قادة الشمال مثل قادة الجنوب تماما, كالتيوس المتناطحة في زريبة, ولذا فأي مشروع يكون قريبا منهم أو تحت عباءتهم فإن لوثتهم ستصيبه. ومن المؤسف جدا أن تنحاز القيادات الحضرمية مع معرفتهم التامة بهم نحو الجنوب والشمال تاركين الشرق يندب حظه. كلهم حرصوا أن يقدموا حضرموت في إطار أو إناء غير حضرمي, وقدموها كغرض من أغراض مائدة الإله الأعظم وباركوا الأكْلَة. فإمّا الإناء الجنوبي وإمّا الإناء الشمالي, وكأن حضرموت مجرد جزيرة صغيرة قذف بها بحر العرب قبل خمسين سنة. حرصوا جميعا – حضارم الجنوب والشمال- على أن يسيّروا رحلاتهم المكوكية بين العاصمتين الظالمتين الدكتاتوريتين ( عدنوصنعاء) ذهابا وإيجابا يعرضوا تاريخ حضرموت العريق ليرموا به في حضن إحداهما. وما هو المقابل والعائد الذي تستحقه حضرموت التاريخ والحضارة؛ أن تعود لعدن أو صنعاء, وتحظى بإقليم وهذا غاية منتهى هؤلاء وهؤلاء. عقمت حضرموت أن تلد مشروعها الخاص بما تمتلكه من حضارة وتاريخ وإنسان وثروة, كل هذا الإرث العظيم العريق لم يرتق بعد لدى حضارم عدنوصنعاء أن يجمعوا أمرهم ليقدموا حضرموت في إناء حضرمي خالص صرف. وإلى هذه اللحظة وهم يصرون على أن يضعوا أنفسهم موضع الأدوات التي يستعان بها وقت الحاجة, وأصبح كل فريق يكيد للآخر ويتآمر ضد الآخر ويحفر له الحفر السياسية, وكل الطبخات تعدُّ إما في عدن أو صنعاء. لا يملك حضارم عدنوصنعاء سوى صك العبودية لهذه العاصمة أو تلك, لم يتعلموا بعد من جور وإذلال عدنوصنعاء. لا يملكون غير الوعود والأحلام والأماني, ومع مَن! مع عسكر الشمال الهمجيين, أو مع عسكر الجنوب الدمويين الذين لم يخلعوا بزتهم الاشتراكية بعد. وكأنهم لم يصطلوا بنارهم أبدا, ولم تعلّمهم خمسون السنة الماضية وتحررهم من رق عبودية عدنوصنعاء. عزاؤنا لحضرموت في فئتين: فئة تتاجر بها وتعرضها في سوق نخاسة عدنوصنعاء. وفئة صامتة لا حركة ولا سكون ولا صوت ولا همسة, وكأنهم –أيضا- يتطلعون لعهد العبودية وينتظرون ما يسفر عنه عراك الخصمين. مثلما أن حضارم الشمال لا يملكون من عقارب وحيات الشمال أي ضمانات غير الوعود, كذلك حضارم الجنوب لا يملكون من عقارب وحيات الجنوب أي ضمانات غير الوعود. وكلهم لا يرون لحضرموت خلاصا ونجاة إلا عبر وسيط, وكأن حضرموت يتيم مشرد قاصر بحاجة لوصي يرشده ويؤويه ويأخذ بيده. هم لم يبدؤوا أبدا في مشروع حضرموت أصلا, وإنما قفزوا مباشرة للجنوب والشمال, حجتهم أن حضرموت قطعة أرض لا تملك وثيقة تؤهلها لخلاص نفسها. هكذا يرون حضرموت ( قطعة أرض ) بدون وثيقة رسمية, فهي في حكم اللقيط الذي يبحث عن أصله ونسبه. لم يشفع لهم تاريخها العريق وحضارتها الضاربة جذورها في عمق الزمن وإنسانها البسيط الكريم في خلقه وثروتها الطائلة. فحضرموت –في نظرهم- بحاجة لكي تثبت أهليتها؛ ل(وثيقة) ثبوت ومزاولة عمل, مِن مَن؟ من عدنوصنعاء. يا ألله ..!!؟ لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس فهي عملية بيع أشبه ببيع (المعتوه) وبيع المعتوه إن كان فيه ضرر لا يصح في حكم الشريعة الإسلامية. رحمك الله يا سيد قطب: (لقد شاهدتُ في عمري المحدود – ومازلت أشاهد – عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تثقل كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم .... ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد). رحمك الله يا سيد, بعد مقالتك تلك بخمسة أسابيع قامت ثورة يوليو1952.