ما أن أُعلن فوز مرشح الحزب الديموقراطي الأمريكي السيد/ باراك حسين أوباما بإنتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة حتى عمت موجة من الفرح العديد من الولاياتالأمريكية حيث عبّر الشعب الأمريكي عن فرحته بذلك الحدث بشتى المظاهر السلوكية التي كان أبرزها مظاهر الحبور الطاغ للقومية الزنجية التي ينحدر منها أوباما. ولم ينحصر الفرح بفوز أوباما في أمريكا فقط بل إنداحت دائرته لتشمل عدة دول أخرى في العالم. وقد إستقبل العديد من رؤساء الدول النبأ بالغبطة والسرور ورحبوا بتولي أوباما رئاسة أمريكا وذلك لإعتبارات عديدة بعضها متوافق مع بعضه والآخر متقاطع وذلك تبعاً للأسباب والدوافع الخاصة بكل دولة. وإذا أمعنا النظر في الأسباب والمبررات المباشرة لموجة الفرح تلك نجد أن أهمها، على المستوى الداخلي، أن قطاعات عريضة من الشعب الأمريكي قد تنفست الصعداء بعد ما قاست ما قاست جراء التدهور الإقتصادي المريع إبان حكم الرئيس السابق بوش و الذي قاد إلى تدهور الأحوال على شتى الأصعدة والمستويات. ومن أسباب الفرح أيضاً أمل المواطن الذي عانى من الأعباء الضريبية المرهقة وغيرها في وضع جديد تكون فيه الضرائب معقولة بحيث لا ترهقه مادياً. ثمة أسباب أخرى غير مباشرة دفعت المواطن الأمريكي أن يعبر عن سروره بفوز أوباما تتمثل في آماله في إيجاد حلول لمشاكل أمريكا الداخلية والخارجية التي خلفتها فترة حكم بوش. فمن المعروف أن تلك البلاد قد شهدت إبان فترة حكم بوش سياسات وممارسات متخبطة، أدخلتها في نفق ضيق بحق و حقيقة بل كادت أن تقصم ظهرها. ذلك أن من المسلمات التي تؤيدها الوقائع التاريخية المعاصرة أن سياسات بوش غير الحكيمة تلك قد ضربت أمريكا في مقتل وذلك من خلال إنطلاقها من إستراتيجية مؤسسة على مفهوم الهيمنة على الآخرين ومحاولة تطويعهم وتذويب إرادتهم بغية تحقيق أهداف أمريكا ذات الصبغة الإستعمارية ما جعل هذه البلاد تدخل في حروب في عدة جبهات من العالم، شكلت بؤر صراع تمثل، في مجملها، تراجيديا عالمية ما زالت فصولها المأساوية مستمرة في العراق وأفغانستان وغيرهما حتى يومنا هذا. فمن المعلوم أن فترة الرئيس بوش كانت تتسم بالممارسات العدوانية وإستعداء الكثير من دول العالم وقهر الآخر والتي أكسبت الولاياتالمتحدةالأمريكية عداء العديد من الشعوب وبالذات شعوب العالم الإسلامي. وقد كانت كل تلك السياسات والممارسات التي جلبت العداء لتلك البلاد تنطلق من دعاوى حماية الأمن القومي الأمريكي ومحاربة الإرهاب ومساعدة الدول على قيام نظم ديموقراطية وحماية حقوق الإنسان وغيرها. غير أن الواقع العملي أكد وبرهن جلياً أن تلك الدعاوى لم تكن إلا ستاراً لمحاولات الهيمنة على العالم و"أمركته". والغريب في الأمر أن بوش لم يكن، يفكر، كما كان يبدو، في العواقب المدمرة لسياساته وإنعكاساتها الوخيمة على بلده، وكأن الآخرين مسلوبو القوة. وقد تسبب ذلك السلوك السياسي الأرعن الذي لا تسنده أية مبررات وجيهة أو منطقية في إرهاق أمريكا إقتصادياً و عسكرياً وجرها إلى مستنقع آسن ظلت آثاره السالبة باقية بل و في حاجة ماسة إلى جهود جبّارة لتخفيف وطأتها على أقل تقدير. وقد أخذ الإقتصاد الأمريكي، بسبب مسلك الرئيس بوش المشار إليه، في التدهور حتى آل إلى وضع خطير. وساد التدهور، تبعاً لذلك، فعم العديد من جوانب الحياة هناك حتى تفشت البطالة وإعترت مظاهر التحول السالب عدة مناحي. ونتج عن ذلك كله أن مغامرات بوش الخارجية وقهره للآخرين قد عملت على نسف مكانة أمريكا كأكبر وأقوى قوة عالمية معاصرة مما أدى إلى زوال هيبتها وتمريغ سمعتها في التراب فأهتزت صورتها خارجياً مما يصعب معه إعادة سيرتها الأولى. وفيما يتعلق بمبررات الفرح لبعض الدول الأخرى فتتمثل، في إعتقادي، في إستبشار تلك الدول بأن عهد أوباما المرتقب ستسود فيه، حسبما بشر به برنامجه السياسي وخطابه الذي ألقاه إثر توليه الرئاسة، علاقات دولية قائمة على التعاون المشترك والإحترام المتبادل بين أمريكا ودول العالم الأخرى، بدلاً عن الغطرسة ومحاولات إبتلاع الآخرين. فخطابه قد تضمن إشارات موجبة منها أن منعة أمريكا ليس في قوتها العسكرية بقدر ما هي في وقوفها مع الحق ما ينبيء بإنتواء أوباما تبني خط سياسي يختلف عن ذاك الذي تبناه بوش مما يفتح أبواب الأمل في نشوء علاقات دولية تقوم على أسس "أخلاقية" و"إنسانية" ما يفضي إلى إشاعة الأمن والسلم الدوليين. أما بالنسبة لموجات الفرح العارم والبهجة والحبور التي إعترت زنوج أمريكا فقد كانت لها، بالإضافة إلى إشتراكها مع الآخرين في المبررات والأسباب سالفة الذكر، كانت لها خلفياتها وجذورها الخاصة. فقد كانت لتلك الموجات التي تجلت من خلال مظاهر الإحتفال والإحتفاء الكبيرين بفوز أوباما دلالات ومغاز كبيرة يمكن بلورتها في أن ذلك الفوز يجسد معانٍ نفسية وإجتماعية عميقة بالنسبة للزنوج لا يدركها حق إدراكها إلا من قاسى أيما قسوة من ويلات التفرقة العنصرية فيما يتصل بجوانبها الإنسانية، كما أنه يمثل تحولاً كبيراً ومفصلياً في وضعية زنوج أمريكا. ذلك أن وضعيتهم، ووفقاً للمعاني التي تضمنها خطاب أوباما، قد شهدت بفوزه نقلة كبيرة من حياة العبودية التي مارسها البيض ضد الزنوج إلى تسنم الحكم بأمريكا. ففوز زنجي برئاسة أمريكا يمثل السقف الأعلى لتطلعات الزنوج بحسبان أنه تحقق لهم ما كان في يوم من الأيام حلماً بعيد المنال. ففي الوقت الذي كان لا يتسنى لواحد منهم إبان فترة التفرقة العنصرية "Racial Discrimination" دخول مطعم مخصص للبيض، مكتوب خارجه "ممنوع دخول الزنوج والكلاب" ها هو ذا أحدهم يدخل البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية ... ويالهذا الحدث الفريد من إنقلاب يؤسس لحقبة جديدة في تاريخ السياسة الأمريكية. وأود، هنا، أن أسوق حقيقة باهرة فحواها أنه، وبالرغم مما يتسم به المسلك الأمريكي "الأبيض"، إذا جاز التعبير، من جوانب سلبية ومن تاريخ "أسود" إلا أن فوز أوباما يعد مؤشراً على تفوق أمريكا الكبير على العديد من دول العالم لا سيما العالم الثالث في التطور الذي شهدته الديموقراطية هناك. فقد ثبت، مقارنةً بديموقراطية العالم الثالث، أن ثمة ديموقراطية حقة بأمريكا. ومما أدى إلى تجلي الفيوض الشعورية الإستثنائية للزنوج الأمريكان إثر إعلان نبأ فوز أوباما برئاسة أمريكا هو النقلة الضخمة التي تحققت في مسيرة كفاحهم ونضالهم ضد سياسات التفرقة العنصرية وكذا صبرهم على ما أصابهم من أذى جسيم وغير محتمل من خلال ما لاقوه من إستعباد وبطش وتنكيل من قبل البيض ما ظل معه جرح "إنسانيتهم" نازفاً ردحاً من الزمن. ومن المعلوم أن نضال أولئك الزنوج المضطهدين ووقفاتهم الراسية في وجه الممارسات العنصرية بدأت تثمر وتؤتي أكلها تدريجياً فأنعكس ذلك على أوضاعهم شيئاً فشيئاً بعد أن أصبحت القوانين التي تصب في مصلحتهم تسُن، من وقت لآخر، وتطبق وتجد المناصرين. وهكذا فقد تبدل حالهم وأوضاعهم بمرور الزمن حتى بلغ ذروته بفوز أوباما. وكأني بالكثيرين من أولئك الزنوج، وهم منغمسون في مهرجان فرحهم الخرافي ذاك، وقد تداعت كل تفاصيل أدب التفرقة العنصرية البغيضة إلى مخيلة كل منهم فأمتزج الإحساس بالفرح بالذكريات الأليمة للماضي التراجيدي. وحينها يكونوا قد ذكروا كل قادتهم أمثال مارتن لوثر كنج الذين ضحوا بأنفسهم وهم يقاومون في جسارة متفردة سياسات التفرقة العنصرية والممارسات المتصلة بها والتعامل غير الآدمي الذي كانوا يُعاملون به من قبل البيض، فكانوا مهراً للوضعية التي تحققت والتي جنى ثمارها أبناؤهم و أحفادهم. وكأني بهم، حينها، وقد تداعت إلى مخيلاتهم، وهم يفيضون غبطةً، فضاءات وتفاصيل روائع الأدب الروائي العالمي الذي تمركزت مواضيعه في تسليط الضوء على التفرقة العنصرية البغيضة وتعريتها وفضح ممارساتها البشعة مثل "Roots" أي "الجذور" للكاتب المجيد والرائع أليكس هيلي والذي يتألف من أكثر من سبعمائة صفحة و"Uncle Tom`s Cabin" أي "كوخ العم توم" لكاتبته المبدعة التي أسهمت روايتها الرائعة في تحرير العبيد بواسطة الرئيس السابق إبراهام لوكولن. لذا لم يكن غريباً أو مثيراً للتساؤل أن رأى العالم عبر الفضائيات دموع الفرح الممزوج بالأحاسيس والمشاعر المعبرة عن إستدعاء أحداث تاريخية جارحة وأليمة تنهمر من عيون الكثيرين من الزنوج لا سيما كبار السن الذين عاصروا فترة التفرقة العنصرية الشؤمة. الجدير بالإشارة أنه لما إشتدت وطأة البطش والتنكيل و المعاملة غير الإنسانية بالزنوج الأمريكان قام البعض من خارج أمريكا بنصحهم بالهجرة من تلك البلاد تجنباً لمأساتهم تلك غير أنهم رفضوا ذلك وفضلوا الإستبسال على الفرار بحجة أنهم أسسوا الحضارة الأمريكية سوياً مع البيض وسوف لن يتركوهم يجنوا ثمار جهودهم بل سيتمتعوا بها معهم على قدم المساواة. ومجمل القول يعد فوز أوباما بإنتخابات رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنتقاله وعائلته إلى البيت الأبيض يعد بمثابة البداية الحقيقية لتحول كبير ومفصلي في حياة الزنوج الأمريكان وذلك على أكثر من صعيد. وبالطبع فسوف يؤسس هذا التحول لوضعية جديدة لهذه القومية الأمريكية كونه يمثل علامة فارقة ونقطة مضيئة في مسيرتهم الحياتية التي إتسمت في الماضي بكل ما يدنس كرامة الإنسان ويعفّر آدميته ويجرح كبرياءه. وسوف تكون هذه القومية المكلومة في حاجة لوقت ليس بالقصير من أجل التكيف مع هذا الوضع الحياتي الجديد. أما فيما يتصل بآفاق النجاح السياسي للرئيس الأمريكي الجديد فإنها ستكون مرهونة، دون ريب بجملة من العوامل الأساسية المطلوب تحققها والتي تشكل، سوياً، حزمة من العناصر الحيوية التي ستكتب قصة نجاحه إذا قدر لها أن تتوافر وتتفاعل مع بعض على النحو المبتغى. وتتمثل عناصر نجاح أوباما، في نظري، في الآتي: - توظيف زخم الفوز وحالة التفاؤل السائدة في الإصرار على تحقيق النجاح وبلوغ الأهداف المرسومة. - توافر الإرادة القوية والآليات الفاعلة التي يمكنها إعانته على ترجمة برنامجه السياسي إلى واقع ملموس وذلك بالقدر الذي يعمل على ردم الهوة بين التنظير والتطبيق ومقابلة القضايا والمسائل المستهدفة. وهنا تستدعي الضرورة الحرص على تطبيق شعار "التغيير" الذي تبناه أوباما بإعتباره شعاراً جاذباً للمواطن التوّاق للتغيير. وهذا الأمر يتضمن، فيما يتضمن، توافر المعينات المطلوبة لمجابهة التحديات المرتقبة. - قيام المناصرين له والذين صوتوا لصالحه في الإنتخابات الأخيرة وبالذات الشباب والزنوج بالوقوف خلفه ومساعدته، بصورة أو بأخرى، ليتمكن من تنفيذ برنامجه السياسي. ويتعين عليه، في هذا الصدد، توظيف القومية الزنجية إلى أقصى حد ممكن في تحقيق أهدافه ونجاحه، كونها القومية التي تقف خلفه وتناصره، بحق وحقيقة، بحسبان أنه يرمز لعزتها و كرامتها ومجدها القادم وأن توليه رئاسة أمريكا يمثل العديد من الدلالات بالنسبة لها. كما عليه تقديم كل ما يمكن تقديمه للشباب بغية المحافظة عليهم كرصيد داعم له. - الإستفادة القصوى من أخطاء بوش وتلافي ما وقع فيه من مستنقعات عكرة والعمل الجاد على تحويل نقاط ضعفه إلى نقاط قوة تصب في مصلحته. - إعتماده في تصريف شؤونه وتنفيذ برنامجه على رجال أقوياء وأذكياء يؤمنون تماماً ببرنامجه السياسي ليساعدوه على تنزيل ذلك البرنامج إلى دنيا الواقع بالقدر الذي يحقق أهدافه. ويستدعي هذا الأمر القيام بعملية إختيار دقيقة ومتبصرة كي يتسنى له وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. - يتعين عليه أن يدرك تمام الإدراك أن الأشواك ستوضع في طريقه ما يلزمه تحري الحذر الشديد وهو يسير في تلك الطريق حتى يؤمّن لنفسه وصولاً ميسراً وسلساً يتسنى له معه بلوغ غاياته. كما يجب عليه التيقن من أنه سيكون محل متابعة و مراقبة لصيقتين من قبل الجهات التي يهمها التأكد من أنه لن يحيد عن خط من سبقوه من رؤساء أو بالأحرى لن يقم بما يتضاد ومصالح البيض واليهود.