رابطة أمهات المختطفين تدين قرارات الإعدام الجماعية التي أصدرتها محكمة حوثية بحق 44 مختطفا    - الصحفي السقلدي يكشف عن قرارات التعيين والغائها لمناصب في عدن حسب المزاج واستغرب ان القرارات تصدر من جهة وتلغى من جهة اخرى    إب تحت رحمة الحوثيين: جبايات متزايدة ومعاناة مستمرة!    بحضور نائب الوزير افتتاح الدورة التدريبية لتدريب المدربين حول المخاطر والمشاركة المجتمعية ومرض الكوليرا    شرح كيف يتم افشال المخطط    "الغرف المخفية" تُفضح فساد الحوثيين وتُجبرهم على بيع "ذهبهم" بأبخس الأثمان!    ناغلسمان يعلن مشاركة نوير في ودية اوكرانيا    بدء دورة تدريبية في مجال التربية الحيوانية بمنطقة بور    منظمة التعاون الإسلامي تدين محاولات الاحتلال الاسرائيلي تصنيف وكالة "اونروا" منظمة إرهابية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و439 منذ 7 أكتوبر    "أوبك+" تتفق على تمديد خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط    ولي العهد الكويتي الجديد يؤدي اليمين الدستورية    الملايين بالعملة الصعبة دخل القنصليات يلتهمها أحمد بن مبارك لأربع سنوات ماضية    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا    ضربات هي الإعنف على الإطلاق.. صحيفة تكشف عن تغير أسلوب ''التحالف'' في التعامل مع الحوثيين    بالصور: اهتمام دبلوماسي بمنتخب السيدات السعودي في إسبانيا    بالصور.. باتشوكا يحصد لقب دوري أبطال الكونكاكاف    جدول مباريات وترتيب مجموعة منتخب الإمارات في تصفيات كأس العالم 2026    يقتل شقيقه بدم بارد.. جريمة مروعة تهز مارب    القبض على أكثر من 300 أجنبي في مديرية واحدة دخلوا اليمن بطريقة غير شرعية    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    مصرف الراجحي يوقف تحويلاته عبر ستة بنوك تجارية يمنية بتوجيهات من البنك المركزي في عدن    الانتقالي الجنوبي ثمرة نضالات طويلة وعنوان قضية شعب    فخامة الرئيس بن مبارك صاحب القدرة العنكبوتية على تحديد الضحية والالتفاف    تاجرين من كبار الفاسدين اليمنيين يسيطران على كهرباء عدن    ازمة الانتقالي الشراكة مع الأعداء التاريخيين للجنوب العربي الأرض والإنسان    "لماذا اليمن في شقاء وتخلف"...ضاحي خلفان يُطلق النار على الحوثيين    ما خطورة قرارات مركزي عدن بإلغاء العملة القديمة على مناطق سيطرة الحوثيين؟.. باحث اقتصادي يجيب    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    كشف هوية القاضي الذي أثار موجة غضب بعد إصداره أحكام الإعدام اليوم في صنعاء    تجدد مواجهة مصيرية بين سكان صنعاء و الحوثيين    المرصد اليمني: أكثر من 150 مدنياً سقطوا ضحايا جراء الألغام منذ يناير الماضي    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    جريمة مروعة تهز المنصورة بعدن.. طفلة تودع الحياة خنقًا في منزلها.. من حرمها من حق الحياة؟    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    كيف أفشل البنك المركزي اليمني أكبر مخططات الحوثيين للسيطرة على البلاد؟    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    بنك سويسري يتعرّض للعقوبة لقيامه بغسيل أموال مسروقة للهالك عفاش    موني جرام تعلن التزامها بقرار البنك المركزي في عدن وتبلغ فروعها بذلك    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    خراب    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مآثر حضرمية في الديار التونسية من الفينيقيين إلى الهلاليين إلى الحضارمة الأندلسيين ( 1 – 3 )
نشر في هنا حضرموت يوم 21 - 12 - 2012


مقدمة واستهلال :
أحسن الله عز وجل إلى حضرموت والحضارمة وأكرمهم بخصال طيبة عديدة ، وهي فضل ومنّة منه تبارك وتعالى على الإنسان الحضرمي ، فجعل له صيتاَ وذكراً حسناً موصولاً بين الأمم والشعوب ومتصلاً عبر الأزمنة والدهور منذ أن خلق المولى القدير الأرض ومن عليها، وجعل الإنسان خليفة فيها لإدارة شؤونها بمشيئته سبحانه وتعالى.
ومنذ حوالي خمسة آلاف عام مضى وحضرموت تذكر وبلا انقطاع في سير الأولين والآخرين. وخلال ذلك انتشر الإنسان الحضرمي في مشارق الأرض ومغاربها، واستوطن معمورها ومجهولها بقاصيها ودانيها، واخترق مجاهلها وقفارها، وطاف حول شواطئها وجزرها، وسلك دروبها ووديانها وسهولها ومرتفعاتها ومنحدراتها. ولم يترك أرضاً علم عنها إلا واشتاقت نفسه إلى الوصول إليها. وفي كل ذلك كان الإنسان الحضرمي يترك نفحات عطرة وآثاراً طيبة عديدة حميدة ومجيدة تدل على انه كان هناك. وهي آثار بادية للملاحظ، ولا يخطئها العقل الرشيد ولا العين السليمة، وهي نعمة من الله عز وجل على هذا الإنسان الحضرمي.
وسنحاول بعون الله تعالى التركيز في هذه المحاضرة على نفحات حضرمية ومآثر بارزة لأهل حضرموت في تونس الخالدة، ومع إيماننا المطلق بأن الخلود صفة لله عز وجل وحده لا شريك له فيها، فهو الخالد أبداً، وهو المبتدأ قبل أي بداية، وإليه المنتهى بلا نهاية. وعندما يهب المولى تبارك وتعالى لشعب من الشعوب أو فرد من الأفراد صفة الخلود، فإنما هي نعمة منه جلّت قدرته وحكمته.
وتونس هذا القطر العربي والإسلامي الصغير في مساحته والتي تصل إلى حوالي 164 ألف كيلو متر مربع، أي ما يوازي مساحة حضرموت الحالية (162 ألف كم2) وسكانه الذي لايزيدون عن عشرة ملايين نسمة وهبه الله عز وجل من صفات الخلود الكثيرة، فانجب العديد من رجاله ونسائه ممن كان لهم ولهن ذكراً حسناً أو إشارة لا تغفل عنها سجلات التاريخ. وما سنذكره في هذه الصفحات والخاصة بالمآثر الحضرمية في الديار التونسية إنما هي صفحات من موضوع أشمل تحت عنوان ( خالدون في تونس الخالدة ) كنا قد أعددناه منذ زمن وتناولنا فيه عشرة من الخالدين وعلى مر العصور الذين كان لهم أثر واضح على تونس الأرض والإنسان. أما الذي نطرحه في هذه الصفحات فهو فقط عن تلك الصفحات الحضرمية العطرة التي هلّت على الديار التونسية، والمثير أنها غطّت القسم الأعظم من تاريخ تونس. وهي تعد مصدراً خصباً للدارسين والباحثين في معرفة أوجه التشابه والتماثل بين الشخصيتين الاجتماعيتين لكل من الإنسان التونسي والإنسان الحضرمي، دون إغفال لأي تباينات واختلافات تظهر هنا أو هناك.
وقد تناولنا من هذه المآثر الحضرمية في الديار التونسية ما يلي:
أولاً … المؤثرات الحضرمية في الحضارة الفينيقية : وذلك من خلال الشواهد التاريخية والأثرية.
ثانياً … الهجرات الهلالية والمعروفة بجذورها الحضرمية إلى الأراضي التونسية.
ثالثاً … الهجرة الحضرمية الأندلسية إلى البقاع التونسية وما أسفرت عنه من بروز شخصيات لامعة كابن خلدون وغيره.
ولاشك أن ما سنطرحه لا يعني بالضرورة ختام القول والرأي الفصل والأخير، وإنما هو اجتهاد علمي قابل للإثراء والمراجعة، مما يدفعنا إلى البحث والتدقيق في تفاصيل الأمور، وحتى يمكن أن نخدم شعبنا الحضرمي وأمتنا العربية والإسلامية ومحيطنا الإنساني خدمة أصيلة وأمينة وصادقة بلا زيف أو تضليل أو تعتيم، وبقصد التعرف على مكامن القوة الحضارية التي وهبها الله عز وجل لشعبنا الحضرمي وجعلها إحدى خصائصه وخصلاته الإيجابية عبر العصور رغم المحن والكوارث التي ابتلي بها.
أولاً … المؤثرات الحضرمية في الحضارة الفينيقية :
كنت منذ فترة من الزمن قد نشرت بحثاً مختصراً في هذا المحور وبذات العنوان في دورية آفاق الصادرة عن إتحاد الأدباء والكتاب بالمكلا بالعدد (21) لعام 2005م، كما ألقيت محاضرة حوله في منتدى شبام حضرموت الثقافي والاجتماعي بمدينة شبام في 10 أبريل 2012م. وقد طرحت في ذلك البحث وتلك المحاضرة أهم المضامين والرؤى والأفكار والمعلومات التي أود طرحها في هذا السياق، وحيث قلت في ذلك البحث وتلك المحاضرة ما يلي:
بداية لابد من القول أن البحوث التاريخية والأثرية حول علاقة حضرموت بالفينيقيين لم تكتمل بعد، فلا تزال هناك حلقات ناقصة في هذا الشأن. غير أن بعض الخطوات المنجزة في هذه البحوث ربما تجعل من الوصول إلى تأكيد مثل هذه العلاقة في نظرنا مسألة وقت ليس إلا، فقد وصلت هذه البحوث إلى تأكيد بعض الحقائق التاريخية، ومن ضمنها تلك التي نرى أن لها علاقة ما بما يمكن أن نطلق عليه المؤثرات الحضرمية في الحضارة الفينيقية، وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة حول تلك الحقائق نكتفي بالآتي:
أولاً … يكاد يجمع المؤرخون القدماء والمعاصرون على أن الفينيقيين الذين أسسوا حضارة راقية ومزدهرة في سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية ومن ثم الغربية، وجعلوا من هذا البحر بحيرة فينيقية من خلال نشاطهم الملاحي المتميز فيه منذ الألف الثالثة قبل الميلاد هم من الشعوب السامية الذين هاجروا من مواطنهم الأصلية في الجزيرة العربية ( أنظر: باوزير " سعيد عوض " ، معالم تاريخ الجزيرة العربية، الطبعة الأولى، مكتبة الثقافة، مكة المكرمة، 1954م، ص 25 ).
والبعض يدرج هؤلاء الفينيقيين ضمن العرب البائدة والتي تضم عاد وثمود وطسم وجديس وغيرها. وهذا يجعل عروبة هؤلاء الفينيقيين في غير محل شك.
ثانياً … إن هؤلاء الفينيقيين هم من أقوام قدمت إلى سواحل البحر المتوسط من أراضي شرق الجزيرة العربية، وتحديداً من سواحل الخليج العربي، وبالذات من جزر البحرين، حيث وجدت في هذه الجزر مقابر أثرية يعتقد أنها للفينيقيين. وهذه المقابر الأثرية تغطي حوالي 4% من مساحة البحرين وتنتشر بوجه خاص في المناطق الشمالية والغربية من الجزيرة الكبرى والتي بها حالياً العاصمة المنامة. ( أنظر: الصياد " محمد محمود " وآخرون، دولة البحرين: دراسة في تحديات البيئة والاستجابة البشرية، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1975م، ص 269 ).
. وقد أشار المؤرخ الروماني استرابون المولود في سنة 63ق.م إلى أن في البحرين معابد تشبه الفينيقيين. ( أنظر: الصياد " محمد محمود "، المرجع السابق، ص 25 ).
. وذكر هذا المؤرخ الروماني أنه سمع عن وجود مستوطنات في هذه المنطقة تحمل أسماء صيدا وصور وأرواد وغيرها من أسماء المستوطنات الفينيقية. ( أنظر: غانم "محمد الصغير"، التوسع الفينيقي في غربي البحر المتوسط، الطبعة الثانية، ديوان المطبوعات الجامعية في الجزائر والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر في بيروت، 1982م، ص 18 ). وهذه الأسماء الفينيقية قد أشار إليها المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي عاش خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وكذلك أشار إليها نيار خوس أمير البحر عند الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد. والمعروف أن مياه الخليج العربي كانت إحدى مجالات التحرك الملاحي التجاري للحضارمة القدماء في تلك الحقبة السابقة على ظهور الإسلام. ويرى البعض بوجود احتمال كبير في كون سكان البحرين الأوائل قد قدموا من جنوب الجزيرة العربية. ( أنظر: علي "جواد"، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين في بيروت ومكتبة النهضة في بغداد، 1968م، ص 568 ).
ثالثاً … أن الفينيقيين كانوا يضعون بعض الرموز والأشكال على قبورهم، ومن ذلك شكل العينين، وهو نفس الرمز والشكل الذي كان يستخدمه قدماء الحضارمة في قبورهم. ( أنظر: بافقيه "محمد عبدالقادر"، تاريخ اليمن القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985م، ص 206 ).
رابعاً … لاحظ بعض الباحثين المتاخرين وجود تشابه بين هندسة عمران المدن في المستوطنات الفينيقية ومستوطنات جنوب الجزيرة العربية. ( أنظر: "ميادان مادلين هورس"، تاريخ قرطاج، ترجمة إبراهيم بالش، الطبعة الأولى، منشورات عويدات، بيروت، 1981م، ص 78 ). وهناك تشابه لاحظه بعض الباحثين في فنون التجارة والملاحة البحرية بين الفينيقيين وقدماء الحضارمة.
خامساً … إن الاكتشافات الأثرية التي تمت خلال القرنين الماضيين وعمت الأراضي التونسية وغيرها أشارت إلى أن الفينيقيين قد أطلقوا اسم حضرموت على واحدة من كبريات مستوطناتهم في ساحل تونس الشرقي، وهي المعروفة اليوم باسم سوسة. وقد أسسها الفينيقيون خلال القرن التاسع قبل الميلاد، وتحديداً بعد تأسيسهم لمستوطنة قرطاج ببضع سنين. وفي هذا رأى بعض الباحثين أن إطلاق الفينيقيين اسم حضرموت على تلك المستوطنة إنما جاء كذكرى لموطنهم الأصلي في جنوب الجزيرة العربية. ( أنظر: حميدة "عبدالرحمن"، الجمهورية التونسية: دراسة في الجغرافيا الإقليمية، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1973م، ص 128 ).
سادساً … أن الأسلوب الهادئ والسلمي للفينيقيين في التعامل التجاري مع الشعوب التي كانوا يفدون عليها، وخاصة من حيث عدم الاندفاع في استخدام القوة وفرض السيطرة على المناطق التي يصلون إليها يكاد يكون هو نفس الأسلوب الهادئ والسلمي الذي استخدمه قدماء الحضارمة في هجراتهم البحرية ورحلاتهم التجارية إلى السواحل الآسيوية والأفريقية المطلة على المحيط الهندي في عهود ما قبل ظهور الإسلام، وكذلك بعد ظهوره، مما مكنهم من إنشاء مستوطنات تجارية وجاليات سكانية على طول سواحل هذا المحيط. وهي مستوطنات شبيهة بالمستوطنات الفينيقية من حيث وظائفها وخصائصها وسماتها المادية والبشرية. وكما حرص قدماء الحضارمة على عدم الإساءة إلى سكان المناطق التي كانوا يصلون إليها نجد أن الفينيقيين أيضاً كانوا حريصين على ذلك، ولم يحاولوا تقويض نفوذ من كانوا مستقرين قبلهم في سواحل البحر المتوسط مثل الكنعانيين والآراميين والعبرانيين ثم البربر أو الأمازيغ وغيرهم، بل أن هؤلاء الفينيقيين كالحضارمة تماماً قد اقتصروا في استيطانهم على السواحل وفي الأراضي التي لم تعمر بعد، ولم يحاولوا التغلغل إلى الداخل، كما أنهم غالباً ما يقيمون مستوطنات جديدة لهم ويبقون على ما يجدونه من مستوطنات غيرهم. وبالجملة فإن الفينيقيين كالحضارمة لم يسعوا إلى تنفيذ ما يعرف بسياسة التطهير العرقي رغم هيمنتهم الاقتصادية والسياسية والإدارية على المناطق التي خضعت لهم، وهو ما يرفع من قدر وشأن هجرتهم وانتقالهم من مكان إلى آخر ويجعلها من الحالات الفريدة في التاريخ الإنساني.
سابعاً … كان الفينيقيون يحرصون على تكرار أسماء مستوطناتهم في بقاع مختلفة وصلوا إليها، مما سهل على الباحثين تتبع رحلاتهم وهجراتهم والتي استغرقت قروناً طويلة. وكما أشرنا فإنهم في البحرين قد أطلقوا اسم صور وصيدا وارواد، وبعد أن انتقلوا إلى سواحل الشام أطلقوا هذه الأسماء مرة أخرى على كبريات مستوطناتهم هناك. وفي تونس كما أشرنا أطلقوا اسم حضرموت على مستوطنتهم المسماة اليوم سوسة، ثم في جنوب أسبانيا أطلقوا اسم قرطاجة أو قرطاج على إحدى مستوطناتهم هناك والتي أسماها الرومان فيما بعد قرطاجنه أي (قرطاج الجديدة ). وقد أسس الفينيقيون هذه المستوطنة في أسبانيا عام 277 ق.م تيمناً باسم قرطاج والتي كانت من أعظم مستوطناتهم في شمال شرق تونس منذ تأسيسها عام 814 ق.م. ويقال أن كلمة قرطاج هي كلمة عربية محرفة قريت حدشت أي القرية الحديثة والمعني بها المدينة الحديثة. كما أن اول مستوطنة أسسها الفينيقيون في شمال تونس وكان ذلك في عام 1101 ق.م قد أطلقوا عليها اسم أوتيكا أي عتيقة. وهذا يؤكد مرة أخرى الجذور العربية لهؤلاء الفينيقيين.
ورغم كل ما ذكرناه آنفاً من شواهد على وجود مؤثرات حضرمية في الحضارة الفينيقية وهو غيض عن فيض والمجال لا يزال رحباً للبحث والدراسة فإن الباحث الجاد لابد له وان يرسخ ذلك باليقين العلمي. وقد يستغرق بروز هذا اليقين زمناً ليس بالقصير. ولذلك لابد علينا من القول بأنه وحتى وإن كانت هناك مؤثرات حضرمية في الحضارة الفينيقية، فإن مما لاشك فيه أن المجموعات الأولى التي انطلقت من حضرموت صوب الخليج العربي قد امتزجت هناك مع مجموعات بشرية أخرى كانت مقيمة في تلك المنطقة، وربما اختلطت مرة أخرى مع مجموعات بشرية في بلاد سومر في جنوب أرض الرافدين أثناء رحلتها صوب سواحل الشام. وفي تلك السواحل أيضاً لاشك في أنها اختلطت كذلك بغيرها ممن كان يسكن فيها سابقاً. وعندما وصلت إلى سواحل المغرب العربي وبعض جزر البحر المتوسط مثل كريت ومالطه وصقلية وسردينية وغيرها ولاشك في أنها كذلك اختلطت بغيرها من الشعوب القاطنة في تلك المناطق ومن ضمنهم البربر أي الأمازيغ وغيرهم.
ومن البديهي أن الانتقال من مكان إلى آخر في ذلك الزمان كان يتطلب وقتاً طويلاً، أي أن عملية التنقل هذه من مكان إلى آخر وما رافقها من اختلاط بالمجموعات البشرية التي تصادفها قد استغرقت قروناً عديدة. وفي كل مرة كانت المجموعة الأصلية للفينيقيين تكتسب أشياء وتفقد كذلك أشياء من خلال اختلاطها مع من كانت تجدهم في طريقها، وذلك من حيث العادات والتقاليد والأعراف والدماء واللغة وغيرها من الصفات الحضارية والخصائص والسمات العرقية، حتى أصبحنا نجد أن الفينيقيين المتأخرين إن صح التعبير قد صاروا مختلفين في كثير من السمات العرقية واللغوية والحضارية عن تلك التي كانت لدى الكوكبة الأولى من المهاجرين الأوائل المنطلقين من حضرموت، بل إن اسم ( الفينيقيين ) والذي عرفوا به إنما اكتسبوه بما أطلقه الإغريق عليهم به خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وحيث أن الإغريق قد أطلقوا على هؤلاء الفينيقيين كلمة فونيكس (PHOINIX )، وهي كلمة يونانية تعني صباغة الأرجوان، وهي مادة حمراء اللون مستخرجة من محار يطلق عليه الموركس ( MURIX ) والمنتشر في شواطئ بلاد الشام. وكان الفينيقيون يستخدمون هذه الصبغة بكثرة في مصنوعاتهم وبضائعهم التي يتاجرون بها وخاصة الملابس. ( أنظر: غانم " محمد الصغير "، مرجع سبق ذكره، ص 20 ) .
ولاشك أن هذا التنقل للفينيقيين من مكان إلى آخر واختلاطهم بعدد من المجموعات البشرية المعروفة آنذاك قد أدى إلى اكتسابهم المزيد من المعارف والخبرات، بل أنه ساعدهم وضمن عوامل أخرى تتصل باحتياجاتهم المباشرة كتجار لتسجيل المعاملات التجارية في اختراع أبجدية الحروف الرمزية بدلاً عن الأبجدية التصويرية أي الهيروغليفية الفرعونية، مما اعتبر أهم الإنجازات البشرية، وكانت هدية جليلة من الفينيقيين إلى العالم بأسره، ومكنته من التطور السريع في دروب المعرفة والتدوين والكتابة.
وكل هذا يجعل لحضرموت في رأينا نصيباً في هذا الإرث الإنساني الضخم الذي عرف عن الفينيقيين. وربما تكشف لنا الأيام القادمة أن من حق حضرموت أن تعتز بذلك، فلقد بدأت المسيرة التاريخية لهؤلاء الفينيقيين وكما يبدو بنفر من أبناء حضرموت، وكانوا من ذوي المهارات والقدرات الخاصة في التجارة والملاحة البحرية، واستعانوا بخبرتهم الطويلة في ارتياد مياه بحر العرب والمحيط الهندي، وبمعرفتهم بموعد اتجاه الرياح الموسمية الهابة على شواطئ حضرموت، وكذلك درايتهم بالتيارات البحرية المارة بقرب هذه الشواطئ، مما ضاعف في تحريك سفنهم نحو الآفاق البعيدة. ( حول شدة تأثير هذه الرياح وتلك التيارات البحرية في تحريك سفن عرب حضرموت وعرب الجنوب في بحر العرب والمحيط الهندي) ( انظر : باحاج " عبدالله سعيد "، ميناء عدن : دراسة في جغرافية الموانئ، الطبعة الأولى، مركز عبادي للنشر والنشر، صنعاء، 1996م، ص ص 38 41 ).
وفوق كل هذا وذاك فإن أفراد هذه الكوكبة من أبناء حضرموت المهاجرة لاشك في أنهم قد ظلوا يحملون في أعماقهم صدق الولاء ونبل الانتماء إلى وطنهم الذي فارقوه، بل لعلهم قد أورثوه للأجيال المتعاقبة منهم، وليعبروا عن ذلك الانتماء بأشكال مختلفة في العديد من مظاهر وخصائص الحضارة الفينيقية العظيمة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.