كوفي انان الرجل الهادئ القادم من أفريقيا والذي دائما يتحدث بنبرة هادئة تكاد أن يكون لها نفس الإيقاع يكون قد قضى في الأممالمتحدة حتى نهاية هذا العام أربعين سنة منها عشر سنوات كأمين عام للمنظمة الدولية والذي انتخب بعد صراع لإزالة الأمين العام السابق بطرس غالي عام 1997. وبقدر ما يتفق على حسن أدائه في إدارة الأزمات والنزاعات الدولية بالقدر نفسه هناك من يختلف معه، ولكن هناك اتفاقا على وصفه بالدبلوماسي الجيد الذي يسعى إلى الحوار بدلا من الانفصال ويسعى إلى التعددية في العمل الدبلوماسي بدلا من الأحادية. وربما شاءت الظروف الدولية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية كلها واندلاع عدد من الأزمات في أفريقيا وآسيا في أن تضع هذا الرجل والمنظمة الدولية دائما في الواجهة من المشهد السياسي الدولي. وقد ورث أمانة الأممالمتحدة بعد أن وضعت إدارة الرئيس الاميركى السابق كلينتون السابقة كل ثقلها لإزاحة الأمين العام السابق بطرس غالي وفي مرحلة لم تتبلور ملامحها بعد أي مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. وجاء في مرحلة أحادية القطب الواحد وفي الفترة التي جرى فيها الترويج لمفهوم النظام العالمي الجديد وبروز مفهوم العولمة كسمة من سماء مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وإذا شهدت الأممالمتحدة كمنظمة دولية حالات من الجمود أثناء الحرب الباردة غير انها بعد أزمة الخليج واحتلال العراق للكويت شهدت حضورا دوليا متميزا في المشهد السياسي الدولي. وعلى أثر هذه الأزمة أصبحت الأممالمتحدة مرجعا دوليا لحل النزاعات ومن أجل تنشيط فعاليتها طرحت مسألة الإصلاح ليشمل إصلاح الهياكل الأساسية للمنظمة الدولية خصوصا الإدارية والمالية. وقد ورث كوفي انان خطة الإصلاح التي وضعها بطرس غالي قبل انتهاء ولايته الأولى والأخيرة لمواجهة التحديات التي تشغل بال العالم فهناك الأزمة العراقية التي ما زالت تفرض تداعياتها وهناك الصراع القديم العربي الإسرائيلي وقضية الشرق الأوسط وهناك في الوقت ذاته إفرازات الحرب في البلقان بعد انهيار يوغوسلافيا السابقة. ويضاف إلى ذلك النزاعات التي شهدتها القارة الأفريقية خصوصا في راوندا وفي بروندي وفي الكونغووالصومال وفي سيراليون. ولكون الأمين العام كوفي انان كان يشغل منصب وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام كان على اطلاع وعن كثب على ملفات كل الأزمات التي شكلت تحديا كبيرا لدور المنظمة الدولية. ويضاف إلى ذلك القضايا التي تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدان العالم الثالث وللبلدان الأكثر فقرا ومسائل حقوق الإنسان والأوبئة والأمراض خصوصا مرض انعدام المناعة المكتسب (الإيدز). ومع انتهاء ولاية كوفي انان الثانية ثمة انقسام في تقييم أدائه وعمله على مدار السنوات العشر التي شغل فيها أعلى منصب ولأكبر منظمة دولية في العالم. ويلاحظ السفير الباكستاني أكرم منير في تصريح ل«الشرق الأوسط» أن فترة الأمين العام كوفي انان تميزت بمرحلتين الأولى التي أطلق عليها «فترة شهر العسل» والتي مثلت كل السنوات الخمس الأولى من ولايته ويقول السفير منير «كان يتمتع بدعم كبير من كل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لذا مكنته تلك المرحلة من لعب أدوار مختلفة». سواء في العراق مثل قيامه بحل أزمة القصور الرئاسية التي اندلعت عام 1998 إثر أزمة بين بغداد ومفتشي الأممالمتحدة عن أسلحة الدمار الشامل. وحين عاد من بغداد استقبل كبطل لإطفاء فتيل أزمة أوشكت على اندلاع حرب على العراق انذاك. وحاول أثناء تلك الفترة وضع وثيقة لإصلاح الهيكل الأساسي للمنظمة الدولية حظيت على تأييد الدول الخمس الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين. وتتمثل المرحلة الثانية التي أنهت فترة العسل مع انتهاء السنة الأولى من ولايته الثانية ومع مجيء إدارة بوش الابن وشكلت هذه المرحلة منعطفا في حياة الأمين العام وما زال أثرها حتى الآن. وعمليا تبدأ هذه المرحلة بعد الحرب الأميركية على العراق وعندما شهد مجلس الأمن خصوصا بين الخمسة الكبار انقساما حادا من هذه الحرب. ويقول السفير الباكستاني «هذا الانقسام قد قاد إلى حقيقة وهي أن الأممالمتحدة وجدت نفسها في وضع ليس لديها فيه أي موقف واضح من حرب العراق». وبالرغم من أن الأممالمتحدة قبل هذه الحرب كان لها دور أساسي في العراق ولكن تراجع هذا الدور وانعدامه بعد الحرب وأثناءها قد أثر بشكل خطير على مصداقية المنظمة الدولية وعلى أمينها العام. وتوالت الأزمات سواء مع الإدارة الأميركية أو مع الآخرين واندلعت فضيحة النفط مقابل الغذاء وما تبعها من قضايا الفساد الإداري وأثيرت وبصوت عال قضايا الفساد الإداري والرشوة. وتبع ذلك الكارثة نتيجة الهجوم الإرهابي على مقر الأممالمتحدة في بغداد. ويتفق مسؤولون في الأمانة العامة وجميع أنصار الأمين العام كوفي انان الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» على أن فضيحة النفط مقابل الغذاء كانت من المراحل الصعبة في حياة انان والتي كادت أن تطيح به في الوقت الذي ظهرت فيه أصوات من الكونغرس الأميركي تطالب بتنحيه من منصبه كأمين عام للمنظمة الدولية. ونظرا لما يتمتع به من دعم خاصة من أغلبية دول أفريقيا وأوروبا والصين وروسيا قرر مواصلة عمله حتى انتهاء ولايته الثانية بالرغم من الهجمات القاسية ضده في وسائل الإعلام الأميركية والغربية. ويتفق أغلبية من تحدثنا إليهم أن المشكلة قد أضرت بصورة كوفي انان ويرى دبلوماسي رفيع المستوى «أن انان منذ تلك الفترة سعى إلى تحسين صورته واستعادة مصداقيته من خلال تقديمه لورقة الإصلاح وعقد قمة الأممالمتحدة». وبالرغم من الضرر الذي أصاب الأمين العام كوفي انان غير أن الرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتساري يعتقد أن انان استطاع أن «يدير مهمة صعبة للغاية وبطريقة نموذجية» ويقارن اهتساري عمله مع ثلاثة أمناء عامين سابقين قياسا إلى عمله مع الأخير ويقول «لديه ميزة معرفة المنظمة بشكل أفضل لأنه قام بوظائف عديدة فيها». ويصفه بعض الدبلوماسيين بالرجل الجدي وأنه حاول أن يتعامل مع عدد من الأزمات المعقدة خلال السنوات العشر الماضية ويقول دبلوماسي من جنوب افريقيا «إنه ساهم جوهريا في إيجاد حلول لبضعة نزاعات خصوصا في أفريقيا وأنه حاول المساهمة في إيجاد حل لأزمات أخرى». وأشار إلى الجهود الدبلوماسية الأخيرة فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي. وأعرب السفير الباكستاني عن قناعته أن الأممالمتحدة بدأت عاجزة خصوصا في الشرق الأوسط وإزاء النزاع الإسرائيلي الفلسطينيوالعراق حاليا إضافة إلى فشلها في الكونغو وفي الصومال وفي دارفور وفي سيراليون. وحرص الأمين العام في بيانه الأخير أمام الجمعية العامة على أن يعطي الصراع العربي الإسرائيلي مساحة كبيرة من اهتمامه ويعتقد بعض الدبلوماسيين العرب أن حماسه لمعالجة القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط كان أكبر في سنوات ولايته الأولى قياسا إلى الولاية الثانية. ويقول سفير فلسطين رياض منصور «إن مواقفه في العام الأخير لم تكن بنفس المستوى نظرا للمشاكل التي واجهها ونظرا لنفوذ بعض القوى (أميركا) ونظرا للهجمات التي تعرض لها ساهمت في تكبيل بعض مواقفه وأثرت على صنع القرار في الأممالمتحدة». ويرى دبلوماسيون آخرون أن الأمين العام كوفي انان وضع الأممالمتحدة ومجلس الأمن في مأزق عندما اندفع مع الأميركيين باتخاذ قرار يقرر نشر قوات دولية في دارفور بالضد من رغبة الحكومة السودانية ويقول إن «هذه قضية حساسة ومعقدة لا تساهم في تحسين صورة الأممالمتحدة ولا الأمين العام الذي حاول أن يضع كل ثقله وراء هذه القضية». ويعتقد الكثير من الدبلوماسيين وخبراء الأممالمتحدة أن الأثر المهم الذي سيتركه كوفي انان البالغ من العمر 68 عاما هو توسيع عمليات حفظ السلام قياسا لما كانت عليه قبل 15 عاما وأثناء السنوات العشر اتسعت هذه العمليات ليتم نشر أكثر من 115 ألفا من قوات حفظ السلام وفي مناطق مختلفة من العالم. رغم من أن البعض منها قد ساهم بنجاح في استعادة الأمن والاستقرار ولكن البعض منها سجل فشلا ذريعا ونموذجها في الكونغو وفي هايتي وفي تيمور الشرقية وما صاحب بعض هذه العمليات من فضائح في سوء استخدام المصادر المالية أو فضائح تتعلق بالتحرش الجنسي خصوصا القوات الموجودة في الكونغو وفي ليبيريا وفي كوسوفو. ويثني عدد من الدبلوماسيين على الجهود التي بذلها الأمين العام من أجل إنشاء مجلس حقوق الإنسان وتكوين لجنة الأممالمتحدة لعمليات حفظ السلام. ويرى دبلوماسي رفيع من الوفد الروسي أن أهم ما حققه كوفي انان هو وضع الدبلوماسية المتعددة الأطراف في واجهة عمل الأممالمتحدة وقال«نحن نزكي هذه الدبلوماسية ونحن نقدر هذا الجهد». وأضاف «لا نستطيع القول إن هذا الجهد قد أحرز نجاحا تاما بنسبة مائة بالمائة» وهو يشير بذلك إلى الأزمات الصعبة التي تواجهها الأممالمتحدة حاليا منها الوضع في العراق والشرق الأوسط إضافة إلى أزمتي ملف إيران وكوريا الشمالية النووي. ومازالت واشنطن تعتقد أن الأمين العام كوفي انان لم يحقق الإصلاحات الإدارية والمالية للمنظمة الدولية ولذا استخدمت سياسة العصا والجزرة في اعتماد ميزانية الأممالمتحدة. ويعتقد السفير الأميركي جان بولتن بأن الأمين العام كوفي انان دبلوماسي جيد لكن تنقصه الخبرة الإدارية وثمة اعتراض حاد من قبل الإدارة على الطريقة التي أدار بها الأمين العام بعض دوائر الأممالمتحدة وثمة اعتراض على الطريقة التي عين فيها الأمين العام بعض الأفراد لمناصب عالية في الأمانة العامة ولم يخف بولتن مطالبة الأمين العام الجديد من تطهير بيت الأممالمتحدة الزجاجي من عدد من الموظفين الدوليين الكبار. ويتفق سفير غانا على أن الأمين العام لم يحقق إلا الشيء القليل من الإصلاح الإداري للمنظمة الدولية ويعتقد السفير الباكستاني أن الفساد جزء من أي بيروقراطية في العالم ويقول «إن بيروقراطية الأممالمتحدة تختلف لكونها ذات بعد دولي». ويرى موظف دولي كبير في عهد الأمين العام السابق بطرس غالي أن كوفي انان قد ساهم في تدمير الأمانة العامة وجعل المناصب العليا من حصة الأميركيين والغربيين واستبعد دول العلم الثالث وقال «إن هذا الأمر يتناقض وميثاق الأممالمتحدة» ويعتقد أنه من أجل تقييم ما أنجزه الأمين العام كوفي انان يجب النظر إلى الأسباب التي دفعت إلى استبعاد بطرس غالي من الأمانة العامة. ويقول «إن الأول كان أكثر استقلالا في إدارة عمل المنظمة الدولية» ويمضي في القول «إن انان أحيانا يبدو عاجزا في قول شيء في الوقت الذي ينبغي أن يقول فيه مثل الموقف من الحرب على العراق». وبالتأكيد لا يمكن لأي مراقب أن ينسى دور كوفي انان في المجزرة التي وقعت في راوندا والتي ذهب ضحيتها الآلاف من التوسي وتبقى في الذهن المجزرة ضد المسلمين في سربينيتسا ولكن أنصاره من الدول الأفريقية ومن الصين وروسيا قللوا من شأن دور الأمين العام ومثلما قللوا من فضيحة النفط مقابل الغذاء. ويقول سفير جنوب أفريقيا دوميساني كومالو «إن برنامج النفط مقابل الغذاء ليس مشكلته ويجب أن نضع اللوم على الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وأنه قد واجه وقتا صعبا مع راوندا ومع ذلك أنها مشكلة مجلس الأمن».