الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    شاهد.. أول ظهور للفنان الكويتي عبد الله الرويشد في ألمانيا بعد تماثله للشفاء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    شاهد الصور الأولية من الانفجارات التي هزت مارب.. هجوم بصواريخ باليستية وطيران مسير    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثمانية في تجربة طه الجند الشعرية
نشر في التغيير يوم 05 - 12 - 2014


(1)
ما هو الشعر؟
الشعر هو التعبير الجمالي عن المشاعر باللغة والكلام وتتضاعف الشعرية بقدر ما يكتسب الشعر خصيصة الإيحاء مبتعدا عن البوح والوصف.
المشاعر رفيقة التجارب التي لا تنفك عنها. واللغة تنقل التجربة -عبر الكلام- باهتة وباردة، وأن كانت أحياناً تحاول وصف المشاعر التي لها عالمها الخاص.. بعيداً هناك.. في أعماق الإنسان، حيث يقيم لاوعيه وحيث يستقر الضمير وكل المشاعر والرغبات المكبوتة.
هناك حيث الكل ملتصق بالروح التي لا يراها أحد، ولا يعرف كنهها أحد.
(2)
ما الذي يميز الشاعر؟
الإحساس والحساسية الشديدة تجعل الشاعر يعيش المشاعر بدلاً من أن يدفنها في جب اللاوعي- هي التي تميز روح الشعر. وكل من يتذوق الشعر ويستعذبه..ويبحث عنه، ويستمتع به وينفعل له، يمتلك تلك الروح.. روح الشعر.. وان لم يمتلك موهبة الشاعر، وكذلك الحال في كل فن.
الشاعر وحده هو الذي يستطيع قولبة المشاعر، والإفصاح عنها، وإيصالها في الكلمات المخاتلة العاجزة، في حد ذاتها، عن التعبير عنها لولا موهبة الشاعر. لذلك نكثر الإشارة عند الحديث عن الشعر، إلى "الذي لا أحد يراه"، والى «المجاهل التي تقطعها القصيدة.. مجاهل لا يمكن إدراكها» محمد بنيس.

(3)
ماذا عن الفن اجمالا؟
روح الشعر عند ذي الموهبة قد تشتغل على الفخار، أو الأحجار أو النحاس، أو الألوان، أو الخيوط، أو الأوتار وآلات الموسيقى، أو الأصوات، أو الحركات، أو الكلمات. إنها منتجة الفن ومبدعته.
(4)
ما هو الفضاء الشعري؟
الحروف القليلة العدد تصنع أكواناً من النصوص، وسماوات من التراكيب، يعلوها الفضاء الشعري، الذي لا يخترقه إلا الشعراء. وهو فضا ء واسع شاسع وقد يكون الفرق بين شاعر وشاعر مابين الثرى والثريا. واتخيل في هذا الفضاء خلوة حميمة للشعراء العظام هي المكان الأعلى والهدف الأقصى.
وفي الفضاء الشعري يجد كل إحساس للشاعر تركيباً يناظره، ويختص به وحده.. تماماً كما لا يشبه أحدٌ أحدا. تتنزل الكلمات على المشاعر بعد أن تتأملها وتنصت إليها في عالم الصمت السحري. حيث الغموض والكثافة التي تعبرها القصيدة لتستوي سواداً على بياض أو أنشودة تلقى أو تُغنى.
(5)
كيف تتخلق القصيدة؟
القصيدة «باعتبارها عملا إبداعيا لا يمكن تصورها إلا على أنها انبثاق، لأنها في انبعاثها من الشاعر إنما تصدر كاملة البنية مستقلة التكوين، وهي بالنسبة له رسالة جميلة تتواكب عناصرها الصوتية واللفظية والتركيبية والإيقاعية متآنية، فهو يعالج كل هذه المستويات دفعة واحدة وبطريقة مركبة، بحيث يبدو العمل الشعري في النهاية وليد زمن إبداعي واحد. واذا كان الشاعر العظيم الأعشى، صناجة العرب، قد قال انه ينظم القصيدة في عام ويهذبها في عام، فما ذلك إلا لان البيت الواحد في القصيدة الكلاسيكية يكاد يكون قصيدة مستقلة. وطبقا للدكتورة ريتا عوض في مقالتها القيمة "البنية الصورية في الشعر الجاهلي":
"لعل من أبرز تعريفات الصورة الشعرية في العصر الحديث تعريف الشاعر والناقد الإنجليزي عزرا باوند لها بما هي تلك التي تمثل مركباً فكرياً وعاطفياً في لحظة من الزمن. فقدم مفهوماً للشكل الشعري مناقضاً للأسلوب السردي في الشعر الذي دعا إليه ليسنج، فأصبحت القصيدة بالنسبة إلى باوند تدرك إدراكاً لحظياً، أي إدراكاً غير متعاقب في الزمان، وهو ما سمي في النقد الحديث بالتشكل المكاني للغة الشعرية".
ثم تضيف قائلة: " تميزت القصيدة العربية القديمة بإلغاء البعد الزمني وتأكيد مكانية النص الشعري، وهو ما حولها إلى أجزاء متجاورة تشاهد معاً في لحظة واحدة من الزمان، على حد تعبير عزرا باوند في تعريفه للصورة الشعرية الحديثة، ولهذا كانت القصيدة العربية القديمة مجموعة من المشاهد المتجاورة التي يمكن تبديل مواقعها دون أن يختل البناء العام؛ أي أنها حادثة معاً وتشاهد معاً، فالتبديل هنا لا يعود تقديماً ولا تأخيراً، لأن التقديم والتأخير يفترضان التسلسل الزمني وهما أمران لا تدعيهما القصيدة العربية الممتدة أفقيا في المكان ". وتقول: " ان المشهد الواحد يتكون من مجموعة متجاورة من الصور التي يستقل كل منها في بيت شعري محدد كوسيلة لفصله عن الصورة المجاورة المستقلة في البيت الشعري المجاور له . ويتأكد الاتجاه إلى تحقيق استقلالية البيت الشعري في ان امتداد المعنى في أكثر من بيت، وهو ما يسمى بالتضمين، عده العرب عيبا من عيوب النظم . وكانت القافية وسيلة وصل وفصل في آن معا .
واعتقد انه قد آن الأوان لمغادرة مراهقة المراء حول الشكل، فقد يكون في بيت من الشعر الكلاسيكي من الشعر أكثر مما في عشرات القصائد الكلاسيكية أو القصائد الحديثة، كما قد يكون في نص نثري شعر قلما يوجد في القصائد العصماء. ولم يكن عبثا أن ينفل لنا التاريخ عن شعراء عظام أنهم تمنوا لو أن بيتا معينا من الشعر كان لهم بدلا عن شعرهم كله.

ولكن إذا كان الزمن الإبداعي زمنا مضغوطا، فإن زمن التلقي «زمن ممتد، والأول إذا كان زمن إجمال تجميعي، فالتلقي زمن تجميعي تحليلي، وإذا كان الشاعر يتعامل مع القصيدة على النحو المركب، فإن المتلقي يتعامل معها بوجهيها من التركيب والتحليل ، يتعامل معها مركبة عندما يقرؤها أو يسمعها لأول مرة، ويحللها عندما يعمل في دراستها ونقدها.

(6) ما هي أهم مميزات الشاعر المجيد؟
الشعر سواء كان كلاسيكيا ملتزما بالإيقاع (الوزن ) والقافية أو متحررا منهما تظل فرادة الأسلوب العلامة المميزة للشاعر المتمكن، على العكس ممن لم يجد صوته الخاص وأسلوبه المميز بغض النظر عن مكانته الإعلامية بين الشعراء، إذ أن الإعلام قد يصنع شاعرا ولكنه لا يصنع الشعر.

فأي شخص تعرف إلى شعر البردوني أو الزبيري قادر على نسبة أي نص لكل منهما إلى صاحبه ولو لم يسبق له الإطلاع بأي شكل على ذلك النص.

وهناك شعراء كثر ونصوص أكثر، وكثير منها جميل ولكنها تفتقر إلى الأسلوب الذي يمنح الشاعر شخصيته المتفردة، وهو ما دفع الشاعر محمود درويش إلى القول بأن الشعراء المحدثين ينسجون على منوال واحد وكأنهم يكتبون على هامش قصيدة واحدة".
والحق اني لم ار لدى من يدعون قصيدة النثر إلا قلة نادرة لديها إنتاج ميزها بأسلوب خاص بها، ذلك أن التميز بأسلوب هو اهم العلامات الدالة على الشاعر الحقيقي، وهؤلاء لا يعجزهم العمودي بشروطه الفنبة الصعبة، ويقدمون منه نمادح راقية. وهم بعد على اطلاع جيد بتراث الشعر العربي عبر العصور.

وقد قمت بتحارب اعرض عليكم إحداها قمت فيها بتشكيل النصين الذين أوردتهما أدناه من سطور من ثمانية نصوص لثمانية شعراء عرفوا بهذا الضرب من الإنشاء، جميعهم من اليمن، إضافة إلى سطور من نصوص لشعراء كبار مزجتها جميعا ببعضها في النص. أما الثاني فهو مشكل من أسطر مأخوذة من نصوص لشعراء مشهورين، وقد جمعتها من جريدة الثقافية اليمنية من عدة أعداد ومن مجلة نوافذ، ولم تستغرق جهدا يذكر للمواءمة بينها، ولعلي لا أجد حرجا في ادعائهما لنفسي على ضوء مقولات (التناص) الحديثة التي تبرر السرقات الأدبية كما لا حظ الدكتور مرتاض، وهي التي خصها الناقد المصري الدكتور محمد عبد المطلب بمعظم صفحات كتابه ال 570 والموسوم (النص المشكل).
وسهولة المواءمة بين أسطر مأخوذة من درزينة من النصوص ترجع إلى ما يمتاز به هذا الضرب المنتشر من الكتابة من خصائص أهمها أنه يشبه بعضه بعضا شبه الماء بالماء فلا يمكن تمييز سطر الأديب المتمكن من الأديب المبتدئ بداهة.

النص الأول
(1)
سيدي الشعر، أنت المعنى بكل القلوب الجريحة، حية حزنها ذهبي وموّالها ذهبي وأحلامها عرضة للرياح، دعني أطير ودعني أفتّح أزهارها في الفؤاد، سأسمع صوتك حيث أكون، قل لهذا الهباء من الخلق لو جئته هاتفا تثنى كعاشقة جرحت قدميها البروق، رمت خلفها العالمين وألقت إليه التليد من الدر واشتعلت مثل ضوء النهار.
(2)
سيدي، قليل من الحزن يكفي ليرتعش القلب، بعض من العشق يكفي لترتعش العين، سأجمع ذرات صوتك من كل نبع برود ومن ضحكات النعيم في مساء قديم، فارت الروح واعتلجت في تفاصيلها رغبتي في الدخول إلى ما وراء القوافي، من ينقش سفر الإسدال على مسرح النفس، هذا الهزج المتوحد فينا معتلجا في النفس نقشا على الذاكرة، كلما لامستها الطيوب التي حرستها ونامت على بابها أورثتها الجراح.
(3)
سيدي الشعر، هل أتاك حديثي، أعلو على صدر القصيدة، أهب الشبابيك الحزينة لونها وهي تكسر أهداب الحلكة والموت يشعل قنديله في الفضاء الذليل، والخلق يختصمون على أفق من رماد ويقتتلون على أفق من سراب، سأسمع صوتك حيث أكون، ياسمينا على ليل تموز، أغنية لغريبين يلتقيان على شارع لا يؤدي إلى هدف. أأهرب عنك وأنت نصيبي من الأرض والشمس وضحكي وبيتي ومقبرتي والسحاب.


النص الثاني

كل الشوارع خالية والحدائق
لا أحد
الطيور الأليفة عادت لأعشاشها
تنام الحياة ويبقى الزمان
ساهرا لا ينام
كيف أشفى من الياسمين غدا
امتلأنا أنا والمكان،
ليلي يفيض من الكأس
أسكبهن ثمالات شف مفاصلهن
نزيف الألق القمري على مفصل ماء
أرجأت خوفي كي أصارع وحدتي
ليس لي طائر أزرق فوق صفصافة يا غريب
أو هتافات ضفدعة في الدجى النعسان
يملأ الليل والغدران صوتها المتراخي الرتيب


والحق انه قد مضى على التجربة سنوات طوال ربما يكون هؤلاء الشعراء قد تمكنوا خلالها من تطوير أصواتهم الخاصة وامتلاك أسلوبهم المميز.
وامتلاك الأسلوب المتميز ليس باليسير ولا يحققه إلا فحول الشعراء، إن جاز التعبير، وان كنت اكره استخدام هذا التعبير الحيواني (الفحولة) في هذا الصدد. فماذا نقول عن الشاعرة، هل نقول فحلة؟
ولكن المشكلة في تقدير الشعراء وتمييزهم وتقديمهم إلى الجمهور ومن ثم إلى العالم العالم، هو أننا ابتلينا بمافيا نقدية يقف على رأسها الدكتور حاتم الصكر تمارس الوأد الجاهلي للمواهب عبر شللية بغيضة ومقيتة.

(7) ما هو الأسلوب؟
يقول الناقد الفرنسي وعالم اللسانيات (جان كوهن) كما جاء في كتابه بنية اللغة الشعرية: " صحيح أن الأسلوب اعتبر، في غالب الأحيان، إنزياحاً فردياً، أي طريقة في الكتابة خاصةً بواحد من الأدباء. وكان (بالي) نفسه يدعوه "انحراف اللهجة الفردية"، ويعتبره (ليو سبيترز) "انحرافا فردياً بالقياس إلى قاعدة ما". وشاع تأويل عبارة (بيفون) المشهورة "الأسلوب هو الرجل نفسه" لتسير في هذا الاتجاه".

تحلل الأسلوبية النصوص الأدبية خاصة: فهي تصف أدببتها وتبيّن الخواصّ الفنية الموجودة في الجماليات الكلامية. ولم تُغفل الدراسات النقدية الحديث عن الأسلوب، من الوجهة اللغوية، أو النحوية، أو الأدبية، أو البلاغية، أو النقدية، أو الفقهية(نسبة إلى فقه اللغة). ويقول الدكتور صبري مسلم: " ومن خلال بعض الدراسات التي طبقت الأسلوبية على الإبداع الشعري وجدنا مستوى إيقاعيا يشتغل على الوزن والقافية والإيقاع الداخلي، وهناك المستوى المعجمي الدلالي، وثمة مستوى الصورة الشعرية."
ويقول الناقد الفرنسي مولينييه "الفعل الكلامي يتسم بكونه أدبيا وهو إما أن يكون "تأثيريا" أولا يكون شيئا. فالأدبية هي انجازية مطلقة للغة performative إذ تتحول إلى وظيفة شعرية."

ولسنا هنا بصدد التحليل المتعمق لنصوص طه الجند لان المقام لا يتسع ولا يسمح، ولذلك فسأركز على ذلك الجانب التأثيري عن طريق قراءات مقارنة واترك الحكم القيمي لكم باعتباركم متلقين.

ولأن المجال لا يتسع سأتناول هنا اليوم في هذه العجالة شعر الشاعر طه الجند بنوع من الإجمال الذي يسمح للمتلقي، وهو انتم أيها الحاضرون الكرام، بنوع من التحليل المجمل المقارن، عبر قراءات لبعض نصوص شعراء عظام من الحائزين على جوائز نوبل للأدب، اتبعا بقراءة لنصوص من إبداع شاعرنا . فلنبدأ

مختارات من شعراء نوبل

وكنت في تلك السنِ
حين أتى الشعر يبحث عني
لا أعرف ، لا أعرف من أين جاء
من النهر أو من الشتاء.
لا أعرف كيف ومتى،
لا،لم تكن هناك أصوات،
لا صمت،ولا كلمات ،
ولكن استدعيتُ من الشارع،من أفنان الليل
فجأة من قبل الآخرين
بين الحرائق العنيفة
أو بينما كنت عائداً وحدي
كنتٌ هناك من دون وجه
ولقد لمسني.
"بابلو نيرودا"


لا وجبات جيدة
لا فرص للصور
والأمر يحتاج إلى سنوات
كل الكاميرات قد ذهبت
إلى حروب أخرى.
) فيسلاو زيمبورسكا(


إنه أكثر أسى من ذلك
أكثر.. أكثر.. أسى
مثل حزن الأغصان التي تُسقط فاكهتها فلا يلتقطها أحد
أكثر.. أكثر حزنا
مثل السديم الذي تتنفسه الفاكهة التالفة
التي على الأرض.
)فيسنت ألكساندر)


كوني سعيدة إذا كانت الريح التي تهب على الحديقة تعيد دفقة الحياة:
هنا حيث تغوص وتغرق
كتلة متشابكة من الذكريات الميتة
لم تكن هناك حديقة بل فقط وعاء للذخائر المقدسة.
الخفق الذي تسمعينه ليس تحليقاً
بل مجرد اضطراب في رحم الأبدية.
)يوجينيو مونتيل(


أظنني أستطيع أن أستدعي كلمات
سوف تبقى: أنتِ هناك فيها
ولكن إذا لم أستطع،ومهما كان الأمر
فسوف ألحُ،ولن أبالي.
)بوريس باسترناك(


لا يهم من تكون
فأنت تهمل الحلم حيث ولد وجهك
بلورة فارغة صامتة.
إن دم كيشوت يغذيك
من الروح التي تموت فيه
وتكتسب القوة لتكون كل شئ.
(جوزي ساراماغو)


كثيرا أيضاً
ما تنقر اليد التي يحبها المرء
نقرة خفيفة على القلب
وتجرحه
وبعد ذلك يتمدد على القلب ببطء
شرخ خفيَ
وتموت زهرة الحب الجميلة.
(سلي برودوم)


عندما تمسين عجوزاً يشتعل رأسها شيباً ويغالبها النعاس
فيميل رأسها كلما أطبقت جفنيها وهي في المقعد أمام المدفأة،
خذي هذا الكتاب من الرف واقرئي ببطْء
واحلمي بما كان لعينيك من جمالٍ ناعمٍ ذات يوم، وما كان لهما من ظلالٍ عميقة.
(وليم بتلر ييتس)



مختارات من أعمال طه الجند

(القمر)
في سماء فسيحه
يمارس غواياته
يتسلق ويقفز
يحضر ويغيب
دون هم الايجار
لا أصدقاء
ولا أبناء يمرضون
طفل الليل
لم يجع يوماً
ولم يتهكم الساسة عليه
أنا
في حيزٍ لا يكفي نملة
أفكر وأزحف
أقامر وأدور
أحزن وأفرح
أشيخ وأموت.

(حضور غامض)
الليل والشعر
وجهان لهم واحد
حضور غامض
وأسئلة شاردة
قالها احدهم
وغاب في الزحام
لم يقو على البوح
تهيأت الأسباب لآخرين
فشيدوا حضورهم خارج أسوار الوقت
استيقظ المكان
فاجأني حين عانقته
وبكيت
تحسست رأسي وأسئلتي
والكلام الثقيل تخشب
بين الأصابع والشفتين
ارتبكت انسكبت
انتظرت العبور
إلى أين تتجه العاديات؟
إلى أين يتجه الصيت؟
سيدي لا أٌطيل
هل أنا أنت؟
أم أنا......؟
أم أنت .....؟
أم إننا من التراب السديم
سؤال من الطين
والغيم
والزمن المستدير


إن ضاق الحال))

إن ضاق الحال
قلنا يا رب عليك
من للخائف والمحتاج
النبتة بين الأشجار
الأم إذا طلقها الزوج
الهارب من بطش آخيه
الطائر في رحلته
الريح وراء التل
الماء الواقف في البرد
المتهيب خطوته الأولى
المخبت في ليل من دون غطاء
الضوء الخافت
الباب العالي للقلب
الطامع خلف الأسوار
العالق في القاع
إن ضاق الحال
قلنا يا رب عليك
من للمقطوعين سواك

(أنا خائف يا أمي)
ريح وراء ريح
جهات تنصت لوقع أقدام
كمضارب الطبل المنتشي
تبدو كقوالب الطين
حجارة مهمومة ومقرفصة في الشعاب
في المكان الغائم حقول مبللة
وفلاح أجير وراء المحراث
الراعي يحدق في شجن
برعد مبهم وزريبة مسورة
بنجمه للمساء
بقرية مجاورة
وقمر إضافي
يربك السواقي والعشاق
كلاب القات المدببة
طولقة السوق
ينحدر من جبال ذات أنوف معقوفة
ينحدر من مكمنه جنوبا
في السهل يقف مع الأمر والفراغ
كم هو نحيل وخافت ذلك البحر
أمور بعيدة تستوي علي المراكب
تستوي أرض النائم
في الربيع تزهر شجرة البرقوق
ونقطف الرمان في الحال
الراعي الصغير لم يكبر
ولم يتغرب بعد
أنا خائف يا أمي
من وشوشات الليل
من رجل في الخارج يقول أنه أنا
الليالي والجهات تتواطيء علينا
القري تستحم واقفة
حين يراها البرق عارية
تغمض عينيها وتقفز علي الصخور
الوادي يلقي بالغارق جانبا
قريبا من القاع
يصحو الطين والنمل الطائر
الضفادع والبرك
الأوتاد في الزرائب
الديك الأحمر يتسور الجدار
ويصرخ دون تمييز

(8)
من هو طه الجند؟

جاء إلى صنعاء من مرتفعات وصاب العالي الساحرة في أهاب صوفي بداخله قلب طفل. شعره يفصح عن حكيم يدرك ضعف وقوة الجمال الذي يتخلل نسيج الوجود متجسداً في الكائنات التي يبدي نحو مظاهرها تواضعاً صبوراً رقيقاً.
ينتابك إحساس بالابتهاج وأنت تمر بتجربة القراءة، فلا تريد أن تتوقف. في ديوانه "أشياء لا تخصكم" تفاجأ بشاعر عملاق، وصل مستوى رفيعاً من النضج والإبداع، ومنذ العنوان تشعر بحميمية ما يحتويه الديوان الذي يصدره بهذه الترنيمة الخاشعة بعنوان "ابتهال:

من رسم الوجود
وقلب الأحوال
رب الخائفين
بلا ملامح جاءت الكلمات
لا يقين سواك

"رب الخائفين!! أي إحساس عميق أملى هذه العبارة في هذا المقام؟!!

الشاعرية في نصوص طه الجند ملتصقة بالمضمون، والرؤيا. شعر يعيد تشكيل العين من جديد؛ لترى أعمق وأدق، بإحساس يتفاعل مع التفاصيل الخفية في ظهورها، والليل والصباح، وكل ما يشكل موضوعاً للشعر:

الليل
يقفز النباح في الجهات
صهيل وهمهمات غامضة
الله وحده يعلم كيف يقضي ليلته
وحيداً في الخارج

***
حين يمل الانتظار
يغفو الليل على المشارف والجروف
هكذا من رحم الكائنات المبللة
الصباح بوجهه الأعمش الصغير يطل


في دراسة جميلة لقصيدة طه الجند (إن ضاق الحال) للناقد الشاب عبد السلام الربيدي يقول: "الشعر خروج على المعهود في التداول اللغوي، وهو خروج يقتضي أن يؤسس الشعراء لهم به حيزا خاصا من استخدام اللغة، يتميز بصفات محددة أهم ما فيها عنصر الاختلاف، وهو العنصر الذي يسعى شعراء الحداثة ونقادها إلى تأكيده في ممارساتهم وتنظيراتهم، بل هو كفاح سرديات ما بعد الحداثة كما يعبر ليوتار."
ويضيف قائلا : جملة طه الجند تنطوي على شعرية من نوع خاص لها عنوان هو رفع اليومي إلى مرتبة الشعري مع الاحتفاظ بصورته اليومية حتى يحدث هزة لدى المتلقي الخاص الذي تعود على اللغة الشعرية الخاصة؛ أي كسر التوقع المشحون بلغة المجاز والاستعارة، عبر إدماج الذي لم يكن شعريا في صورته الخام بالشعري. وتلك صورة من صور عمود الشعر لقصيدة النثر كما يطرح حلمي سالم" انتهى.

وختاما:
أشعر بقوة إن طه الجند اخترق الخلوة الحميمة للشعراء العظام، من طاغور إلى بابلونيرودا. فضاؤه الشعري يتبدى في الصورة وتجلياتها الشعرية وما يختزنه من الدهشة (حد الصعق) كتعبير محمد بنيس، وفي استخدام المفردات بخصائصها اللغوية المتعلقة بلغة الكتابة الخاصة به وحده فحسب بل وفي الإيقاع الداخلي الخاص جدا بقصيدته. موسيقاه "فيها من النعومة والشدة ما يتلاءم مع الحركات الغنائية للنفس، ومع تموج الأحلام وقفزات الوعي"، كما قال بودلير في معرض وصفه لقصيدة النثر التي يتمنى كتابتها. انظر جان كوهن - بنية اللغة الشعرية.
إحساسه الشعري عال، ومتدفق، ونادر كما عند الشعراء العظام، حيث نجد الشعر العابر للغات، فأياً تكن اللغة التي تقرأ بها هذا الشعر، في لغته الأصلية، أو مترجماً، فإنك تجد شعراً حراً من كل لازم قديم أو جديد، فلا اثر لأي خصيصة أو نزعة تقليدية، فهو يكتب بالعربية شعراً يتجاوز مستوى النشيد التقليدي في الشعر العربي، إلى مستوى الحكمة تارة والإدهاش دائماً، لترى في نصوصه ما يراه الناس كل يوم لكنهم يمرون به صماً وعميانا.
في رأيي المتواضع، طه الجند شاعر عظيم.. شاعريته هائلة، تسندها ثقافة عميقة تتجلى في نصوصه.. شعره كفيل بإيصال الشعر في اليمن إلى العالمية بسهولة.. قابلية شعره للترجمة عالية جداً، دون أن يفقد شيئاً من ألقه، لماذا لا يمثل بلادنا في الملتقيات العالمية؟ وأين وزارة الثقافة منه؟ حرام أن نهدر موهبة بهذه الضخامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.