قالوا: "مجنون أكل عشر فطير" مثل شعبي كثير التداول في أوساط الناس، إذ قلما نجد مواطناً لا يحفظه عن ظهر قلب؛ لما له من ارتباط بكثير من مجريات الحياة اليومية لاسيما مجريات الحياة الراهنة التي نعيشها ونشهد أحداثها وتقلباتها العجيبة لحظة بلحظة. قبل الشروع في التعليق على هذا المثل الشعبي، لا بد من التوقف عند تعريف هذه الأكلة التي كانت في متناول كل الناس في هذا البلد، سواء ما قبل ثورة سبتمبر 1962م، كما يؤكد على هذا كثير ممن تعايشوا مع تلك الحقبة أو ما بعد هذا التاريخ، إلى أن أصبحت اليوم في حكم النادر لاسيما في المدن، بعد أن تقلصت مساحة الأرض المزروعة بالذرة، وبعد أن تضاعف عدد السكان عدة مرات، وبعد أن انفتح البلد على العالم الخارجي، فتحول الناس من اعتمادهم على هذا المحصول إلى مادتي القمح والدقيق المستوردة من الخارج. فطير هي جمع فطيرة... والفطيرة أكلة يمنية جافة، معمولة من الذرة... حجمها وإن كان ضعف حجم رغيف العيش الأبيض المعمول في الأفران قبل تقزيمه إلى ما هو عليه اليوم بفعل أصحاب الكروش المنتفخة والضمائر الميتة، إلا أن وزنها- أي الفطيرة- وإشباعها يماثل الرغيف ربما بأكثر من عشر مرات... أما هضمها الذي يأخذ وقتا أطول ويحتاج إلى سوائل تساعد على القضم وعلى البلع، ومن ثم الهضم، فهذا يتوقف على صحة المتعاطي لهذه الأكلة وعلى بنيته وكذا الجهد الذي يبذله. السؤال هنا: إذا كان هذا هو مفعول الإشباع الذي تقوم به فطيرة واحدة فكيف بمفعول عشر فطير إذا أقدم الإنسان على أكلها مرة واحدة، خاصة إذا ما تناولها دون سوائل تساعده على ترطيبها؟.فلكون فعل كهذا هو غاية في الصعوبة فقد أُسند هذا الفعل لمجنون لا يعي تبعات ما قام به من فعل. المشكلة هنا ليست بالتهام هذا المجنون لكل هذا الكم من الفطير وما سيترتب على هذا الفعل من مشاكل في جهازه الهضمي ربما تعيقه عن الاستمرار في الحياة، وإنما في من سهّل لهذا المجنون الحصول على هذا الكم من الفطير! حيث تركيبة هذا المثل الذي اكتفيت بشطر منه في العنوان هو كالآتي: "قالوا مجنون أكل عشر فطير... قالوا: مجنون الذي قدم له" أي من سهل لهذا المجنون تناول هذه الوجبة الثقيلة صعبة الهضم. إذا ما دققنا في كثير من الأمثلة الشعبية سنجد أنها لم تُقال من فراغ، كما لا يمكن لها أن تتناقل وأن تُشاع بين الناس وأن تترسخ في الذاكرة الجمعية لأي مجتمع على امتداد أجيال وأجيال دون أن تكون لها اسقاطات على الواقع سواء أكان هذا الواقع اجتماعيا أو سياسياً. أياً كانت الأمثلة واقعية أو مركبة بُغية اسقاطها في يوم ما وفي زمن ما على ما هو ممكن الحدوث في الواقع فإن سؤالنا إزاء المثل الذي نحن بصدده، هو: هل من ترجمة فعلية لهذا المثل الشعبي في واقعنا المُعاش؟ ..... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet