قال أحد الزملاء: تحدثت في عمودك (الوتر السادس) الأسبوع الماضي عن المتسولين، وتساءلت عن السبب في تزايدهم، وأنا أقول لك –وهنا أنقل كلامه بالنص تقريبا- ((السبب هو بلاهتنا نحن الحضارم وسذاجتنا، هناك من يصلون معنا في هذا المسجد ويتضورون جوعا، ولا يمدون أيديهم تعففا، ولا يعلم بهم أحد إلا الله، وفي كل حافة كثير من الجوعى والمساكين.. ماذا يفعل مرتب من خمسين أو ستين ألفا، مجرد مسخ، كثير من المتسولين نصابون، ومخبرون أيضا)) كان يتكلم بحرقة وحرارة، وكنت أعتصر داخلي وأعرف أن ما يقوله حق، وأن عاطفتنا زائدة عن الحد، وسريعة الانهيار أمام أي تمثيل جيد يثير شفقتنا. وتذكرت قبل يومين فقط صوماليا كهلا، لا يجيد العربية أو هكذا يتظاهر، كان يعرض على الناس حاجته بلغته السواحلية في ما يبدو، فلم يعطه أحد شيئا رغم أنه أطال الوقوف والحديث بعد الصلاة، لسبب بسيط هو أنه فشل في إثارة عاطفتهم، وعليه أن يتدرب ويعرف من أين تؤكل الكتف، أو يجرب أسلوبا آخر. ومن يدري لعله أستاذ في (مدرسة المتسولين) وفشل هذه المرة في أسلوبه الجديد!. وقال أخ آخر ((إن الأطفال الذين يجرجرهم المتسولون أغلبهم ليسوا مرضى، انظر إلى بواطن أقدامهم، وهم يحملونهم بين أيديهم، فلن تراها ناعمة بيضاء كالشمع كما هي رجل المريض، بل متربة خشنة)) في إشارة إلى أن الطفل يلعب بكامل عافيته.. وقال مرة أخرى: جاءني شخص يزعم أنه من قبيلة حضرمية معروفة، وطلب مني مبلغا من المال، فقلت له: أين تسكن يا أخي؟ قال: في الشرج، قلت له: تجاوزت إخوانك وأبناء عمومتك وأقاربك في الشرج ووصلت إلى فوة لتطلب هذا المبلغ المحدود من المال، وأنا من قبيلة أخرى، ولا أعرفك، وليس بيني وبينك صلات، فكيف اهتديت إلى محلي؟ ومن دلك علي؟ قال: فأدرك أنني كشفت احتياله، وغادر المحل بهدوء وصمت ليدخل المتجر المجاور. قال: وجاء إلى أحد أقاربي الأغنياء نصاب آخر يدعي أنه من شيوخ محافظة مجاورة يتمنطق جنبية زاهية وثيابا نظيفة، وقال أنتم آل فلان أخوالنا وصهورنا وبيننا وبينكم علاقة قوية وقد انتقصنا من مبلغ كذا، ولم يكن قريبي يعرف هذا الشخص أبدا، ولا من أي طريق جاءت هذه القرابة التي يتحدث عنها، فقال له: ليس من المعقول أن شخصا بهيئتك الممتازة يغادر محافظته إلى محافظة أخرى ولا يحمل هذا المبلغ الممكن من المال يحتاط به لحوائج السفر.. على أية حال بإمكانك أن تبيع الجنبية وسأشتريها منك، قال: فتراجع إلى الوراء وغادر المحل التجاري بلؤم وبرود كأن شيئا لم يكن! ما أريد أن أشير إليه هو أنه بشيء من الذكاء وفحص الحيل وتأجيل العاطفة لبعض الوقت يمكن أن نكتشف كثيرا من أكاذيب النصابين وألاعيبهم، فألسنتهم وأياديهم مجردة من أغمادها، وجملهم قصيرة ومركزة.. كل جملة تدر ما لا يقل عن خمسمائة ريال بعد كل صلاة أو في أي مكان، وقد يطلب منهم إمام المسجد أو صاحب المتجر الانصراف وعدم الإلحاح ولكنهم مستعدون بدموع قريبة تنهار معها أول معاقل المقاومة. إنهم يشخبطون حياتنا كما يشخبط ولد شقي جدرانا صافية، ويسببون لنا أوجاعا نفسية عندما نكتشف في مرات كثيرة أنهم استغفلونا ، فهم كالأعشاب الضارة يمتصون الغذاء من التربة على حساب أشجار نافعة ستزهر وتثمر، أولى أن نلتفت إليها وأن نرعاها. والأخطر أنهم ينشرون هذا المرض الاجتماعي بين أوساطنا ولعلنا نحن السبب.