركة لهم في أفراحهم وأتراحهم، وصناعة المنجز الإعلامي معهم، ولذا كان فرسان الميدان سياحة جميلة للمشاهد أولا ولعلاو ثانيًا، ومن خلاله وقف المشاهد على معظم المواقع الأثرية والتاريخية لليمن، وتعرّف على التنوع الثري في العادات والتقاليد اليمنية، وعلى كثيرا من الصناعات والحرف اليديوية التي حاول علاو تشجيعها على الاستمرار متحدّيًا كل بوادر التغييب والتهميش. نزل علاو إلى الناس، واختلط بهم، وأشركهم في صناعة المادة الإعلامية.. في الأسواق والأعراس والمساجد والطرقات، وحتى في سهول المراعي وأماكن الصناعات التقليدية، وفي كلٍّ كان يقدّم خلفية مهمة تتضافر والصورة في تكثيف المعلومة وتثبيتها. كان علاو رحيما صادقاً.. يعرض نفسه كما هو.. بعيدا عن المواقف التراجيدية السخيفة، أو الإضحاك المستفز، ولذلك كان وبرنامجه الجميل من رحمات الشهر الكريم، وقد تجلّت إنسانيته في كثير من الحلقات حين كان يقدّم سؤالا ما يعجز عن الإجابة عليه أبناء المدارس وطلبة الجامعات، ثم يجيب عنه راع بسيط في عرض جبل، أو عامل منهك، أو عجوز فقيرة وحيدة.. وبقليل من التأمل كان المشاهد يدرك أنَّ المعلومة سرِّبت إلى هؤلاء البسطاء قبل تصويرهم.. فيبتسم ابتسامة رضى.. لقد نجح علاو في تقديم معلومة.. وفي إدخال السرور على قلب عاثر.. وكان علاو إعلاميًا محترفا يجيد تطوير الذات.. ولا يؤمن بطرفٍ للنجاح.. والمتأمل في برنامجه فرسان الميدان يلحظ ذلك التطور على مدى سنواته المتتالية، كان جديدا في كل عام فكرة، وأسلوبا، يصنع من الليمونة المالحة عصيرا لذيذا كما يقولون، وقد أثبت أنه أكثر البرامج التلفزيونية جماهيرية، ولو أنَّ علاو حي بيننا اليوم لما ظهرت تلك البرامج التافهة التي تولّت كبرها بعض القنوات بأفكار ممجوجة، وإثارات سخيفة لا طائل منهما، وتشهير بالجوعى والمرضى والعراة والمحتاجين.. والأهم من ذلك كله قتل وقت المشاهد وتبديده بما لا ينفع ولا يسمن ولا يغني من جوع. رحم الله يحيى علاو.. كم نحن بحاجة لكلامه السليم في زمن صار فيه السلام كليمًا.. - الصحوة نت