هذه خُلاصات تحليلية تستقرئ ما ورد في النقوش المسندية والمصادر التاريخية عن نشوء الدولة في اليمن القديم، والدول التي قامت فيها قبل الإسلام. كان قد تم نشرها على شكل حلقات في منتدى المؤرخ الحصيف (على الواتس) الذي يجمع كوكبة من المؤرخين والآثاريين اليمنيين، أثناء نقاش دار فيه عن الدول التي شهدتها اليمن على مر العصور. وقد أحببنا تجميعها في هذا الملف رغبة بتعميم الفائدة منها.. ومن الله نسأل الأجر والثواب. أولاً: ظهور الدولة في اليمن القديم: لا يزال زمن أول ظهور للدولة في اليمن القديم يلفه كثير من الغموض، ومثله تحديد الدولة الأكثر قدما. فما كان يقال عن أن معين هي أقدم الدول اليمنية ظهورا، وأنها ظهرت في حدود 1200 قبل الميلاد ثبت عدم صحته من خلال النقوش المكتشفة، فدولة معين ظهرت غالبا بعد عصر المكرب السبئي كرب إيل وتر في مطلع القرن السابع قبل الميلاد، بدليل أنه لم يذكرها في نقشه المعروف بنقش النصر أثناء حملاته على منطقة الجوف، لا بصفتها من الخصوم ولا من الحلفاء. وكذلك ما كان يقال بأن سبأ هي الأقدم ظهورا، وأن بقية الدول اليمنية القديمة انفصلت عنها عندما أنست منها ضعفا في القرن الخامس قبل الميلاد، وأنها كانت تنفصل عنها في فترات ضعفها وتعود إليها في فترات قوتها. فنحن نعرف من خلال النقوش أن دول مثل أوسان وقتبان وحضرموت كانت موجودة جنبا إلى جنب مع دولة سبأ في القرن الثامن قبل الميلاد، وهي الفترة التي تعود إليها أقدم النقوش المكتشفة التي تحدثنا عن الدول اليمنية القديمة. ويمكن أن نقول من خلال شواهد استئناس الجمل الذي ارتبط به طريق البخور القديم بأن البدايات الأولى لطريق البخور تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وطريق دولي مثل هذا لا يمكن أن تنظمه وتنسق التجارة عليه إلا كيانات سياسية معتبرة (دول). وذلك يجعلنا نقول بأن الدولة في اليمن القديم يعود ظهورها على الأقل إلى تلك الفترة، وليس إلى القرن الثامن أو أواخر القرن التاسع قبل الميلاد حسب قول العديد من الباحثين، خصوصا الأوربيين منهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: ماهي الدولة اليمنية الأقدم ظهوراً؟ وإجابة عليه نقول بأن الشواهد الأثرية والتاريخية حتى الآن لا تجزم بأقدمية واحدة من الدول اليمنية القديمة على بقية الدول الأخرى. فالشواهد الأثرية والدينية تذهب لترجح كفة دولة سبأ، حيث ذكرت البعثة الألمانية بأن أساسات سد مارب تعود على الأقل إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وسد مثل سد مارب لا يمكن أن تشيده إلا دولة ثابتة الأركان. أما الكتب الدينية (التوراة والإنجيل والقرآن) فتثبت لنا بأن دولة سبئية قوية كانت قائمة في القرن العاشر قبل الميلاد، بزعامة ملكة سبأ المعاصرة للنبي سليمان، التي اشتهرت في كتب الموروث العربي باسم (بلقيس). وفي الوقت نفسه نجد أن الشواهد الكتابية ترجح كفة دولة قتبان في الأقدمية، حيث مثلت النقوش المدونة باللهجة القتبانية أقدم النقوش المسندية المعروفة لنا. وبهذا الخصوص يعتقد بأن الكتابة في اليمن القديم (المسندية) ظهرت في حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك رغم أن أقدم النقوش المكتشفة حتى الآن لم يصل زمنها إلى ذلك التاريخ. بينما تذهب اكتشافات أقدم عمليات الاستيطان السكاني في جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) لترجح كفة مناطق شرق اليمن التي قامت فيها دولة حضرموت القديمة. وعله من المناسب هنا أن نصحح المعلومة الشائعة لدى غير المتخصصين التي ترى بأن اليمن لم تعرف في تاريخها القديم إلا خمس دول، هي سبأ وأوسان وقتبان وحضرموت ومعين، وكان ذلك قبل أن تظهر دولة حمير وتتمكن في نهاية المطاف من فرض سيطرتها على كل اليمن القديم وإخضاعه في ظل دولة واحدة لأول مرة في تاريخه في أواخر القرن الثالث الميلادي. فنحن نعرف من النقوش بأن الدول التي ظهرت في اليمن القديم منذ بداية تاريخه وحمل حكامها لقب ملك كانت أكثر من تلك الدول المشار إليها. فالنقوش تحدثنا مثلا عن مملكة سمعي ومملكة مآذن (في مناطق الهضبة الشمالية) وكانت دول قائمة بذاتها لها ملوك قبل أن تتمكن سبأ من إخضاعها لسيطرتها ويتحول حكامها لحمل لقب قيل بدلا عن لقب ملك. ونعرف من خلال نقش النصر الذي يعود إلى مطلع القرن السابع قبل الميلاد بأن منطقة الجوف كانت تعج بممالك المدن مثل هرم وكمنهو (كمناء)، وكذلك مملكة نشان التي وصل نفوذها إلى وادي ظهر في صنعاء وإلى شبام كوكبان، وهو ما سنفصل فيه عند الحديث عن دولة معين. وكذلك نعرف من نقش النصر أيضا أن مملكة أوسان كانت قد فرضت سيطرتها على بعض الممالك الصغيرة التي كانت قائمة في المناطق الجنوبية والوسطى من اليمن مثل مملكة دهس في يافع ومملكة عود في إب، وهو ما سنتناوله عند الحديث عن دولة أوسان. ثانياً: دولة سبأ: كما أشرنا في حديثنا عن ظهور الدولة أننا لا نعرف حتى الآن تحديدا متى ظهرت الدول اليمنية القديمة، بما فيها دولة سبأ. لكن ظهور دولة سبأ والدول اليمنية الأخرى ارتبطت بانتظام طريق البخور الدولي، الذي ارتبط نشوئه باستئناس الجمل في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد على أرجح الآراء. وأقدم ما نملكه من شواهد تتحدث عن دولة سبأ باسمها المعروف هو ما ورد في الكتب السماوية التي تتحدث عن ملكة سبأ المعاصرة لنبي الله سليمان الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد. وترتبط بدولة سبأ أبرز المنشآت الأثرية والحضارية التي تبقت لنا حتى الآن في اليمن من عصر ما قبل الإسلام، مثل سد مارب ومعبدي أوام وبرآن في مارب. ويُعتقد أن ملوك سبأ كانوا أول من حمل لقب مكرب من بين الدول اليمنية القديمة، في مطلع القرن الثامن قبل الميلاد على أرجح الآراء. وتذهب الدراسات الحديثة بأن لقب مكرب كان يحمله حكام الدولة الأولى في جنوب جزيرة العرب، وأنه لم يكن يحمل في أكثر من دولة إلا في فترات قليلة من الصراع. وذلك ينفي النظرية القديمة التي ترى بأنه لقب كان يحمله حكام الدول اليمنية القديمة قبل انتقالهم لحمل لقب ملك. وقد ظل حكام سبأ يحملون لقب مكرب منذ مطلع القرن الثامن حتى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وهو ما يلغي الاعتقاد الذي انتشر بين الدارسين سابقاً بأن كرب إيل وتر كان آخر من حمل لقب مكرب وأول من حمل لقب ملك، وذلك اللبس نتج عن خلط في قراءة نقش النصر، حيث تم قراءة بملكه على أنها تعني الملك. وهو ما يصحح لنا الاعتقاد السائد بأن كرب إيل استخدم لقب ملك بعد انتصاراته المدونة في نقش النصر، حيث صار الدارسين وفقا لذلك الاعتقاد يتعاملون مع لقب ملك على أنه أكبر وأهم من لقب مكرب، بينما في واقع الحال العكس هو الصحيح. وظل حكام سبأ يحملون لقب مكرب قرابة قرن ونصف من الزمان من بعد عهد كرب إيل وتر الذي حكم في مطلع القرن السابع قبل الميلاد، ولم يتخلوا عنه إلا بعد ضعف دولتهم وانتقال مكانة الدولة الأولى في جنوب جزيرة العرب إلى الدولة القتبانية فيما يطلق عليه البعض عصر النفوذ القتباني في اليمن القديم. وكانت دولة سبأ خلال مدة حمل حكامها للقب مكرب تفرض هيمنتها على اليمن القديم، مع وجود دول معاصرة لها كان لها وزنها واعتبارها، مثل حضرموت وقتبان، وكذلك أوسان التي فقدت استقلالها في صراع مع سبأ كان سببه على أرجح الآراء تلقب حكام أوسان بلقب مكرب، في تحد واضح لمكاربة سبأ وللعرف السائد بين الدول اليمنية القديمة، وهو ما يفسر لنا وقوف قتبان وحضرموت في صف سبأ أثناء حربها مع أوسان. وعندما ظهرت دولة سبأ كانت في بداية أمرها تفرض سيطرتها على مارب، ثم امتدت سيطرتها نحو الهضبة الشمالية من صعدة حتى ذمار، مع الامتداد غربا صوب تهامة الموازية للهضبة الشمالية. وبعد قضائها على أوسان في مطلع القرن السابع قبل الميلاد امتدت سيطرتها لتشمل مناطق جنوب غرب اليمن من المعافر (تعز) إلى غرب محافظة شبوة الحالية، مع نوع من الهيمنة فرضتها على الدول المعاصرة لها (حضرموت وقتبان ودول ممالك المدن في منطقة الجوف). وكانت دولة سبأ بعد قضائها على دولة أوسان وسيطرتها على المعافر بما فيها المناطق المطلة على مضيق باب المندب قد استغلت ذلك لمد النفوذ اليمني صوب مناطق شرق أفريقيا (الحبشة)، حيث تؤكد الدلائل النقشية والأثرية التي عثر عليها في الحبشة ذلك النفوذ خلال الألف الأولى قبل الميلاد. وكان تخلي حكام سبأ في منتصف القرن السادس قبل الميلاد عن لقب مكرب وعودتهم إلى لقبهم القديم (ملك) دلالة على انحسار مكانتها في اليمن القديم، حيث حل حكام الدولة القتبانية بدلاً عن حكام سبأ في حمل لقب المكرب، وامتد نفوذ الدولة القتبانية بعد ذلك ليشمل كل مناطق النفوذ الأوساني السابق، بل ويعتقد أن نفوذ قتان امتد ليشمل مناطق سبئية، حيث يعتقد أن ذلك النفوذ قد وصل إلى بلاد ريمة امتدادا في الغالب من مناطق جنوب تهامة. وبذلك انحصرت دولة سبأ في أراضيها القديمة (مارب والهضبة الشمالية). وبعد ظهور الحميريين على الساحة السياسية اليمنية منذ النصف الثاني للقرن الثاني قبل الميلاد تقريبا اشتعل الصراع في اليمن القديم بين الدول القائمة آنذاك، حيث ظلت العلاقات والنفوذ فيما بينها بين شد وجزر، حتى تمكن الحميريون في نهاية الأمر من حسم الصراع لصالحهم بالقضاء على دولة سبأ ودولة حضرموت في مطلع العقد الأخير من القرن الثالث الميلادي، بينما كانت معين قد فقدت استقلالها على يد سبأ في القرن الأول قبل الميلاد، ومثلها قتبان التي فقدت استقلالها في القرن الثاني الميلادي. وكانت الصراعات والحروب التي تعرضت لها دولة سبأ قد أدت إلى سقوط الأسرة التقليدية التي تحكم سبأ في مطلع القرن الثاني الميلادي تقريباً، حيث انتقل حكم الدولة السبئية إلى ملوك ينحدرون من القبائل في الهضبة الشمالية، كان أبرزهم الهمدانيين والجرتيين. ويحسب للسبئيين إلى جانب فرضهم للنفوذ اليمني في الحبشة أنهم كانوا أول من شن حملات عسكرية صوب منطقة وسط الجزيرة العربية خلال القرن الثالث الميلادي، ابتداء بحملات الملك السبئي الهمداني شعرم أوتر على قرية الفاو عاصمة الدولة الكندية في دهرها الأول. ورغم القضاء على دولة سبأ في مارب في أواخر القرن الثالث الميلادي إلا أن اسمها ظل مستمراً من خلال تصدره اللقب الملكي للحميريين، الذين تلقبوا بلقب ملك سبأ وذي ريدان، وظلوا يضيفون إليه أسماء المناطق التي تخضع لهم، وهو ما سنتحدث عنه عند حديثنا عن دولة حمير. ثالثاً: دولة أوسان: مع الأسف الشديد لم تصل إلينا حتى الآن نقوش أوسانية تحدثنا عن تاريخ هذه الدولة اليمنية القديمة. ويعتبر نقش النصر الذي يعود إلى مطلع القرن السابع قبل الميلاد هو مصدرنا الرئيسي عن تاريخ هذه الدولة، رغم انه يوثق لنا تاريخ سقوطها والقضاء عليها. ونفهم من نقش النصر الذي دونه المكرب السبئي كرب إيل وتر بأن دولة أوسان كانت قد توسعت خلال القرن الثامن قبل الميلاد على حساب جيرانها، وتمكنت من انتزاع بعض أراضي الدولتين القتبانية والحضرمية. ومن خلال نقش النصر أيضا يمكن أن نعرف أن دولة أوسان قبل سقوطها كانت حدودها قد امتدت من أراضي محافظة شبوة الحالية شرقا إلى أراضي محافظة تعز الحالية (المعافر) غربا. ويحدثنا كتاب دليل البحر الأرتيري الذي تم تأليفه في القرن الثالث الميلادي بأن سواحل شرق أفريقيا (في تنزانيا وكينيا الحاليتين) كانت تسمى بالساحل الأوساني، ما يدل على أن دولة أوسان قبل سقوطها كانت قد تمكنت من مد نفوذها إلى هناك، حيث ظل هذا الساحل يحمل اسمها بعد سقوطها بحوالي ألف عام. ويبدو أن تلك التوسعات الداخلية في اليمن والخارجية في شرق أفريقيا قد جعلت ملوك دولة أوسان ينظرون لأنفسهم كأنداد لحكام دولة سبأ الذين كانوا يستأثرون بلقب المكرب، حيث يعتقد بأن والد الحاكم الأوساني مرتع كان قد حمل لقب مكرب، ومن بعده حمله ابنه مرتع الذي سقطت دولة أوسان في عهده على يد كرب إيل وتر. وقد جر تلقب ملوك أوسان بلقب مكرب غضب السبئيين عليهم، الذين استغلوا غضب الحضارمة والقتبانيين من الدولة الأوسانية بسبب انتزاعها بعض أراضيهم، فشكلوا حلفا ثلاثيا تمكن من القضاء على دولة أوسان. وقد شكلت القوات السبئية أساس القوات التي يذكر نقش النصر أنها دمرت وأحرقت المدن التابعة للأوسانيين ابتداء بمدن المعافر، وانتهاء بعاصمة الدولة الأوسانية وقصرها الملكي مسور. وتجدر الإشارة أن الدارسين لم يتمكنوا حتى الآن من تحديد عاصمة الدولة الأوسانية بشكل يقيني، حيث تدور الخلافات بينهم لتشمل العديد من المواقع الواقعة في وادي مرخة (الموطن الأول لشعب أوسان)، وتعد هجر امناب وهجر يهر أبرز تلك المواقع ترجيحا لتكون إحداها عاصمة للدولة الأوسانية. وبعد القضاء على الدولة الأوسانية خضعت معظم أراضيها للسبئيين، واستمر ذلك حتى قويت شوكة الدولة القتبانية التي اعتبرت نفسها وريثة للأوسانيين بحكم قرب أراضيهم منها، حيث توسعت خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد وتمكنت من الاستحواذ على كامل الأراضي التي كانت تابعة لأوسان قبل سقوطها. ورغم سقوط دولة أوسان إلا أن شعب (قبيلة) أوسان ظل يشكل مكونا رئيسيا من ضمن المكونات السكانية للقتبانين، وصار جزء من لقبهم الملكي. وفي القرن الأول قبل الميلاد تقريبا تمكن الأوسانيين من استعادة دولتهم في أراضيها الأصلية (وادي مرخة) مستغلين ضعف دولة قتبان ومشاكلها الداخلية، وأيضا حروبها الخارجية مع السبئيين والحضارمة. وقد تم العثور على العديد من تماثيل الملوك الأوسانيين التي تعود إلى هذه المرحلة التي تعرف بمرحلة إحياء الدولة الأوسانية. الجدير بالذكر إن الأوسانيين خلال فترة الإحياء هذه قد عبدوا المعبود القمري ود ، وهو نفس المعبود الرئيسي لدولة معين، ما يدل ربما على علاقات اجتماعية بين الجانبين. وقد تمكن القتبانيون ربما في أواخر القرن الأول قبل الميلاد من القضاء على الدولة الأوسانية (الثانية) وعاد شعب أوسان كمكون من ضمن المكونات التي تتبع الدولة القتبانية، التي سقطت بدورها خلال النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي تقريبا. رابعاً: دولة قتبان: لا نعرف تحديدا متى نشأت دولة قتبان، لكن التنقيبات الأثرية في وادي بيحان (موطنها الأصلى) أثبتت بأن الاستقرار وممارسة النشاط الزراعي يعود على الأقل إلى منتصف الألف الثانية قبل الميلاد. ويرد في نقش النصر الذي يعود إلى مطلع القرن السابع قبل الميلاد ذكر لدولة قتبان، ما يدل أنها كانت دولة من الدول القائمة في اليمن خلال القرن الثامن قبل الميلاد وما قبله. وبعد القضاء على دولة أوسان الذي دونت أحداثه في نقش النصر أعادت سبأ لقتبان الأراضي التي كانت أوسان قد اقتطعتها منها في وقت سابق. وظلت علاقة الود التي كانت قائمة بين سبأ وقتبان قائمة إلى مطلع القرن السادس قبل الميلاد، حيث بدأت قتبان تتطلع لضم كل الأراضي التي كانت تتبع أوسان قبل سقوطها، فقد اعتبرت قتبان نفسها بأنها الوريث الطبيعي للأراضي الأوسانية كما سبق القول. وفي حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد تخلى السبئيين عن لقب مكرب وعادوا إلى لقبهم القديم ملك، حيث ظهر لقب مكرب في نفس الفترة في دولة قتبان، ما يدل على أن موازين القوى في جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) قد مالت لصالح قتبان. وقد استطاعت دولة قتبان في فترة ازدهارها خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد أن تنتزع من السبئيين كل الأراضي التي كانت تابعة للأوسانيين، ووصلت سيطرة القتبانيين حتى مضيق باب المندب وسواحل البحر الأحمر القريبة منه في أرض المعافر. وقد ظل القتبانيون يتوسعون على حساب السبئيين، حيث عثر على نقش في مديرية السلفية من محافظة ريمة الحالية يتحدث عن معبد للمعبود القتباني عم في مدينة عجبم التاريخية، ما يدل على وصول النفوذ القتباني إلى هناك، امتدادا في الغالب من منطقة جنوب تهامة. ووصلوا من جهة وسط اليمن إلى منطقة ردمان في محافظة البيضاء الحالية. وقد شهدت دولة قتبان ظهور اضطرابات اقتصادية وسياسية، خصوصا بعد تمكن البطالمة من الوصول المباشر إلى الهند على يد البحار يدوكسوس الكيزيكي في عام 117 ق.م. وقد دفعت تلك الاضطرابات بعض الشعوب (القبائل) التي كانت تنضوي في إطار الدولة القتبانية للعمل على الانفصال عنها، وكان أبرزها الأوسانيون الذين عملوا على استعادة دولتهم كما ذكرنا ذلك في الحديث عن دولة أوسان. وكذلك الحميريون (بني ذي ريدان) الذين تمكنوا من توحيد صفوفهم في عام 115 ق.م ، ما مكنهم من إعلان انفصالهم عن الدولة القتبانية خلال القرن الأول قبل الميلاد، حيث انطلقوا لتأسيس عاصمتهم ظفار بالقرب من مدينة يريم الحالية. وقد ظل الحميريون يتوسعون على حساب الدولة القتبانية حتى تمكنوا أن ينتزعوا منها كل المناطق الجنوبية الغربية من اليمن بأهميتها الاستراتيجية، خصوصا بعد تحول أكثر تجارة طريق البخور البري إلى الطريق البحري في البحر الأحمر. وخلال القرن الثاني الميلادي تشعب الصراع في اليمن القديم بين الدول الأربع التي كانت قائمة آنذاك (سبأ، حضرموت، حمير، قتبان، وقد صارت قتبان خلال هذه الفترة هي الطرف الأضعف في ذلك الصراع بسبب مشاكلها الداخلية وضعف موارها الاقتصادية، حيث تناوشت أراضيها الدول الثلاث، وكانت النتيجة سقوط دولة قتبان في أواخر القرن الثاني الميلادي، لتبدأ دورة جديدة من الصراع في اليمن القديم بين الدول الثلاث المتبقية. تجدر الإشارة أخيرا بأن القوانين القتبانية التي عثر عليها تعطي دولة قتبان الصدارة في هذا الجانب على بقية الدول اليمنية القديمة الأخرى. ويأتي قانون سوق شمر في العاصمة القتبانية تمنع على رأس تلك القوانين المكتشفة، حيث حرص على حماية حقوق المستهلك عن طريق منع بيع السلع بالجملة التي يفترض بيعها بالمفرق للمواطنين، وكذلك حصر المتاجرة في الأقاليم القتبانية بالتجار القتبانيين حماية لهم من المنافسين، وفرض عقوبات مشددة على التجار المتهربين من دفع الضرائب. وتلك فقط مجرد أمثلة نوردها للمواد القانونية التي وردت في قانون سوق شمر، الذي أشرنا إليه هنا كنموذج للقوانين القتبانية. خامساً: دولة حضرموت: بناء على بعض المكتشفات يعتقد بأن البدايات الأولى لاستيطان الإنسان في جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) كانت في مشارق اليمن، حيثما قامت دولة حضرموت بعد ذلك، ومع ذلك فنحن نجهل البدايات الأولى لنشوء هذه الدولة. ونفهم من نقش النصر بأن دولة حضرموت كانت قائمة في القرن الثامن قبل الميلاد وقبله، وأن المكرب السبئيي كرب إيل وتر كان قد أعاد لها أراضيها التي كانت دولة أوسان قد انتزعتها منها، وذلك بعد قضائه على أوسان في مطلع القرن السابع قبل الميلاد. ومع الأسف فقد دخل تاريخ حضرموت بعد تلك المرحلة في غموض لف كثير من فترات تاريخها خلال العصر السابق للميلاد، ومرده إلى عدم وصولنا إلى المجموعات النقشية الحضرمية التي تتحدث عن تلك المرحلة، وقد تضاربت أراء الباحثين في تفسير التاريخ الحضرمي خلال تلك المرحلة وطبيعة العلاقة التي كانت تربطها بالممالك اليمنية القديمة المجاورة لها (قتبان، سبأ، معين). لكن تاريخ دولة حضرموت يتضح أكثر خلال الفترة الميلادية، وذلك بسبب العثور على مجموعة من النقوش الحضرمية، يأتي في مقدمتها نقوش قلعة العقلة (حصن أنود) الواقعة بالقرب من مدينة شبوة في اتجاه الصحراء. ونعرف من خلال نقوش حصن أنود أن الملوك الحضارمة كان يقام لهم حفل تنصيب في ذلك المكان فور توليهم للعرش، يحضره كبار رجالات الدولة الحضرمية، مع وفود من الدول اليمنية القديمة الأخرى ذات العلاقة الحسنة بهم، وكذلك وفود من خارج اليمن. وبالنسبة للوفود القادمة من خارج اليمن فقد عثر على أسماء وفود عربية أبرزها وفد من دولة تدمر، وكذلك وفود من الهند، ما يدل على مكانة حضرموت الخارجية خلال تلك المرحلة. ويبدو أن دولة حضرموت خلال هذه المرحلة قد شهدت ازهارا جعلها تتصدر الدول الأخرى في جنوب جزيرة العرب، حيث حمل ملوكها لقب مكرب، وذلك بعد أن أصاب الضعف والصراع دولة قتبان ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد، ويُعتقد في إطار ما نملك من نقوش أن حكام حضرموت هم آخر من حمل لقب مكرب قبل اختفائه من اليمن مع بداية العصور الميلادية. وقد امتدت حدود دولة حضرموت خلال هذه المرحلة من منطقة ظفار (حاليا في عمان) شرقا، حتى منطقة ردمان في محافظة البيضاء الحالية غربا، حيث شكلت بذلك أكبر دولة يمنية قديمة من حيث المساحة، في مقابل اعتبار دولة سبأ أكبر دولة من حيث عدد السكان. وقد ساعدت تلك المساحة الكبيرة التي شملتها دولة حضرموت بسواحلها الممتدة على خليج عدن وبحر العرب على جعلها تستحوذ على موانئ مهمة، مثل مينا قنا (بير علي في محافظة شبوة)، وميناء سمهرم (خور روري في محافظة ظفار "العمانية")، وكذلك جزيرة سقطرى بأهميتها الجغرافية والنباتية حيث كانت تتبع دولة حضرموت. ويحدثنا كتاب دليل البحر الأرتيري في القرن الثالث الميلادي عن نشاط تجاري كبير للموانئ الحضرمية، خصوصا مع بلاد الهند، وهو ما جعله يطلق اسم ملك بلاد اللبان على الملك الحضرمي اليازوس (إل عز يلط بن عم ذخر) الذي حكم في حضرموت تقريبا في مطلع القرن الثالث الميلادي، خصوصا أن حضرموت كانت تسيطر على مناطق زراعة اللبان بما فيها منطقة ظفار التي تنتج أجود أنواعه. وقد جر تدخل حضرموت في شؤون المرتفعات الغربية من اليمن عليها صراعا مريراً خاضته مع السبئيين، ثم مع الحميريين. وقد انتهى ذلك الصراع بسقوط حضرموت وضمها إلى دولة حمير، وذلك بفترة وجيزة من ضم الحميريين لسبأ. وبضم الحميريين لحضرموت على يد ملكهم شمر يهرعش في مطلع العقد الأخير من القرن الثالث الميلادي صارت دولة حمير هي الدولة الوحيدة في اليمن القديم، حيث حمل ملوكها لقب (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانة)، ثم أضافوا إليه بعد حوالي قرن من الزمان الأعراب في طود وتهامة. تجدر الإشارة بأن الحضارمة قاموا بثورات عديدة في مطلع القرن الرابع الميلادي من أجل استعادة دولتهم، لكن الحميريون تمكنوا من القضاء عليها بمساعدة القوات الأعرابية التي شكلوها. ولعل ذلك هو ما جعل الحميريين يسلمون الأراضي القديمة لدولة حضرموت (الممتدة من محافظة شبوة الحالية حتى محافظة ظفار الحالية في عُمان) لليزنيين الذين ينتمون إلى وادي عبدان في محافظة شبوة الحالية، حيث صاروا يديرون تلك المناطق في ظل اعترافهم بالتبعية للدولة الحميرية، مع وضع خاص ميزهم عن بقية الأقيال والأذواء في مناطق اليمن الأخرى. ويحسب لدولة حضرموت أن اسمها من بين كل أسماء الدول القديمة ظل مستمراً عبر عصور التاريخ اللاحقة لسقوط دولتهم إلى يوم الناس هذا، مع تغيير في المساحة الجغرافية التي كان يطلق عليها بطبيعة الحال. سادساً: دولة معين: في فترة من الفترات أعتقد الدارسون بأن دولة معين هي أقدم الدول اليمنية القديمة، ووضعوا تاريخاً تقريبيا لظهورها هو العام 1200 ق.م. وكان سبب ذلك الاعتقاد هي النقوش المعينية التي عثر عليها الرحالة جوزيف هاليفي أثناء رحلته إلى الجوف في القرن التاسع عشر، وقد دفع ذلك بعض الدارسين (أولهم إدوارد جلازر) لافتراض أن معين هي الأقدم، خصوصا أن كتب أهل الأخبار لم تتطرق لذكرها كما ذكرت سبأ وحمير، فافترضوا أن ذلك كان بسبب قدمها على سبأ. لكن الاكتشافات الحديثة أبطلت ذلك الاعتقاد، فمعين مثلا لم تذكر في نقش النصر الذي يعود زمنه إلى مطلع القرن السابع قبل الميلاد، والذي دون فيه المكرب السبئي حملاته العسكرية، بما فيها حملاته على منطقة الجوف، حيث لم يذكر معين لا من بين الحلفاء ولا من بين الأعداء. ولم يُعثر على نقوش معينية حتى الآن تعود إلى قبل تلك المرحلة. وقد ورد في نقش النصر ذكر لممالك مدن كانت قائمة في منطقة الجوف مثل هرم وكمنهو. لكن أبرز تلك الممالك التي ذكرها نقش النصر في منطقة الجوف هي مملكة نشان، وهذه المملكة لم تكن مملكة مدينة كما يعتقد البعض، لكنها كانت مملكة تستحوذ على العديد من المدن في منطقة الجوف إلى جانب عاصمتها التي حملت اسمها، حيث يذكر كرب إيل وتر في نقش النصر انه قهر نشان وأحرق مدنها. بل ويذكر كرب إيل أنه استعاد من سمه يفع ملك نشان مدن فدة ودورم (في وادي ظهر بالقرب من صنعاء) وكذلك شبام (شبام كوكبان) التي كان قد وهبها لهم ملك سبأ. وذلك يجعلنا نتعامل مع مملكة نشان كواحدة من الممالك الرئيسية التي ظهرت في اليمن القديم، فهي كانت تحكم العديد من مدن الجوف بل وتصل سلطاتها إلى مدن تقع خارج منطقة الجوف، وهو ما لم يحدث حتى مع معين التي ظهرت في فترة لاحقة. وبذلك يمكننا القول بأن مملكة نشان كانت مملكة معاصرة لممالك سبأ وقتبان وحضرموت وأوسان خلال القرن الثامن قبل الميلاد وما قبله. وبعد أن تم القضاء على نشان إثر الضربات التي ألحقها بها المكرب السبئي كرب إيل وتر ومعها بقية ممالك المدن والكيانات السياسية النافذة في منطقة الجوف خضعت الجوف للسيطرة السبئية. وبعد أن خفت القبضة السبئية على منطقة الجوف في عصر خلفاء كرب إيل وتر ظهرت لنا مملكة معين، بتحالف شمل في بداية الأمر مدينتا قرناو (خربة معين الحالية) ويثل (براقش)، ثم توسع ليشمل أكثر مدن الجوف. ووفقا لبعض المكتشفات الجديدة في الجوف يمكن أن نعيد زمن ظهور دولة معين إلى النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد. ولأن معين كانت تمثل أقصى الدول اليمنية القديمة في اتجاه الشمال، إلى جانب سيطرتها على مدينة نجران (المدينة المفصلية على طريق البخور) فقد آلت إلى معين عملية تنظيم التجارة على طريق البخور في اتجاهه الشمالي، وغالبا تم ذلك بالتوافق مع الدول اليمنية الأخرى وفي مقدمتها سبأ. ونجد في حوالي القرن الرابع قبل الميلاد بأن المعينيين صاروا يتحكمون في مدينة دادان (العلا الحالية شمال المدينة المنورة) حيث ذكرتها المصادر باسم معين مصران، بمعنى معين التي في اتجاه مصر. وصار لدادان كبير معيني يحكمها ويرتبط بالدولة المعينية الأم في جوف اليمن، وصارت هذه المستوطنة هي من تنظم عملية التجارة المعينية واليمنية مع المناطق التي تليها شمالاً، فإليها كان ينتمي التاجر المعيني زيد إل بن زيد الذي كان له علاقات تجارية مرموقة مع البطالمة في مصر في عهد ملكهم بطلميوس الثاني الذي حكم في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد. بل إن النفوذ التجاري للمعينيين قد وصل أبعد من ذلك، حيث عُثر على نقش معيني في جزيرة ديلوس اليونانية يعود زمنه تقريبا إلى النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد، وجزيرة ديلوس كانت تحظى بمكانة تجارية ودينية مهمة في بلاد اليونان خلال العصر الإغريقي ومن بعده العصر الهلينستي. وكما يقال بعد بلوغ الذروة يأتي الأفول، حيث نلاحظ أن أحوال المعينيبن بدأت بالتدهور، سواء بسبب منافسة الأنباط لهم في مناطق شمال الجزيرة، أو بسبب انعكاس الأحداث السياسية بين ممالك اليمن القديم عليها، خصوصا أنها كانت أضعف تلك الممالك وتفتقر لجيش يوازي جيوش الممالك الأخرى. والملاحظ أن معين كانت قد اختفت من مسرح الأحداث السياسية كدولة في عام 24 ق.م عندما حلت الحملة الرومانية على اليمن في منطقة الجوف، فالمؤرخ استرابون المرفق لتلك الحملة يحدثنا بأن من قاومهم في الجوف كان هو الملك السبئي إلزاروس (غالبا إلي شرح يحضب الأول). وبذلك نستشف بأن معين قد سقطت في يد السبئيين ربما خلال الربع الثالث من القرن الأول قبل الميلاد، لأن الشواهد تؤكد أنها كانت لاتزال قائمة خلال النصف الأول من ذلك القرن. ومع الأسف لم تصل إلينا حتى الآن النقوش التي تتحدث عن سقوط معين في يد السبئيين، وهل تم ذلك إثر حملة عسكرية أم على شكل اتفاق تم بين الدولتين. ورغم السقوط السياسي للمعينيين إلا أن دورهم التجاري كشعب استمر في ظل السيطرة السبئية، حيث ظلت المصادر الكلاسيكية تحدثنا عن نشاطهم التجاري وعن نوع من اللبان ينسب إليهم بعد أكثر من قرن على سقوط دولتهم. سابعا: دولة حِمْيَر: دولة حمير هو الاسم الشائع بين الناس والدارسين للدولة التي حمل ملوكها في بداية أمرهم لقب ملك سبأ وذي ريدان، وظلوا يضيفون عليه كما سيتضح لنا في ثنايا هذه المقالة. وحمير هو اسم ذكر في النقوش لحلف قبلي تم تشكيله من مجموعة قبائل، ويعتقد أن ذلك الحلف قد نشأ في عام 115 ق.م الذي يصادف بداية ظهور التقويم الحميري المعروف. وكانت القبائل الحميرية تستوطن منطقة يافع الحالية، التي ظلت حتى العصر الإسلامي تحمل اسم سرو حمير. تجدر الإشارة أن القبائل الحميرية كانت قد خضعت للدولة القتبانية بعد امتداد سيطرتها لتشمل مناطق جنوب غرب اليمن، وكان ذلك في حوالي القرن الرابع قبل الميلاد إن لم يكن قد تم قبل ذلك التاريخ. ويعد ظهور الحلف الحميري في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد مقدمة لتجميع صفوفهم، وكانت الخطوة التالية متمثلة بإعلان انفصالهم عن الدولة القتبانية خلال النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد. فقد زحف الحميريون شمالاً وأسسوا عاصمتهم ظفار في سفح حصنهم ريدان بالقرب من مدينة يريم الحالية، وحملوا لقب ذي ريدان بعد أن تحالفوا مع بعض القبائل السبئية في تلك المنطقة، وبنو ذي ريدان صارت تسمية مرادفة لحمير. ورغم أن الحميريين اكتفوا بلقب (الذو) إلا أن أذوائيتهم صارت مستقلة عن الدول المتنافسة آنذاك على ساحة اليمن القديم. ونظراً لانتقال الحميريين إلى مناطق كانت في الأصل مناطق نفوذ سبئي، فقد دخلوا باحتكاكات مع السبئيين، ويعتقد وفقا للدراسات الحديثة أنهم في نهاية الأمر قد قبلوا الدخول في تحالف طوعي مع ملوك سبأ في مارب من الأسرة التقليدية، نشأ عنه لقب (ملك سبأ وذي ريدان)، وكان أول من حمله الملك السبئي ذمار علي وتر يهنعم في مطلع القرن الأول الميلادي تقريبا. ومن الملاحظ أن الملك ذمار على هذا ومن حكموا بعده من ملوك الأسرة السبئية التقليدية قد حرصوا على حمل لقبين شخصيين أحدهما سبئي والأخر حميري، فلقب وتر الخاص بذمار علي هو لقب سبئي، ولقب يهنعم هو لقب حميري ذو أصل قتباني. ويعتقد أن ذلك الاتحاد أو التحالف الطوعي الذي أقامه ملوك سبأ من الأسرة التقليدية مع الأذواء الحميريين قد استمر قرابة قرن من الزمان. لكن الاضطرابات التي شهدتها دولة سبأ في مارب والحروب التي نتجت بين الدول والقوى القبلية اليمنية القديمة خلال تلك الفترة قد أدت إلى سقوط حكم الأسرة التقليدية في سبأ في مطلع القرن الثاني الميلادي تقريباً، حيث ولد ذلك صراعاً بين قبائل الهضبة السبئية المحيطة بصنعاء حول من يكون له مُلك الدولة السبئية منهم. وقد دفع ذلك الأذواء الحميريين للتخلي عن لقبهم القديم (ذو) وحمل اللقب الملكي، حيث أعلنوا تلقبهم بلقب ملك سبأ وذي ريدان، وكان أول حاكم حميري يحمل ذلك اللقب الملكي هو الملك ياسر يهصدق. ونجد أن الحميريين قد قدموا أنفسهم هنا بصفتهم حكاماً لدولة سبأ، واعتبروا أنهم الأحق بحكمها من قبائل الهضبة الشمالية، ولذلك اتخذوا من المعبودات السبئية معبودات رسمية لهم، وكتبوا نقوشهم باللهجة السبئية، خصوصا إنهم كانوا قد تمكنوا من انتزاع العديد من المناطق السبئية، وصارت دولتهم تمتد من عدنجنوبا حتى نقيل يسلح شمالا، ومن يافع شرقا حتى جنوب تهامة غربا. ظل الصراع سجالاً بين الملوك الحميريين وبين ملوك سبأ في مارب من غير الأسرة التقليدية، حيث أن ملوك الدولة السبئية في فترة قوتهم كانوا يحملون لقب ملك سبأ وذي ريدان الذي كان في الوقت نفسه اللقب الرسمي لحكام دولة حمير، بينما يعودون في فترات ضعفهم إلى حمل لقب ملك سبأ فقط. وقد انتهت هذه المرحلة في مطلع العقد الأخير من القرن الثالث الميلادي على يد الملك الحميري ياسر يهنعم مع ابنه شمر يهرعش، حيث قبلت سبأ في عهد آخر ملوكها في مارب من بني جرة الملك نشأ كرب يأمن يهرحب بالدخول ضمن الدولة الحميرية، ويعتقد أن تلك العملية تمت بشكل طوعي، أو لنقل أنها ربما كانت في إطار إحساس الملك السبئي بعجزة عن مقاومة المد الحميري المتصاعد. وبعد أن انفرد شمر يهرعش بحكم الدولة الحميرية بدأ يتطلع لضم دولة حضرموت إلى دولته، خصوصاً أن دولة حضرموت صارت هي الدولة الوحيدة المتبقية إلى جانب الدولة الحميرية في جنوب جزيرة العرب، وقد تسنى له ذلك في عهد الملك الحضرمي يدع أب غيلان بن يدع إل بيّن بن ربشمس، حيث سقطت حضرموت عسكريا تحت السيطرة السبئية كما وضحنا ذلك عند حديثنا عن دولة حضرموت. وعلى إثر ذلك أضاف شمر يهرعش حضرموت ويمانة إلى لقبه الملكي القديم (سبأ وذي ريدان)، ويمانة هي السواحل الجنوبية لليمن المطلة على خليج عدن، وصار بذلك أول تبابعة حمير، وفقا لقول المصادر العربية بأن التبع هو الملك الحميري الذي يمتد حكمه إلى حضرموت والشحر، والشحر هي المناطق الساحلية من حضرموت التي كانت جزء من يمانة. وقد ظل خلفاء شمر يهرعش من ملوك حمير يحملون ذلك اللقب حتى مطلع القرن الخامس الميلادي، عندما أضاف إليه الملك أبي كرب أسعد (أسعد الكامل) الأعراب في طود وتهامة، وكان ذلك نتيجة للحملات العسكرية الحميرية التي تمت صوب منطقة وسط الجزيرة العربية وشمالها، وكأن أسعد الكامل بهذا اللقب أراد أن يقول لنا بأنه صار ملكا للجزيرة العربية. وقد ظلت الدولة الحميرية محتفظة بقوتها حتى أواخر القرن الخامس الميلادي عندما بدأ الضعف يدب في أوصالها بسبب الصراعات الدينية والقبلية، وقد ازدادت دولة حمير ضعفا في مطلع القرن السادس الميلادي، حيث صار الأحباش أصحاب كلمة مسموعة لدى ملكها معدي كرب يعفر، بل وصار هناك حامية حبشية مستقرة في ظفار عاصمة حمير. وقد ولد ذلك ثورة تزعمها يوسف أسأر يثأر (ذي نواس) في عام 517 م تقريبا، أطاحت بالملك معدي كرب يعفر. وتخلى الملك يوسف بعد توليه الحكم عن لقب التبابعة الطويل (ملك سبا وذي ريدان وحضرموت ويمانة وأعرابهم في طود وتهامة) وحمل بدلا عنه لقب (ملك كل الشعوب). وغالبا فإن تخليه عن ذلك اللقب يعود إلى الضعف الذي صارت تعاني منه الدولة الحميرية، وعجز ملوكها عن فرض سلطة دولتهم على كل المناطق المشمولة في ذلك اللقب الطويل. وقد تداخل الصراع في اليمن خلال هذه الفترة بين الجوانب السياسية والدينية والتجارية، وصار الصراع في اليمن انعكاسا للصراع الإقليمي بين الفرس الساسانيين من جهة والبيزنطيين ومعهم دولة أكسوم الحبشية من جهة أخرى. لذلك فقد دعمت بيزنطة احتلالا حبشيا لليمن تمكن من إسقاط الدولة الحميرية عام 525 م، كان سببه المعلن حماية نصارى اليمن من التنكيل الذي ألحقه بهم الملك الحميري يوسف أسأر، بينما كان جوهره يتمثل برغبة السيطرة على اليمن بموقعه الاستراتيجي على طرق التجارة الدولية في ظل صراعهم مع الفرس الساسانيين، وهو ما سيتضح لنا من خلال الموضوع التالي. ثامناً: سقوط الدولة اليمنية القديمة تحت نير الاحتلال: بعد انقلاب يوسف أسأر يثأر (ذي نواس) على الملك الحميري السابق له الموالي للأحباش معدي كرب يعفركما ذكرنا عند حديثنا عن دولة حمير نعرف من نقوش الملك يوسف أنه شن حملات عسكرية ضد الحامية الحبشية التي صارت تتمركز في العاصمة الحميرية ظفار. وتذكر المصادر العربية والسريانية والحبشية والبيزنطية أنه قام بالتنكيل بمواطنيه المعتنقين للديانة المسيحية. وقد دار خلاف حول اعتناق الملك الحميري يوسف للديانة اليهودية من عدمه، وكذلك سبب تنكيله بالنصارى، هل بسبب ديانتهم أم لكونه نظر لهم كعملاء لدولة أكسوم الحبشية ومن ورائها الدولة البيزنطية. وبغض النظر عن ذلك الاختلاف فما يهمنا أن تنكيل الملك يوسف قد أفضى إلى إرسال الأحباش وبعون بيزنطي حملة عسكرية انتهت بالقضاء على الدولة الحميرية في عام 525م. وحرص الأحباش في بداية الأمر على تنصيب تابع يمني موالي لهم ليحكم اليمن تحت سيطرتهم (سميفع أشوع) الذي تلقب بلقب التبابعة الطويل (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانة وأعرابهم في طود وتهامة). لكن في واقع الحال كانت السلطة الحقيقية في يد القادة العسكريين الأحباش، وكان أبرزهم حسبما تذكر المصادر العربية هما إرياط وأبرهة. وبعد قرابة عشر سنوات من تولي سميفع أشوع ثار عليه أبرهة، وأعلن نفسه نائبا للملك الأكسومي في اليمن مع تلقبه بلقب التبابعة الطويل، وكان ذلك بعد تخلصه من القائد الحبشي إرياط، ونجد أبرهة في نقوشه المتأخره يسقط نيابته للملك الأكسومي ويكتفي بوضع لقبه الملكي. وكان ذلك بمثابة إعلان استقلاله باليمن كمملكة خاصة به وبأولاده من بعده. وتم ذلك بتحريض من البيزنطيين نظراً لكون أبرهة كان يعتنق النصرانية على مذهبهم وليس على مذهب الدولة الأكسومية، وذلك لأنه في صغره كان عبداً لتاجرٍ بيزنطي في مدينة عدوليس الحبشية الساحلية. وكان البيزنطيون يطمعون باستخدام أبرهة ضد نفوذ خصومهم الفرس في بلاد العرب. وقد قامت الثورات اليمنية ضد أبرهة الحبشي وحكمه، كان أبرزها ثورة تزعمها يزيد بن كبشة الكندي، لكن تلك الثورات توقفت بسبب تهدم سد مارب، حيث هب اليمنيون إلى جانب أبرهة الحبشي لإصلاح السد وإعادة إعماره. وتمت عملية افتتاح أبرهة لإصلاح السد في حفل كبير حضرته وفود من أكسوم وبيزنطة وفارس والإمارتين العربيتيين اللخمية والغسانية. وبعد أن استقرت لأبرهة الأمور في اليمن بدأ بإرسال حملاته صوب وسط جزيرة العرب، حيث توجهت إحداها صوب نجد، اصطدم خلالها بالمنذر بن ماء السماء اللخمي، وانتهت بعقد صلح معه. أما حملته الأشهر فقد استهدفت بلاد الحجاز خصوصا مكة، وبرغم سذاجة السبب الذي سوقته لنا المصادر العربية لحملته تلك، بقولها إن أعربياً تبول في كنيسة بناها أبرهة في صنعاء فأراد أبرهة الانتقام بهدم الكعبة، إلا أن أبرهة كان في حقيقة الأمر يهدف للسيطرة على الحجاز لكي تتواصل اليمن الواقعة تحت سيطرته ببلاد الشام الخاضعة لسيطرة البيزنطيين وحلفائهم الغساسنة. وكان أبرهة وحلفائه البيزنطيين يهدفون من وراء ذلك الهيمنة المطلقة على طريق البحر الأحمر التجاري وظهيره البري الذي يمر في غرب جزيرة العرب، مقابل سيطرة منافسيهم الفرس على طريق الحرير، إلى جانب رغبة أبرهة بانتزاع تجارة الإيلاف من أيدي القرشيين. ونعلم جميعا النهاية المأساوية التي انتهت بها حملة أبرهة على مكة بتدخل إلهي، وهو ما يحكيه لنا القرآن الكريم في سورة الفيل، حيث عاد أبرهة إلى صنعاء جريحا وتوفى على إثرها. وخلفه ابنه يكسوم (من أم حبشيه)، ثم ابنه مسروق ابن أبرهة (من أم يمنية)، وكان الاثنان وفقا للمصادر العربية شديدين على أهل اليمن. وفي عهد مسروق حدثت ثورة سيف بن ذي يزن الذي استعان بالفرس من أجل طرد الأحباش من اليمن، حيث رحب الفرس بذلك ليكون لهم موطئ قدم في اليمن بموقعها الاستراتيجي على طرق التجارة العالمية، وهي نفس الأسباب التي دفعت بيزنطة لدعم احتلال الأحباش لليمن. وتحكي المصادر بأن كسرى الفرس دعم سيف بن ذي يزن بست مأة سجين، ويرفض بعض المؤرخين تلك الرواية ويذكرون أن الدعم الفارسي بلغ ستة آلاف جندي وليس ست مأة. وفي كلا الحالتين ما كان لذلك العدد أن يحرر اليمن من الأحباش، خصوصا أن المصادر تذكر بأن الملك مسروق بن أبرهة قد واجههم بجيش قوامه مأة ألف مقاتل. وذلك يعني بأن الدعم الفارسي قد حرك القوى الكامنة لليمنيين، حيث انضموا إلى سيف بن ذي يزن ابتداء بمناطق مشرق اليمن في حضرموت، وظلوا عددهم يتكاثر من بقية مناطق اليمن كلما اقتربوا من صنعاء التي اتخذها الأحباش عاصمة لهم. وبعد مقتل مسروق الحبشي وهزيمة جيشة وطرد الأحباش من اليمن تم تنصيب سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن مع اعترافه بالولاء للفرس ودفع الجزية لهم، وتقاطرت الوفود العربية لتهنئته بمن فيهم كبير مكة عبد المطلب بن هاشم. لكن الملك سيف سرعان ما قتل على يد بعض حراسه الأحباش (من رماة الحراب) الذين استبقاهم لديه، وقد اختلفت التفسيرات حول دوافع قتلهم له: هل كانت دوافع شخصية، أم بتحريض من الدولة الاكسومية بغرض الانتقام، أم أنها كانت بتخريض من الفرس أنفسهم؟ ومن يقولون أن عملية مقتل الملك سيف تمت لصالح الفرس يعتمدون على كونهم المستفيدين من مقتله، بدليل تقاعسهم عن تنصيب ملكاً آخر لليمن بديلا عنه، ومسارعتهم ﻹعلان اليمن ولاية فارسية. تجدر الإشارة هنا أن السيطرة الفارسية في اليمن ظلت تتقاصر بمرور الزمن لصالح زعماء القبائل اليمنيين، حتى أنه عند ظهور الإسلام لم يكن الفرس يسيطرون إلا على مدينتي صنعاءوعدن. وبعد إسلام آخر والي فارسي على اليمن (باذان) أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ما تحت يده، وولى غيره على بقية مناطق اليمن.. وتلك قصة أخرى تدخل في ثنايا التاريخ الإسلامي لليمن.