التفت إليّ محدثي بعينين برّاقتين ثم صمت لحظات.. أحسست أنه يريد أن يقول لي شيئا مهما، فأظهرت له مزيدا من الاهتمام.. وبنبرات واثقة راح يسألني: هل تعلم ما أسوأ شيء في هذا الفيروس التائه كورونا؟ نظرت إليه باستغراب.. ثم هززت رأسي مجيبا بالنفي.. فلم أفهم عمَ يسأل تحديدا.. وبثقة أقوى ونبرات أوضح راح يقول لي: إن أسوأ ما في هذا الفيروس الفتاك هو أنه ينتقي ضحاياه من مشاهير الناس.. ثم أردف: اليوم على سبيل المثال مات أديب تهامة الشهير عبدالله خادم العمري بعد أن قضى أياما في ضيافة كورونا. جلت ببصري في أرجاء المكان وأنا أحصي ضحايا كثر ممن أعرفهم في بلدتي النائية سقطوا بمرض له ذات أعراض كورونا لكن يد الكشف الطبي لم تصل إليهم، كما أن الإعلام لم يسمع بهم، وإذا سمع بهم فلن يكونوا غير أرقام باردة لا تثير شفقة ولا تستدعي اهتماما.. التفتُّ إلى محدثي ورحت أنقض فكرته هذه بأسئلة متتابعة تتضمن أسماء لأشخاص معروفين لدي ولديه غيبتهم كورونا: وهل كان عمر فتيني مشهورا؟ وهل كان عايش جيلاني ومحمد سرور ووليد مسعد وفتيني عوض، و... ،و..، و.. مشهورين.. يا صاحبي إن مقابل الشخص المشهور الذي وصلك خبر موته اليوم عشرات الضحايا من البسطاء المغمورين، لكن وسائل الإعلام المنشغلة بأحداث الصراع لا تلتفت إلى صرعى هذه الحرب الخفية التي تكيل ضحاياها إلى المقابر بكرم باذخ... وكمن تذكر شيئا سألته باهتمام: من هو الأديب التهامي الشهير، الذي مات اليوم بهذا الوباء؟ فأجاب بصوت حزين: إنه الأستاذ عبدالله خادم العمري.. ولتأكيد الخبر المفجع أردف: رئيس منتدى العمري في بيت الفقيه.. لحظات مرت يلفها الصمت والأسى وأنا أتذكر زيارتي الوحيدة لهذا المنتدى في ملتقاه الأسبوعي، تحفُّه وجوه أدبية وفنية معروفة من تهامة ومن غيرها، والأستاذ العمري بينهم يدير النقاش بوقار واتزان.. ثم تذكرت لقائي بالأستاذ العمري في تعز وصنعاء وفي فعاليات ثقافية كثر.. وتذكرت نشاطه في البحث التراثي وما أنجز من مؤلفات في هذا الصدد فأحسست أن تهامة اليوم فقدت واحدا من باحثيها المخلصين وأدبائها المرموقين. ولد الأستاذ العمري في مدينة بيت الفقيه عام 1950 وعقب تخرجه الدراسي عمل معلما فباحثا في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وفي جامعة الحديدة، وخلال مسيرته العلمية أنجز عددا من المؤلفات منها في الشعر: هموم وسباعيات، القصيدة العمرية في السيرة النبوية، أطفال الحجارة، مهديات إلى النوابغ، المجموعة الشعرية الكاملة، ومنها في المسرح: ريش على مافيش، ذو الوجهين، صراع مع الزمن، حزب الوطن، ومنها في الروايات والقصص الشعبي: ليلى وزكي، السمهري والرعود، ومنها في البحث اللغوي والتاريخي: اللهجة التهامية في الأمثال اليمنية، الثقافة الشعبية، النهضة الأدبية في العهد العثماني، الشعر الشعبي المغنّى في تهامة، بيت الفقيه الإنسان والتاريخ، زبيد والمسندون اليمنيون، العادات والتقاليد في تهامة. كما كتب عن عدد من البيوت العلمية في مدن تهامية مختلفة، وحقق عددا من الكتب التراثية في فنون متنوعة. رحم الله الأديب العمري فقد فقدت تهامة واليمن عموما بموته واحدا من الباحثين المدققعين وأديبا شاعرا ، عاش عمره مفتونا بسحر الكلمة وتجلياتها في فضاءاتها المختلفة.