لأن الحياة تستمر ، شئنا ام ابينا. فقد صحونا صباح تلك الليلة المخيفة – اولى ليالي القصف لمنطقتنا التي قدر لها الله ان تنساها الطائرات منذ بدء الحرب - شاعرين في اعماق اعماقنا كأنما تعاركنا بالأيدي ، الذراع والعضلات مع فتوات ، في ظهورنا كدمات و في ارواحنا ندبات، في مسامعنا صدى انين! لكن: الاولاد ذهبوا الى مدارسهم. الشباب الى جامعاتهم. الكبار الى وظائفهم. الأمهات جهزن الافطار قدمن الشاي ، الفاصوليا، او بيض اوجبن ثم التحقن بسائر مشاغل البيت مثل صباحات كل الأسر الطبيعية المقيمة في بلدان لم تقوم فيها حرب. الأمهات شبهتهن في هذه المرحلة الخانقة من تنفس اليمن بالجنود فوق ارض المعركة. اطعام الافواه الجائعة تحت قصف و في حصار ليس بالمهمة المسلية! هكذا حال الحياة ، بنا ، بدوننا تستمر. خلقها الله لتستمر و ليس بسبب صمود احد. كانت ليلة امس : مرعبة، مرعبة ، مرعبة. بالثلاثة مرعبة! ظلام غرفنا كان يضيء باللون البرتقالي. و الالواح الشمسية قد انتهت طاقتها وانطفأت ، واحنا ما عندناش كهرباء! النوافذ ترتج مصدرة صوت كأنه نقر متتابع ، و نسمع صوت احد المحمومين في البيت يهلوس متمتما :- "ماااان؟؟؟افتحوا الباب، مدري من بيدقدق ؟" نجيبه كلنا :- " ارقد انت بس ، احنا عنفتح له!" انه الصاروخ يدق الباب من البعد! الستائر انتفخت من دوي الانفجار كبطن حامل في شهرها التاسع في اتجاه داخل البيت. ضغطت على قلبي بيدي. كان يدق حتى اسرى دقاته في اناملي. انتقلت عدوى النبض من اصابعي الى فمي. حدقت عيناي بإرهاق و ضيق في السقف. الى متى ُنقصف يا ناس؟ الى متى ُنقصف يا ربي؟ قصف الليل مخيف اكثر من قصف النهار ، دعني اصف لك - يا قارئي المقيم خارج اليمن – لماذا؟ كما لا ُيخفى على احد، خلق الله الانسان ينام ليلا بالفطرة. يغمض عينيه و يروح في سبات. لا يرى ماذا يجري من حوله. لذا ففكرة قصفه و هو في تلك الوضعية فكرة لا يقبلها عقلنا. ان اموت قصفا دون ان اعلم و لا اعي فكرة مخيفة. فكرة التعرض لأذى يستوجب الهروب دون ان اعلم لكي افر و اهرب ،فكرة مخيفة. كذلك فكرة استبدال وقت النوم الى الصباح و المراقبة ليلا فكرة مختلة ، مرفوضة و سخيفة. تعبنا يا شاهد يا عالم يا سميع لا يحتاج الى سرد و لا شكوى و لا عريضة. انت القائل للشيء كن فيكون فقل لهذه الحرب "انتهي" انها ظالمة، انها و عزتك و جلالك مقيتة ، مقيتة. صحونا صباح تلك الليلة المخيفة نرفع جباهنا لشمس يوم جديد، الشمس تشرق و لا همها حرب و لا سلم. مثل تنهدنا صباح كل ليلة مخيفة. نجمع اصابعنا المرتعدة في حزمة. ندلك ركبنا بشكل دائري لعلنا نشد من ازرها. نجذب المبحوحة اصواتنا الى حبالنا الصوتية و نضبط الذبذبة. ندعك اعيننا بالماء ، لعل الشوق الملتاع للنوم اللذيذ يزول. نطلي البؤبؤ و الحدقة ببريق الحياة لكي تستمر في اعيننا الحياة. لابد لنا من الاعتراف: اننا لا نخاف فقط ! بل نحن ُنضرب ، نحن ُنهان من هذا "الكيان" الجبان! شبهت هذا الكيان المتوحش بزوج أم ، يضرب ابن زوجته من رجل آخر. يضربه عمال على بطال و كثيرا ما يضربه بلا سبب. والولد صغير ، مزكوم ، يرثى له ، فقير. يتظاهر زوج الاب انه يعلمه "الأدب". و لا يوجد صوت واحد و لو صوت واحد فقط يقول لزوج الأم تعلم انت اولا الأدب. لا يحق لزوج الام ان يضرب ابن زوجته من رجل أخر ، بل هو الغريب و الغريب لزاما عليه التحلي بالحياء و الأدب. اشعرتنا جارتنا بالغربة في الوطن، بدلا من ان تكون لنا عون و تقف خلف ظهورنا سند. ما اشد قسوة هذا الاحساس. ليس فقط القصف ، و لكن كذلك شعورنا بالاغتراب ، شعورانني غريبة في الشارع ، غريبة في البقالة ، غريبة في المدرسة ، غريبة في عملي ، غريبة في بيتي ،غريبة في كل الأماكن هذا و انا يمنية اين؟ في اليمن! ما عاد اليمن يشبه اليمن ! رن تلفون بيتي قبل مغادرتي بيتي للعمل ، سمعت صوت صديقة اعرفها جيدا تقول لي :- " آلووووه ، سلامات ، قرينا في الفيص بوك ان الضرب كان عندكم امس. اول مرة يقصفوا منطقتكم من بداية الحرب ، لكن ما ذاحين يومية ، جهزوا انفسكم و اضربوا حسابكم ما دام و قد عرفوا الطريق! افتجعتوا؟ رقدتوا او مع؟ اتكسرين الزجاجات؟ افعلوا لصقة للزجاج،هههه لكن لا تغلقوهنش ، هاه لا تطلعوش الجبا تبسروا اين القصف ، الدخان حق الصواريخ شوعة يدي مرض و اجهاضات ، اسمعي هاه ،غدوة شكمة، مننا سبع عنشكماثنعش. عرايس ثلاث عرسين بغير عرسانه محنبوا في الخارج و المطار مغلق ، وعرسوا لهن بدون العرسان! و بنت مخطوبة عنشكمها تفرح لأن يوم خطبتها خالها اخو امها مات وما زد سوتش حفلة، و والدات و موفيات. وعرايس من حق زمان عرسين و عرسانهن في اليمن، يو و الحلا . عتجي تغني مغنية رووووعة. الاعتذار مرفوض . من بحينه. بي بي." انهت المكالمة، اغلقت السماعة. تفرجت على السماعة وتأملتني السماعة. اف!! ليتني استطيع ان اهرب من واجباتي و مجاملاتي ، و اهاجر الى عالم الطيور لأكون حمامة او هدهد و اعلق اليمن بعيدا عن جسمي و انساه فوق شماعة. تعبنا من القصف و توابعه المجنونة ، و نشتهي ان ننام قريري الاعين و لو لنصف ساعة. الطير اذا نطق – مثلي - لن يستحي ان يقول انه تعب. لن يكذب انه صامد و بالصمود الكذاب يفاخر. منافق ابن منافق من ينكر او يكابر. لابد من التنازل من اجل اليمن. اما المكابر فدعوه يكابر. يحشد ، يتوعد و يطلق زامل بعد زامل. اليمن عندنا وطن ، و الوطن عنده وسيلة للوصول لغاية ، اليمن حتما لعبة من العابه. سيحطمها اربا ،اربا لكن لن يستحوذ على خيراتها سواه ، و اليمن عندنا وطن ، نحافظ على خيراته ولولم تصلنا خيراته ، لا نحطمه و لو دفعنا لتحريره من يد الغزاة ، ضريبة من الكرامة. شكمةايش يا صديقتي؟ من له نفس يحضر شِكم او يتفرج على موكب زفة عرائس و والدات بالجملة ؟ نحن ُنقصف يا ناس يا هوه. نتعرض للموت في كل لحظة. نتعرض للإبادة. كان صباحي ذاك في عملي مريض و مثله كنت مريضة. يا رب اذا كانت الحرب قضاك و قدرك فالصبر عليها فريضة. كان البكاء يراودني طوال الصباح. كان النحيب شرنقة احاول الخروج من نسيجها. اريد ان ابكي صحيح ، لكن لا يمهلني القصف حتى للبكاء. اريد ان ارمي رأسي المثقل على صدرك يا أبي ، فكيف اصل صدرك و انت في قبرك . لأحكي لك عن اليمن التي لم تعرف ، اليمن التي تشوهت ملامحها الساحرة بعد ان ادرت لها ظهرك، اليمن التي تُقصف. اليمن التي ينهش الأخ فيها اخوه. اليمن التي يصف فيها اهالي شمالها اهل تعز بالدواعش ، و يصف اهالي جنوبها اهل صنعاء بالمجوس. لا تفزع يا أبي ، هكذا صارت اليمن بلادي و بلادك و لهذه الدرجة وصل بنا الجور، نعادي بعضنا البعض، نغفل ان عدونا في الأصل واحد. الكذبة التي لا تساوي في سوق الاكاذيب ريال و نص ، ان اليمن يقصف من اجل شرعية الدنبوع، ذاك الذي اشتروه لأنه رخيص و خائب. طيب ما شأننا نحن لنُقصف؟ ما ذنبنا في هذه الحرب، مصيبة المصائب؟ من الدنبوع اصلا لُيقصف شعب و لتُقصف بلاد كاملة من اجل شرعيته؟ لم تقصف السعودية الميليشيات المسلحة و الانقلابيين كما تسميهم فقط ، بل و نحن الابرياء ايضا. الاطفال ، النساء ، العجزة ، الشباب الحر و الرجال المستقلين. ما شأننا نحن لكي تقصفونا من اجل قلة؟ الكذبة ُكشفت و بانت. سيروا دوروا لكم كذبة جديدة ، مثلما يدوروا وسط القش على ابرة! عصر ذلك اليوم قررت الا استسلم للكآبة و ان اذهب الى الشكمة. سأتفرج على عرائس ينقصها العرسان ، و سأتفرج على رقص مريب لأنه تحت قصف كأنه رقص جان. سأسمع اغاني و سأصفق و اتسلى تسلية كذب و تمثيل ، نمثل الصمود و نشحذ من الانسانية لفتة شفقة ، مواساة و حنان . الخروج بين الناس افضل من ترقب متى نسمع صوت صاروخ ينفجر! في القاعة ، لم اصدق عيني. نساء و بنات مفرطات في التأنق و التزين. لا بأس من تحسين المعنويات بالزينة و الاناقة و التسريحات و الالوان المفرحة لكن مع عدم نسيان اننا "ليلا ُنقصف". رأيت تطريز الفساتين ، و نقش على الذراعين. رأيت الذهب و القات و الدخان. رأيت ضحك ، تصفيق، رقص. هذا كله و نحن ليلا أيش؟ نحن ليلا ُنقصف. رأيت ثلاث شابات امامي يتبخرن بمبخرة الكترونية تشبه الشيشة الالكترونية, ك م ا ن مبخرة الكترونية ؟ بيقصفوناالسعاودة يا جماعة والا بيدغدغونا ؟ لست ادري لما - والصمود حلو ما اختلفناش - استسخفت دخان البخور و هو يتصاعد . كذا استثقلت دم الشابات و هن يتفحصن من رآهن و من لم يراهن و هن يستعرضن و يبخرن شعرهن بهذا الاختراع الجديد. مبخرة كهربائية يتم شحنها بالطاقة الشمسية ، و يسكب فيها بخور سائل ثم بمجرد ضغط الزر يتصاعد دخان البخور. تأملت الشابات. هؤلاء الشابات استحالة انهن ُيقصفن عندما انا ُاقصف. او يخفن مثلما اخاف. او تعبن مثلما انا ُاستنزفت مني الحواس. انهن يحزنين اكيد لكن لم يكسر الحزن منهن مثلما هشم مني الكيان. انا مكلومة على اليمن؟ موجوعة على صغار سيكبرون فلا يجدون تلك التي عرفناها و عشقناها اليمن! بدا لي كأنما هؤلاء الشابات في الليل عندما نعود الى منازلنا ان منازلهن كائنة في " لاس فيغاس". يتكلمن ، يضحكن ، يتبخرن و يخزنين و يدندنين.... اش اشاش . لو يشوفوهن ال سعود لفاجئتهم"شهقة ثم جلطة! شعب يحيا برغم قصفكم يا بدو مدنوهم . لكنني شعرت بالشيزوفرينيا تدفعني للعطس ،كل هذه البهرجة و المظاهر و نحن ُنقصف؟ نحن ُنقصف على فكرة؟ لا تنسين. لست ادري لما تذكرت كياني عندما كنت احضر اعراس قبل الحرب. تغيرت كثيرا كأنما تنكر كياني في زي ثاني. لا يشبهني و لا يقبل بحالتي المستجدة و لا بمكاني. جاءت صديقتي تسلم علي و توصيني ان نزغرد لعروس ابنها لكي تكون هي اكثر العرائس حصولا على الزغاريد. ابتسمت لها ابتسامة عوجاء ، حشرجت صوتي العبرة ، هززت رأسي موافقة ،التبسم من القلب صار اماني. وعدتها ان افعل. يا حكومة السعودية انتم عندنا الحرب و الحرب عندنا انتم. لا نخاف من طائراتكم ان تقصف بيوت او جبال لكن على سكينة ارواحنا نأسف. عدت الى أرض الواقع داخل القاعة و الكل يصفق للمطربة التي تغني اغنية سياسية و عجوز مسنة من شدة حماستها قامت ترقص، تقول كلمات الأغنية السياسية التي غنتها على لحن شهير :- " يو يا سلمان لو يدوك لصنعاء نجحبلك ملان صنعاء ، يا رئيس هرب مابش رئيس يهرب ، ويقل للسعودي جي لبلادي اضرب. مشتيش انا رئيس مابش معه لا شنب ولا لحية ، اشتي علي واحمد ابنه الهيبة." ضجت القاعة بالتصفيق والزغاريد لدرجة ان احدى العرائس زغردت. ادمعت عيني و لوكان الموقف سعيد. الناس موجوعة ، و سينتقم الله منك يا دنبوع و لوكنت بعيد. هذه المغنية اشعرتنا اننا لا زلنا جمهورية ،واننا نختار ما بين رئيس بشنب و رئيس بلا شنب كأنما كان مأزقنا في الأشناب ، و ان ما زال لدينا رجل له هيبة برغم ان هيبة عطان وهو جبل قد تساقطت ، لدينا حكومة ، لدينا اشناب كما تتدعي، و العهدة على القائل. :) جزاها الله كل خير. خلوها تجبر بخواطرنا و من جبر خاطر الناس جبر الله خاطره. خرجنا وقت المغرب ، تذكرت بأمل ان غدا صباحا ستخرج الجموع في مظاهرة مطالبة بدفع الرواتب و فك الحصار. اقتربت من منطقة بيتي لأجد دخان اسود ، و وصلات من القطن تغطي الاسفلت. عرفت انه تم استهداف صالة القاعة الكبرى بصواريخ عدة اثناء اقامة عزاء آل الرويشان. فزعت. كل هذا لأنني ذهبت شكمة؟ وصلت بيتي. لأجد قطن القاعة قدوصل شارع بيتي. رأيت مع القطن ، ان المظاهرة المطالبة بالراتب و فك الحصار ايضا تم قصفها. عظم الله اجورنا جميعا . و لحد يزيد يعزمني شكم!!! لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet