مع اوفقير الى القنيطرةوالعرائشواصيلة ومدينة ابن بطوطة غادرنا الدار البيضاء الى الشمال باتجاه الرباطوطنجة وبمسافة تصل الى حوالي 375 كيلو متراً تقطعها الحافلة في حدود خمس ساعات ونيف. وفي الطريق الى الرباط مررنا مرة اخرى على المحمدية والصخيرات وهي المشهورة في التاريخ المغربي المعاصر بما حدث في القصر الملكي هناك عام 1971 من محاولة لانقلاب عسكري فاشل قاده بعض ضباط المدرسة العسكرية في اهرمومو القريبة من تازة. وعرف فيما بعد ان الجنرال محمد او فقير وزير الدفاع حينها كان وراء هذا الانقلاب الدموي الفاشل، كما انه كان وراء إختطاف واختفاء الزعيم النقابي والاشتراكي المهدي بن بركة عام 1965م والذي لم يعثر عليه الى اليوم ويعتبر من المفقودين. وقيل انه قتل واذيبت جثته بمادة كيماوية حمضية في منطقة بشمال فرنسا. والمهدي بن بركة هو من ابناء مدينة الرباط وقد نال شهرة ومكانة واسعة مغربياً وعربياً وافريقيا وعالمياًَ بنشاطه في مجال حقوق العمال المغاربة والافارقة. وبينما كنت غارقاً في خواطري وافكاري هذه حول احداث عامي 1971 و1972 اثناء مروري بمنطقة الصخيراتجنوبالرباط والتي كان مدبرها الفعلي هو الجنرال محمد اوفقير والذي اعدم عام 1972 شعرت بجاري في الحافلة يمد الي كيساً بداخله حبات من اللوز وكما نسميه نحن في حضرموت او الفول السوداني عند المصريين او الكاكاوية عند التونسيين او السبال عند الكويتيين. والمهم ان صاحبي هذا مد الي بهذا الكيس لاتناول منه شيئاً، فشكرته على اريحته هذه وتلطفه معي. وكانت فرصة مناسبة ان ادردش معه قطعاً للطريق فسألني عن بلدي وعملي واسمي، فأخبرته. وسألته بدوري عن اسمه وعمله، فقال لي وياللعجب ان اسمه (محمد اوفقير)، فقلت في نفسي: عجباً منذ دقائق كنت افكر في الجنرال محمد او فقير وما فعله في الصخيرات من سفك للدماء واذا بي افاجئ بان جاري يقول عن نفسه ان اسمه (محمد اوفقير)، فهل هو يسخر مني أو يريد ان يخيفني حتى لا استرسل معه في الحديث بذكره لاسم هذا الرجل المرعب في تاريخ المغرب. وتحليت بالصبر والصمت ولم اعلق. وعن عمله قال لي انه موظف في شركة تأجير السيارات بالدار البيضاء وانه ذاهب الى طنجة لاستعادة سيارة استأجرها سواح سعوديون وتركوها في طنجة. وساد بيننا صمت قصير ظللت خلالها في حيرة ودهشة، بل وتوجس من ذكره لأسم اوفقير كأسم له، وهل هذا هو فعلاً اسمه الحقيقي ام انه اسم له مأرب فيه. وتحاشيت ان اسأله عما اذا كانت هناك علاقة اسرية تربطه بالجنرال محمد اوفقير حتى لا اقع في المحظور، ولعل الامر لا يعدو كونه تشابهاً في الاسماء وان هذا هو اسمه الحقيقي. وحتى اقطع الشك باليقين وليطمئن قلبي وعقلي كتبت على ورقة اسمي وعنواني بقصد المراسلة مستقبلاً. وطلبت منه ان يكتب وبخط يده اسمه وعنوانه، ففعل وكتب اسمه هكذا (محمد اوفقير) مع ذكر عنوانه ومكان عمله كاملاً بالدار البيضاء. واخذنا في تبادل الحديث الطيب من هنا وهناك. وكان يتحدث معي بلهجة مغربية مطعمة بكلمات عربية فصحى وخليجية ومصرية اكتسبها من عمله مع السواح العرب، كما انه كان يتمتع بثقافة عامة جيدة رغم ان تعليمه كما قالي لي لم يتجاوز الثانوية العامة، الا ان لديه وعياً طيباً وجيداً بما يجري حوله. وعلمت منه عن بعض المعلومات المفيدة عن طنجة خاصة وانه يتردد عليها بحكم عمله كسائق في شركة تأجير السيارات هذه. وبعد حوالي ساعة ونصف من انطلاقنا من الدار البيضاء تجاوزنا مدينة الرباط وشقيقتها التوأم (سلا) ومررنا على الجسر المقام فوق نهر ابى رقراق، ثم اقتربنا من مدينة (القنيطرة) والتي تقع على مسافة 40 كيلو متر شمال الرباط. وهي من المدن المغربية الصاعدة مؤخراً، وحيث وصل عدد سكانها الى حوالي نصف مليون نسمة (2004م). وهي مدينة صناعية بالدرجة الاولى ومعظم سكانها من العمال، ولذلك يسميها البعض (مدينة الفقراء)، حيث ان اغلب قاطنيها من ذوي الدخل المحدود. واهم ما يميزها جغرافياً وطبيعاً ان مينائها نهري وليس بحري. وهو الميناء النهري الوحيد في المغرب، وهو يقع على مصب نهر سبّو، ويبعد حوالي 17 كيلو متراً عن ساحل المحيط الأطلسي. ونهر سبو هذا هو اطول انهار المغرب، حيث يصل طوله الى حوالي 660 كيلو متراً. وبعد حوالي ساعة وصلنا الى مدينة (سوق الاربعاء) ثم الى مدينة (القصر الكبير)، وهما من المدن الهامة الواقعة على الخط الحديدي الرابط بين الرباطوطنجة. وقبيل غروب الشمس بقليل دخلنا الى ضواحي مدينة (العرائش) الساحلية والتي تبعد حوالي 280 كيلو متر شمال الرباط. واهمية مدينة العرائش هذه انها اندلسية الطابع والسمات ومعظم سكانها من العرب والمسلمين الذين هجّروا من الاندلس، وهي تزخر بالصناعات التقليدية المغربية ذات الخصائص والسمات الاندلسية. ويسكنها حالياً حوالي 100 ألف نسمة، ولذلك فهي لاتعد من ضمن المدن العشرين الكبرى في المملكة المغربية من حيث عدد السكان، ولكن اهميتها السياحية ملحوظة في النشاط السياحي في المملكة المغربية، خصوصاً من حيث احتفاظها بنمط العمران الاندلسي المميز في مبانيها المقامة على تلالها الخضراء والمطلة على ساحل المحيط الاطلسي. وعلى مسافة ثلاثة كيلو مترات شمالاً منها توجد بقايا وآثار أهم ميناء فينيقي في هذه المنطقة وهو ميناء (ليكسوس) الذي شيده الفينيقيون خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويقع على مصب نهر (لوكوس)، وهو المسمى حالياً (وادي المخازن)، وحيث دارت على ضفافه معركة ضارية عام 1578م أنتصر فيها المسلمون بقيادة السلطان المغربي عبد الملك السعدي على قوات ملك البرتغال دون سباستيان. وكان ميناء (ليكسوس) هذا محطة تجارية هامة للفينيقيين على ساحل المحيط الاطلسي وقبل انشائهم لمستوطنة اوتيكا (عتيقة) بالقرب من بنزرت شمال تونس، وكما يشير الى ذلك الاستاذ محمد الصغير غانم في صفحة 91 من كتابه (التوسع الفينيقي في غربي البحر المتوسط) والصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر عام 1982م. وطوال هذه الطريق كان الحديث مع جاري (محمد اوفقير) لا ينقطع. واصبح حديثاً ذو شجون وشؤون ويتخلله بعض النكات والملح والطرائف من هنا او هناك حول المدن والقرى التي كنا نمر بها، وهو مستمر ومنهمك في اكل اللوز او الفول السوداني او الكاكاوية. واقتربنا من اشهر مدينة ساحلية سياحيةمغربية وهي مدينة (اصيلة) والمعروفة بمهرجانها السنوي المنتظم في الصيف من كل عام، وهو مهرجان ثقافي وفني وسينمائي وسياحي يأتيه القادرون من العرب والعجم والبربر ومن على شاكلتهم من ذوي السلطان الاكبر ومن بلاد تركب الافيال وتمتطي البغال والجمال ومن كافة خلق الله ممن اعطاهم جلّت قدرته مقدرة مالية للوصول الى هذه المدينة الساحلية المغربية الجميلة والتي تنافس شهرتها السياحية مدينة كان الفرنسية على ساحل الريفيرا المتوسطي. واصيلة كشقيقتها العرائش مدينة اندلسية الطابع والسمات ومعظم سكانها من مهاجري الاندلس. وعددهم كعدد سكان العرائش. وهي تقع على بعد حوالي 30 كيلو متراًُ شمال العرائش. وواصلت الحافلة سيرها نحو طنجة ولاح في الافق ضياء الشفق الاحمر المرافق لما بعد غروب الشمس . فهذه آخر ليلة في عام 1981م وغداً يوم جديد وعام جديد، وسنصل الى طنجة بعد اقل من ساعة زمن. وقد قدّر لي ان ابات ليلة (الكريسماس) اي ليلة راس السنة الميلادية في هذه المدينة المغربية والعربية والاسلامية وذات الخصائص المتعددة والممتزجة بين كل الوان الطيف الحضاري والبشري المعاصر. ومازال صديقي (اوفقير) يلتهم حبات اللوز او الفول السوداني، والذي يبدو كأنها لن تنتهي ابداً. وكأننا تعبنا من الكلام والحديث ، فساد بيننا صمت، ثم سألته: كم بقي من الزمن للوصول الى طنجة ، فأخبرني بانها لا تتعدى ربع ساعة. وعدنا الى الصمت مرة اخرى . وفجأة وجدت صاحبي يصرخ بصوت خفيض، فسألته عم يشكو منه. فقال انه يعاني من الم شديد في بطنه وانه في حاجة الى حمام (تواليت) فعرضت عليه ان اكلم سائق الحافلة ليقف عند اقرب مكان به حمام وليريح نفسه ومما فعل في بطنه باكل الكاكاوية او اللوز، الا انه رفض وقال افضّل التحمل والصبر الى ان اصل الى طنجة. ولم ادر ماذا افعل لصديقي البيضاوي (اوفقير) فحاولت بين حين وآخر ان اصبّره واشدّ من عزيمته على ان يتماسك حتى نصل الى طنجة طالما وانه يرفض ان تقف الحافلة في الطريق. وظل صاحبنا يتألم ويصرخ بصوت مكتوم الى ان وصلنا الى محطة الحافلات المركزية في طنجة فنزل منها مسرعاً فجريت خلفه مخافة ان يصيبه مكروه وهو في هذه الحالة الصعبة وشاهدته يدخل الى احدى الصيدليات بجوار محطة الحافلات فدخلت وراءه فلم اجده واحترت اين ذهب فانتظرت خارج الصيدلية ونظري على من بداخلها ثم اخيراً ظهر من باب داخل الصيدلية يبدو انه حمام ملحق بها. وخرج الي وهو في حالة اخرى من السعادة والارتياح. واخذ يتبادل الحديث مع الصيدلاني والذي كما يبدو انه يعرفه فاعطاه حبوباً لتناولها لتزيل بقايا الالم المعوي. وخرجنا من الصيدلية وقال لي: لا بد علي من ان اوصلك الى احد الفنادق المناسبة لك فأنت في بلدي وامانة في عنقي، فاكبرت فيه هذا الموقف الشهم والنبيل رغم انه كان يعاني منذ دقائق معدودة وربما هو في حاجة الى راحة اكثر. وحمدت الله كثيراً انني لم اتناول حبة واحدة من هذا اللوز أو الفول السوداني اثناء الطريق. والمهم انه بعد ان اوصلني مشياً على الاقدام الى باب احد الفنادق المتواضعة والتي تتناسب مع ما لدي من مال شكرته على جميل صنعه معي وودعته بحرارة وصدق ومتمنياً له الشفاء مما ألم به، وانصرف الى حال سبيله. المكلا – حي السلام أول ديسمبر 2014م