حين طلب مني المساهمة في كتابة تقديم للطبعة الثانية من الكتاب ( الحواري ) السياسي التاريخي الذي أجراه الأستاذ صادق ناشر مع المناضل الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل ، وهو الكتاب المسمى " يحيى المتوكل .. حضور في قلب التاريخ " ، ترددت كثيرا ولم استحسن الفكرة، وتجاهلت الطلب لفترة حتى كرر للمرة الثانية وشجعني بعض الأصدقاء ، وهم من أصدقاء يحيى المتوكل على الكتابة حول الكتاب باعتباره صار وثيقة تاريخية خاصة بعد رحيله المأساوي ، والحقيقة ان ضعف الاستعداد لدي لعدم المساهمة في البداية في تقديم الكتاب في طبعته الثانية إنما كان يعود لعدة أسباب منها أولا : ان الشخص المعني بتقديم كتابه لم يعد بيننا حاضرا ليشهد على ما كتب حول شهادته التاريخية ، في هذه المقدمة . ثانيا : ان هناك من قضايا الاتفاق الكثيرة مع محتوى الكتاب ، بقدر ما هنالك قضايا هي مثار خلاف ، وما تزال حتى اللحظة قضايا خلافية ، والمشهد السياسي الوطني اليمني وتطوراته اليوم شاهد حي على ذلك . ثالثا : ان علاقتي بالأستاذ الفقيد يحيى المتوكل محدودة وسطحية ، لم تربطني به صلة شخصية أو علاقة إنسانية حميمة ، ويمكن ان يكون لطريقة موته المأساوية التي أودت بحياته ، وما كتب عنه من سجايا وصفات وخصال إنسانية ، وما عرفته عنه سماعا قبلا من بعض أصدقائه الخلص ، منهم رفيق عمره جارالله عمر ، والصديقان عبدالعزيز البغدادي واسماعيل الوريث هو ما عمق لدي احترامي له بعد رحيله أكثر . رابعا : هو علمي من الصديق صادق ناشر انه كان ينوي بالاتفاق مع الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل لاستكمال وإضافة أشياء جديدة إلى الكتاب . ويمكن انه كان لعودتي إلى قراءة الكتاب أثناء إعدادي لنشر كتابي عن " ثورة 26 سبتمبر بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة " وما وجدته من إجابات ورؤى جريئة فيها من الرؤى النقدية الكثير خاصة لبعض مفاصل التاريخ ما قبل الثلاثة عقود الأخيرة ، هو ما شجعني على كتابة هذا التقديم لكتاب يستحق ان يكون موضوعا للنقاش والحوار ، ويستحق أكثر القراءة باعتباره اليوم وثيقة سياسية تاريخية هامة لشخص وقامة سياسية وفكرية لها إسهامها الكبير في صناعة وصياغة مراحل هامة وانعطافية في مسار تاريخنا اليمني المعاصر له التحية والسلام ، والطمأنينة وهو بين يدي الباري عز وجل نقسم الكتاب الحواري في تقديري إلى قسمين : القسم الأول يمتد من الفصل الأول إلى الفصل السادس ، ويبدأ القسم الثاني من الفصل السابع إلى الثامن هي رحلة العمر في السياسة والتاريخ خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، والتي شهدنا فيها نهايته أو رحيله المأسوي الفاجع ، وقبل ان يقول كلمته الأخيرة . ومن صلاتي الشخصية بأصدقائه وماعرفته منهم عنه ، قبل رحيله وبعد ذلك ، إضافة إلى معرفتي الشخصية المحدودة به ، وما كتب عنه وحوله ، وما قرأته من الكتاب الحواري الذي بقي تحت نظري للقراءة طويلا ، وتفحصته بعمق قارئا لما بين السطور ، تكون لدي تقييم واضح لشخصية هذا الرجل كقائد وإنسان ، يمكنني تلخيصها أو إيجازها في التالي : 1 أنني أقف أمام شخصية حوارية تمتلك من روح النقد الكثير ، شخصية لا يمكن تجاهل دورها ومكانتها في مسار المرحلة ، وخاصة في بعض مفاصله السياسية والانعطافية مثل نوفمبر ، واتفاق جدة مارس 1970 . 2 شخصية تمتلك ذاتيا كاريزما القائد بالفعل وليس بالقوة وبالمصادفة التاريخية البحتة ، فقدت اليمن ثلاثة من اهم الشخصيات القيادية التي تمتلك كاريزما القائد والزعيم كان فقدانهم وخسارتهم بالموت المريب في زمن متقارب ، لم يمر بين الاول والثاني جار الله عمر ، يحيى المتوكل اكثر من بضعة ايام وبعدهم بسنة فقدنا في حادث مماثل للفقيدين الاولين الاستاذ مجاهد ابو شوارب ، حقا .. إنها لمن الصدف العجيبة المثيرة لحيرتنا مع سؤال القدر ، استغفر الله ! 3 قائد سياسي يمتلك قدرا كبيرا من روح الموضوعية ، إضافة إلى قدرة ذهنية حاضرة قادرة على التقاط الجوهري في الأشياء والأحداث والوقائع . 4 قائد سياسي ذو رؤية تاريخية ، أي أنه شخصية فكرية وسياسية قادرة على الربط بين الأحداث والوقائع والتأسيس عليها في صياغة مواقفه وأفكاره السياسية ، شخص لا يلتقط الجوهري والأساس في الوقائع والأحداث فقط ، بل يربط فيما بينها ليقدم على خلفية ذلك قراءته الخاصة . 5 قائد سياسي يمتلك ذاكرة تاريخية حية ، وحين يتوهم البعض ان ذاكرته تخونه في بعض المواضع أو أنه لم يصب كبد الحقيقة التاريخية ، فإنما يفعل ذلك أو يتعمد فعل ذلك لأسباب سياسية خاصة به . 6 قائد سياسي يمتلك عقلية أو رؤية شمولية في النظر للأشياء والحقائق والوقائع ، أي أنه ليس عقلية أحادية تجزيئية في النظر للأمور ، ولوقائع التاريخ تحديدا ، وهي سمة أو ملمح هام من ملامح القائد الناجح ، قليل المثالب والعورات . 7 شخصية تمتلك في ذاتها القدر الكبير من الاستقلالية في التعبير عن نفسها ومواقفها ، أي انه ليس شخصية تابعة ، سطحية ، ضعيفة ، دون رأي ، ودون كرامة شخصية ، مثل الكثيرين الذين تطفح بهم الحياة السياسية الرسمية اليوم . 8 يمكننا القول ان الفقيد أنجز حالة قطيعة أو بالأصح حالة تحرر من سلطة المذهبية والسلالية فقد توجة شخصياً على رأس حملة عسكرية الى حجة والى منطقته شهارة . وقام بتدمير منزل اسرته مع اول اسبوع للثورة ، كما انه لم يكن متعصبا للطائفة ، اذ لم يكن طائفيا ، وهي الطائفية السياسية التي حكمت الشمال سابقا وهي اليوم تحكم اليمن الموحد كله ، وكان الفقيد المتوكل على صلاته الشخصية بالزعامات المشيخية والقبلية مع فكرة الدولة الحديثة وسلطة القانون ، وليس بدون معنى او تفسير توليه لادارة وزارة الداخلية ، لمرات متعاقبة وفي سنوات ومراحل مختلفة كان واحدا من الداعين الى الدولة الحديثة ، مثله مثل الاستاذ ، محسن العيني ، ولكن ليس كل ما يتمناه العقل يدركه الواقع ، فحقائق الواقع كانت اصلب واقوى من معادلاتهم النظرية والذهنية . 9 يمكن القول ان يحيى المتوكل يمتلك قدرا كبيرا وعاليا من روح وشخصية القائد التوافقي ، الذي يجد فيه الكثير من المغايرين له في الرؤية والموقف ، الكثير من القواسم المشتركة ، سياسيا ووطنيا ، وهو ما يفسر علاقته الإنسانية الحميمة بالجميع ، وخاصة بعض قيادات المعارضة البارزين ، ولا أنسى لحظة دفن الشهيد جارالله عمر وهو على حافة قبره والدموع تذرف من عينيه وهي لحظة إنسانية عميقة تكشف عن عمق التجلي الإنساني في شخصية هذا القائد الكبير والإنسان الجميل حيا وفقيدا في ذمة الله ، ودائما الشخصيات التوافقية في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي ، دائما ما تكون شخصيات ذات أفق إنساني واسع ، تقبل بسهولة بالآخر ، وتمتلك من الاستعداد الداخلي الكثير للاعتراف بظاهرة التعدد والتنوع ، والحق بالاختلاف ، وهو ما يفسر شخصيته التوافقية . وعلى خلفيه كل ذلك استطيع القول إنني على اتفاقي أو اختلافي مع بعض ما جاء في الكتاب الحواري خاصة الفصليين الأخيرين السابع ، والثامن منه - يمكنني القول إنني استمتعت معرفيا وتاريخيا بقراءتي للكتاب ، وبالقدرة الذهنية والعقلية النافذة للفقيد يحيى المتوكل ، في الغور إلى عمق الأشياء بكلمات بسيطة ، وبلغة سهلة ومركزة ، وبقدرته على الاسترسال بالتفاصيل الصغيرة العادية ولكن الجوهرية في سياق تجديده لقراءة الظاهرة الاجتماعية والثقافية والسياسية التاريخية ، والتي تكشف عن روحية موضوعية تاريخية جدلية في عقل يحيى المتوكل في النظر إلى الأشياء والوقائع بروحية العقل التاريخي ، عقل سياسي اجتماعي تاريخي يجعل من التفاصيلي كليا بعد وضعه في سياقه الموضوعي والتاريخي . وهناك أكثر من دليل على ذلك أجدني مضطراً إلى إيراد بعضها حتى لا أطيل حول هذه الفكرة، فهو يقول حول نشأته : " نشأت في بيئة غريبة ، إذ كان معظم الرجال من سكان المدينة يعملون في مدن أخرى ، إما جنودا أو موظفين أو عمالا ولم يكن يسكن هذه المدينة إلا الأطفال والنساء والشيوخ . وفي هذه الأجواء ، كما يقول المتوكل ، كان المجتمع منغلقا والحياة كانت محدودة " ص 21 . والاستنتاج الذي يخرج به القارئ ، الباحث من هذه الفقرة الصغيرة محدودة الكلمات هي التالي : 1 إن الانغلاق والتخلف كان ظاهرة يمنية في شمال الوطن كله بدرجات متفاوتة . 2 إن المناطق القبلية من شمال الشمال كانت خالية من الرجال وليس فيها سوى الأطفال والنساء ، والشيوخ ، الرجال غادروا ليعملوا مع الإمامة في جيشها عسكر وعكفة في المركز (صنعاء) ، أو موزعين على مناطق جنوب الشمال عكفة وعساكر خطاط وتنافيذ على هذه المناطق الزراعية الفلاحية ، والبعض منهم يعملون قضاة أو موظفين في الإدارة الخاصة للإمامة ، أو الإدارة العامة المحدودة لدولته . ويمكن ان تكون ظاهرة خلو المدن والقرى من الأطفال والنساء والشيوخ هي ظاهرة يمنية، لكن مع اختلاف الأسباب ، ومواقع الهجرة ، فمدن الجنوبتعز ، إب ، التهائم كان رجالها يهجرون قراهم ومدنهم ، ولكن ليس للأسباب ذاتها التي يهاجر على أساسها أو خلفيتها أبناء مناطق حجة أو صعدة ، أو غيرها من مناطق الشمال ، وشمال الشمال ، هجرة تعزوإب ، والتهائم ، كانت في الغالب هجرة جنوبية إلى عدن ، وخارجية إلى المهاجر الأجنبية ، وهي هجرة سببها الظلم المضاعف والمركب الواقع عليها من الإمام وأعوانه ( العكفة ، والقضاة ، والعمال ) باعتبارها مناطق جباية وخراج . 3 ان الحقائق والوقائع التاريخية تقول ان صعدة ، وحجة وذمار ، وغيرها من المناطق القبلية المحيطة بالعاصمة صنعاء كانت هي الحضن الدافئ ، والمرتع الحامي للإمامة تاريخيا ، وهي مناطق قبلية حربية مسلحة امتهنت القتال والحرب وسيلة للعمل والإنتاج ، وكسب الرزق ، وهي عمليا وتاريخيا المناطق التي صاغت معادلة وحدة الإمامة بالبيئة المشيخية القبلية ، صعدة كرسي الإمامة الزيدية الهادوية الأول ، وذمار كرسيها الثاني ، وحجة ( الأهنوم ) ، مثلت القاعدة البشرية والذخيرة الحربية العسكرية للإمامة ، وهي المنطقة التي اعتمد عليها بيت حميد الدين تحديدا في قمع التمردات والانتقاضات الفلاحية والقبلية والسياسية في المناطق المختلفة ، الزرانيق ، المقاطرة ، إلى انقلاب 1948 ، وصولا إلى الحرب الملكية على ثورة 26 سبتمبر 1962 ، وهي منطقة كثيفة التخلف ، وكانت ، كغيرها من المناطق ، تعيش حالة قطيعة شبه كاملة عن الحياة والعصر حتى في مفرداته البسيطة ، وهي منطقة أبقتها الإمامة ومشائخ القبائل مسلحة بالأمية وانعدام التعليم ، بقدر ما هي مسلحة بالجند والسلاح . وفي الواقع لقد أبقت الإمامة ومشائخ القبائل جميع مناطق شمال الشمال في حالة مطبقة من الأمية والجهل والفقر والجوع والتخلف الذي لا مثيل له حتى زمن قريب ، ويمكننا رؤية ذلك في صورة وضع هذه المناطق حتى اليوم ، حيث استمرت القوى التقليدية الجديدة الجمهورية في الحفاظ على هذه المناطق تعيش بنفس الوتيرة ، سوى ما تم انجازه بفعل دور الزمن في التاريخ ، وليس بفعل إرادة القوى التقليدية في التجديد والتقدم الذي وقفت ضده وفي مواجهته من أول سنة لقيام الثورة ، وكما يقول يحيى المتوكل كان في المرحلة الإمامية ( يناضلون من اجل هدف واحد هو الكد من اجل لقمة العيش ) ص 21 . وفي موضع آخر يشرح فيه دخوله إلى صنعاء لأول مرة يقول : " وجدتها اقل مما كنا نتصورها أو نسمع عنها ، فالمدينة كانت خالية من السيارات ، ومن المارة ، باستثناء سكانها المحدودين ، كما لم تكن هناك حركة تجارية أو ثقافية بما تتناسب مع عاصمة البلاد ، وكان المبرر لهذا الجمود انه بعد ان انتقل الإمام احمد إلى تعز انتقلت معه الحياة التجارية والسياسية إليها ) ص 23 ، وهي ملاحظة سياسية تاريخية ذكية ودقيقة ، تعكس حالة واقع التخلف الكارثي القروسطي الذي كانت تعيشه كل اليمن الشمالي بما فيه العاصمة صنعاء ، تظهر ان لا فارق بين العاصمة وغيرها من مناطق اليمن بدرجات متفاوتة سوى بعض السيارات ، وحركة تجارية وسياسية تستدعيها شروط وجود العاصمة بحدها الأدنى ، وما ان انتقل مقر الإمامة من صنعاء بعد انقلاب 1948 إلى تعز حتى بدأ الفارق النوعي بين صنعاء وغيرها من المدن ضئيلا ومحدودا . ومن هنا يبرز تفسير حجم المخاطر السياسية والعملية التي واجهتها ثورة 26 سبتمبر 1962 بعاصمتها المحاصرة بحزام عسكري قبلي متخلف شكل الوقود البشري والمادي المضاد للثورة، ومن هنا طوال فترة الحرب والحصار لعاصمة الثورة ، وتهديد إمكانية استمرار بقاء النظام الجمهوري في مرحلة الصراع السياسي بين الجمهورية والملكية من جانب ، وبين أقطاب الجمهوريين في ما بينهم البين . ومن الملاحظات الساخرة للأستاذ الفقيد يحيى المتوكل اعتباره دخول الألعاب الرياضية إلى مقررات المدارس هو أفضل ما قدمته الجامعة العربية عبر بعثتها التعليمية لليمن ، وهو فعلا كما يبدو أفضل ما قدمته الجامعة العربية لليمن حتى اللحظة ، أقول ذلك بسبب ان معظم خطاب حركة الأحرار الدستوريين اليمنيين كان موجها للجامعة العربية منذ عهد عبدالرحمن عزام مطالبا إياها بدور جدي في حل مشكلة اليمن ومراسلات الأحرار ، الحكيمي ، والنعمان ، وتنظيم الأحرار مع أمين الجامعة العربية دليل على مطالبة جدية بان يكون للجامعة العربية دور في نهضة اليمن ، وفي التخفيف من وطأة الحياة القاسية التي كانوا يعيشونها ، وبالعودة إلى ص 21 من الكتاب يشير إلى حجم العزلة المخيف الذي كانت تعيشه مناطق اليمن المتقاربة من بعضها البعض فهو يقول : " ان البيئة التي اكتشفتها في المحابشة تختلف عن شهارة فمجتمع المحابشة منفتح وله عادات وتقاليد مختلفة ، ولهجة وملابس أخرى ، وذلك على الرغم من ان البعد الجغرافي بين المدينتين لم يتجاوز 30 كيلومترا ، لكن هذه المسافة كانت تأخذ حينها نهارا كاملا وأحيانا نهارين للمسافرين بين المدينتين ، كما كانت أنماط الحياة وتقاليد المجتمع تختلف من منطقة إلى أخرى نتيجة للانغلاق الذي كان سائدا ومتغلغلا في حياة اليمنيين قبل الثورة " . وفي كتابه الحواري ، النقدي خاصة في قسمه الأول ، يقدم الفقيد يحيى المتوكل بانوراما سياسية ثقافية ، تاريخية موجزة لمرحلة تاريخية كاملة ، بعبارات موجزة ومكثفة ، تلم بالسياق التاريخي كله دون استطرادات زائدة عن الحاجة وعبارات يقول فيها المختصر المفيد ؛ فهو يمر على المرحلة الدراسية والطلابية مقدما أهم تفاصيلها المفصلية الجوهرية ، التي يمكن اعتمادها مع غيرها مراجع سياسية تاريخية ، على ان ميزته عن غيره هو التكثيف والإيجاز ، والموضوعية ، والصدق التاريخي أو إلى حد بعيد الشمولية في عرض الفكرة التي يحاول إثباتها والتأكيد على أهميتها ، وهو ما يكشف موضوعيته وصدقيته وشموليته في الرؤية للأشياء والوقائع والأحداث . ففي إجابته على سؤال ذكي وخطير ، طالما رددته وما تزال تردده بعض الكتابات المضادة لثورة 26 سبتمبر وتنظيم الضباط الأحرار ، والمتعلق ب" ان تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين نسخة من تنظيم الضباط الأحرار في مصر ، حيث تعكس إجابته قدرا عاليا من الموضوعية ، ومصداقية تاريخية في قراءة الأحداث والوقائع ، حيث يرد قائلا : " ماذا تتوقع من تلك البيئة التي نشأنا فيها والمدارس التي تخرجنا فيها أو المجتمع العتيق المنغلق المتخلف الذي جئنا منه ؟ لم نكن نملك من الفكر السياسي والتراث الوطني ما يؤهلنا لاتباع نهج أفضل من نهج عبدالناصر ، ولم يكن لدينا إلا الاقتداء بالثورة المصرية التي كانت حينها ثورة كل العرب ، لكن ما يهمني الإشارة إليه هنا والكلام للفقيد المتوكل هو إدراكنا للخصوصية التي تتسم بها اليمن مجتمعا وموقعا ، وكنا نضع ذلك في اعتبارنا ونحن نخطط للثورة ، وبعد قيامها ولو لم نفاجأ بموت الإمام وتوفر لدينا الوقت الكافي لقامت الثورة ، وأديرت احداثها بشكل آخر". وفي سياق إجابة لاحقة مباشرة عن تنظيم الضباط الأحرار والمصريين يقول ( بالنسبة لتكوين تنظيم الضباط الأحرار وقرار قيام الثورة فقد كان ذلك منذ البداية صناعة يمنية ، حيث قام الضباط ببناء تنظيم تفجير الثورة اليمنية بدون توجيه القيادة العربية أو غيرها ) ص 49 . وهو في تقديري أدق وأكثف ، واصدق وأجمل رد على من يحاولون الحديث عن فكرة تصدير الثورة من قبل مصر إلى اليمن ، أو كما يقول بعض السياسيين والمثقفين إنها حرب المصريين على أعدائهم في اليمن ، أو إنها ثورة مصر في ارض اليمن . إن إجابة الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل هي تأكيد على خصوصية الثورة اليمنية بتعقيدات وتناقضات قيامها داخليا وخارجيا ، وهي إشارة ذكية ولماحة إلى استقلالية نشأة تنظيم الضباط الأحرار وطبيعته الوطنية اليمنية الخالصة نشأة وتكوينا ، وتفجيرا للثورة ، وإلا لماذا لم يتخذ مسار تطوره نفس مسار دور ومكانة تنظيم الضباط الأحرار في مصر . إنها الخصوصية الوطنية التاريخية اليمنية التي احتكمت لشروطها الذاتية والموضوعية، والسياسية اليمنية لا اقل ولا أكثر ، وهو الذي يفسر ويوضح معنى تراجع أولا ثم غياب دور التنظيم كليا لاحقا في سياق تطور مسار الثورة وتحولاتها . وما يؤكد موضوعية ومصداقية خطاب المتوكل في الكتاب الحواري هو تأكيده على أهمية وحيوية الدور المصري في الدفاع عن الثورة اليمنية ، وهو ما تجلى في صفحات عديدة في الكتاب الحواري النقدي الذي أجده من أفضل الحوارات السياسية التاريخية ذات الروح الموضوعية والنقدية ، كتاب حواري فيه من السياسة بقدر ما فيه من التاريخ ، ولا مناص أمام أي باحث في التاريخ السياسي والاجتماعي اليمني المعاصر من العودة إليه ، وأؤكد على أهمية تقييمه للدور المصري في الثورة اليمنية ، على الأقل باعتباره واحدا من أهم رموز انقلاب 5 نوفمبر 1967 ومن المهندسين السياسيين لما يسمى " المصالحة الوطنية " أو السياسية ، وهنا تكمن القيمة المضافة لقراءته النقدية الايجابية لأهمية وخطورة الدور المصري في الدفاع عن الثورة ، وتثبيت النظام الجمهوري دون تجاهل لنقد مثالب وقصور وسلبيات ذلك الدور ، وذلك هو ما نسميه النقد البناء ، النقد العقلاني الموضوعي . وفي تقديري ان الكتاب الحواري للأستاذ الفقيد يحيى المتوكل هو من أهم الكتب ذات الصلة بإعادة قراءة التاريخ اليمني المعاصر من خلال الحوار وفقا لما تم إيرادها في سياقات كتابية مختلفة عن تاريخ الثورة ، وهو من أكثرها موضوعية وعلمية وتاريخية في تقديم تنظيم الضباط الأحرار ، وفي تقييم وتقدير دور الرائد المؤسس علي عبدالمغني في التنظيم وفي الإعداد للثورة ، وفي صياغة إطارها العام ، وفي الكتاب من الشجاعة والجرأة النقدية في التلميح إلى التقصير السياسي في السماح لقائد التنظيم بالذهاب بعد أسبوعين إلى إحدى جبهات القتال الخطيرة حيث أشار قائلا : " أنا شخصيا لا استبعد ان يكون هناك من السياسيين والعسكريين من خارج التنظيم من كان يضيق به شخصيا ، وربما شجعه على الإقدام على هذه المغامرة ليتخلصوا منه ، أتصور هكذا يقول المتوكل ( ... ) وهي خسارة تركت آثارا سلبية على مسيرة الثورة وتوجهاتها ) ص 51 52 ، وهو يؤكد في إجابته على سؤال: أين كان علي عبدالمغني بعد انفجار الثورة ؟ حيث يقول : " كان في قلب الأحداث ، وكانت المعارك تشتعل هنا وهناك ، فيقوم بتوجيه الحملات لإطفائها ، ويزودها بما تحتاجه من ذخائر وأسلحة ومواد تموينية ) ص 51 ، وهو عكس ما رآه عبداللطيف ضيف الله ، أحد قيادات التنظيم حول مكان تواجده حيث أشار بما يوحي غير ذلك وذلك في مقابلة مع صحيفة 26 سبتمبر 2008 . ولا ينسى الفقيد يحيى المتوكل في سياق آخر متصل بقضية دور علي عبدالمغني ومكان تواجده وخروجه لقيادة المعارك في واحدة من جبهات القتال بالقول : " بصراحة اعتقد ان قرار الخروج يعود إلى علي عبدالمغني الذي كان يتمتع بمثالية وتجرد غير معقولين ، مثله مثل الشهيد محمد مطهر الذي ذهب هو الآخر ليستشهد في معركة خاسرة ، وهو رئيس أركان الجيش بعد مرور عامين على قيام الثورة " ، وتلك في نظري كما يقول المتوكل نقطة ضعف أخرى تسجل على قيادة التنظيم ) ص 53 . وفي إجابته على سؤال :" هل الثورة بدأت تأكل أبناءها منذ أول يوم لانتصارها ) أجاب قائلا : " لا ، لم تقع ثورة سبتمبر في ما وقعت به ثورات أخرى ، فلم تقتل أبناءها الذين فجروها ، ولكن لم تسعفهم الخبرة ، ولم تمهلهم الحرب حتى يتحملوا المسؤولية كاملة ، ونتيجة لذلك وللمثالية التي تحلى بها قادتها تركوا زمام الأمور منذ اللحظة الأولى لغيرهم ، وارتضوا لأنفسهم بدور المقاتل والتصدي لأعداء الثورة ) ص 65 . وفي الواقع ان في إشارات المتوكل نصف الحقيقة ، وهي مرتبطة بالمراحل الأولى ، ولكن في سياق الثورة ، وتطور الصراع حول السلطة في قلب الصف الجمهوري فإنه تمت تصفيات وإن كانت محدودة لبعض المعارضين في قلب الصف الجمهوري ، تمت محاكمات عسكرية على خلفية تهم أمنية لاتعدو كونها تصفية حسابات سياسية بين أطراف القيادة الجمهورية اشترك المصريون في تدبيرها وإخراجها ، ذهب ضحيتها محمد الرعيني ، هادي عيسى وآخرون ، تحت شعار محاكم قيادة الثورة ، وبعد ذلك وفي غمرة الصراع في قلب القيادة الجمهورية حول المضمون الأساس والوطني والجمهورية جرت صراعات على السلطة ، خاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967 وبعد انتصار حصار السبعين يوما ، حيث تمت عمليات تصفيات واسعة لرموز وقيادات القوى الحديثة بدءا من 20 مارس 1968 إلى تصفيات 23/24 أغسطس 1968 ، وما بعدها . قادري أحمد حيدر