نتائج قرعة أندية الدرجة الثالثة بساحل حضرموت    نائب رئيس نادي الطليعة يوضح الملصق الدعائي بباص النادي تم باتفاق مع الادارة    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    كان طفلا يرعى الغنم فانفجر به لغم حوثي.. شاهد البطل الذي رفع العلم وصور الرئيس العليمي بيديه المبتورتين يروي قصته    لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم.. رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    34 ألف شهيد في غزة منذ بداية الحرب والمجازر متواصلة    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    الخميني والتصوف    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الريال ينتظر هدية جيرونا لحسم لقب الدوري الإسباني أمام قادش    الرواية الحوثية بشأن وفاة وإصابة 8 مغتربين في حادث انقلاب سيارة من منحدر على طريق صنعاء الحديدة    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    الخطوط الجوية اليمنية توضح تفاصيل أسعار التذاكر وتكشف عن خطط جديدة    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    العليمي: رجل المرحلة الاستثنائية .. حنكة سياسية وأمنية تُعوّل عليها لاستعادة الدولة    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    احتجاجات "كهربائية" تُشعل نار الغضب في خورمكسر عدن: أهالي الحي يقطعون الطريق أمام المطار    رئاسة الانتقالي تستعرض مستجدات الأوضاع المتصلة بالعملية السياسية والتصعيد المتواصل من قبل مليشيا الحوثي    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    كأس خادم الحرمين الشريفين ... الهلال المنقوص يتخطى الاتحاد في معركة نارية    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نبيلة .. البنت التي فتحت دكانة لبيع أكاذيبها بالمجان
نشر في نبأ نيوز يوم 03 - 11 - 2006

يعتقد شوبنهور أن العالم هو ما يتخيله. ويرى غاستون باشلار أن العالم هو ما يشتهيه. وبالنسبة لنبيلة الزبير هو " أكاذيبها " إذا جاز الإتكاء على تشخيص فرويد للخطابات كأعراض، فالذات التي تتجرأ على مخاطبة الآخر بكل هذا القدر من الشفقة " يا الله.. كم أنت وحيد " إنما تشير إلى عزلتها بشكل مقلوب، إذ لا تلبث أن تتراجع عن إدعاءاتها، وأكبر كذباتها لتعلن بما يشبه التوبة، ودون أي مكابرة " بدونك أسكن جسدي كله.. أعترف بأني أضعف أحيانا، أحلم أحيانا بالحجر الأكثر تعطشا لقهوة عيني ". ليس هذا وحسب، بل يصل الأمر إلى شيء من الاستجداء العاطفي المغلف بدعةٍ أنثوية:
ما عليَّ سواك
هل أخجل!؟
ما عليك سواي
هل تخجل !؟
إنها الأنوثة الفائضة. المطمورة تحت وابل من المداهنات اللفظية، فالكذب حاجة ثقافية تحتمل الشيء ونقيضه، ويرقى بقائله بقدر ما ينجح في إخفاء فكرة كون الكذب كذباً، أي تحويل النص إلى واقعية كاذبة، وهو ما يفسر هوس نبيلة الدائم للتغني بمجازية ذاتها الكذّابة، العامرة بالخيال الحي وانفعلات الأماني الدافعة. ذاتها الشغوفة بالتأليف والمبالغة والابتكار والاختراع والحركة بل الاغراء أيضاً، على اعتبار أن الكذب هو وسيلة للحصول على انتباه الجنس الآخر، وهو الأمر الذي تجيده نبيلة ولكن دون مكياج لفظي، ودون الوصول بخطابها الشعري إلى ما يسميه جورج طرابيشي " عبادة الرجولة " من جانب " أنثى ضد الأنوثة ". إنما من خلال لعبة لغوية تصعّد الكذب إلى مستوى فني، أو هكذا تنسج كذبتها بكثير من الإباء، وقليل من الادعاء:
أكاذيبي ليست بتلك السهولة
تعلمت الكذب على يد الفاقة والنقص
لم أفهم الأكاذيب الجاهزة ولم أطمئن لها
عشقت الأكاذيب التي أصنعها أنا
لم أكن أعشق الأكاذيب
كنت أعشق صنعها.
منذ أول عبارة شعرية ونبيلة الزبير تعيش في " متوالية الكذبة الرائعة " كما قررت في مجموعتها التي تحمل نفس العنوان، فالتكاذب هو طريقتها للتماس مع النص/الحياة. إنه مجازها، فطرتها، مخيالها، نبع استيهاماتها، ومكمن شاعريتها، على اعتبار أن الكذب، بمعناه الأدبي، ليس شكلاً من أشكال الموهبة فحسب، كما يقرّه أميل سيوران، ولكنه ينبوع دموع! مكر عبقري! بل هو سر الفن. لكأن مقولة ابن طباطبا " أعذب الشعر أكذبه " حقيقة قارّة وفاعلة، تتأكد على الدوام، بعد أن ضبط عبدالقاهر الجرجاني التباساتها التأويله على حافة التخييل، أو هكذا عادل تاريخ الوعي الشعري ما بين الكذب والشعر.
نصوص نبيلة تشتهي، في وعيها ولا وعيها، التشبّه بالحياة، حسب التشخيص النتشوي، وهذا ضرب أيضا من ضروب الاستيهام، بالنظر إلى أن الفن اهم تجليات النظرة السحرية للوجود، أو هكذا تخلّق - كشاعرة - مجازية صورها الشعرية على أنقاض الواقعي والمنطقي، أو ما يمكن ادراكه كوقائع، فهي مفتونة بكل ما يتولد من مفردة " الكذب " وكل ما يتداعي عنها بشكل مجازي. لا يستشف هذا من ملاحظة مستوى الولع بها كلفظة، ولا من دلالات كثرة الطرق على المفردة وحسب، ولكن بشكل ما من أشكال المواربة المفرداتية، وتلبيس المعنى بمغالطة حسية، أو تدليس جوهر القول الشعري بهفوات تشبيهية مقصودة.
هذا ما تنم عنه سيرورة وعيها كذات معجبة بالصور الشاعرية ومنتجة لها، كما يتأكد من غفرانها القديم المعلق كتعويذة، يتدثر فيها المعنى أردية لفظية مراوغة، فما نسميه قبحاً، برأيها " ليس إلا جمالاً مجروحاً ". كأنها بتلك الشطحة التصويرية الخاطفة، تمارس شيئاً من التوتير الدرامي للصورة الشعرية، من خلال تضخيم " الكذبة " التي يتناسل منها سلسلة من " الأكاذيب " المتوالية بصيغة الجمع كدلالة على تكاثر الاستيهامات، والإمعان في تحشيد الأوهام المخترعة، والتقنع بفائض أنوي من الوعي والرضا والطمأنينة، بغية الاستحواذ الذاتي على العالم عبر اللغة، أو السيطرة اللفظية على الوقائع العاطفية المدّبرة.
معانقة شاعرية وعيها، يفصح عن إتكاء جريء على الواقعة الحسية، وتفصيح على درجة من الاعتداد الأنثوي بالخبرات اللالغوية، كما ينبئ عن قدرة لغوية أيضاً على استثمار الفضاء الدلالي لمفردة الكذب، التي يصنّفها أبو هلال العسكري مرادفاً جمالياً للشاعرية، أذا ما تم اختبار انجازها النصي على حافة الايتيولوجيا، أو المصادر النفسية والموضوعية لكلماتها التي تحمل عمقاً أنثوياً يكمن مصدره في جسد يأبى أن يتجنس، مع اعتراف دائم وموارب بالحاجة المتأصلة إلى " آخر!!! " من جانب " امرأة سقفها رجل ".
إذاً، الكذب عنصر تكويني للشعر، تستبطنه عبارات نبيلة المجنحة إقراراً منها به كعصب لنصها، فالافتراض مثلا معادل لفعل التكاذب، تتمادى في إتيانه من خلال جدل عاطفي لا يعني إلا المزيد من التمزق العاطفي أيضاً، أو هذا ما تمتهنه في نص " لعبة السيل " كحلم يقظة لا يبتعد كثيرا عن فرضية ممكنة الحدوث:
سأفترض أنني حبيبتك ( مجرد فرض )
ستقول لي : يا حبيبتي ( مجرد كلمة )
سنذهب معا للنزهة
في الوادي
سنغمض عينينا
وسيجرفنا السيل
آخر النهار
وقد تعبنا
سنفتح عينينا مستغربين
لماذا لم يحدث ذلك
من ذلك المنطلق التحويري للألفاظ الدالة على رومانسية فعل التكاذب، يمكن رصد سلسلة من التداعيات والتنويعات على ثيمة " الكذب " التي يعبرها وعي نبيلة الشعري للدفاع عن الحقيقة من خلال الكذب كما يفترض الفن، كالخدع التشخيصية التي تؤديها " المرآة " بشكل تكراري مثلاً، بما هي رمز للحقائق المقلوبة، كما تستدعيها في " شجرة .. وقد تكتشف - حين تنظر في المرآة أو حين ينهمر حبرها غزيرا من عيني حبيبها - أنها غيمة ". كما يمكن التقاطها أيضاً بمعنى الإدعاء كما في نص " لعبة العقل ":
سأدعي أنني عاقلة
وستدعي أنك مجنون
سألعب معك بعقلي
وستلعب معي بجنونك
ثم سأطاردك وأنت تجمع الحصوات وتعدّ مرات سقوطي.
وهكذا تستدعي اللعب أيضاً كمعادل شعوري للكذب، بما هو الحيلة النفسية للتمويه أو القفز على مرارة الحقيقة، كما في نص " لعبة السيرة " الممزوج بحس الفكاهة، فيما يبدو محاولة للاستخفاف بالمعطيات والتملص من الواقع، أو هذا ما ينم عنه الوزن النفساني لكلماتها، والصوتيات الداخلية لمفرداتها، حيث التهكم الدائم، بما هو دليلها على اكتشاف المفارقة والصدع بين الممكن والواقع، وبالتالي اضطرارها للتعبير النصي عن ذلك الإحساس المرّ، أي عن الفارق بين القيمة العاطفية المعطاة وما يقابلها من واقع معاش:
سألعب معك ظمئي ( مجرد لعبة )
سأقول لك: قبلني..! ( مجرد كلام )
في المرة الأولى ستذهل
في المرة الثانية ستقترب سنتيما
وتبتعد نارك
في المرة الثالثة سينهرق ماؤك ونارك وحدهما
وظمئي وحده.
التكاذب إذاً، بكل تجلياته، هو الخلية المفسرة لنصوصها، إذا ما تم اختبارها بمشرط النقد الثيمي، فهي تسوي نصوصها داخل ما تسميه " أكاذيب في المحترف " لتقف في النهاية على حافة سراب، بما هو قرين الخداع بكل معانية الحسية، بمعنى الانطلاق من حرقة التجربة العاطفية، والإنتهاء إلى صيغة من صيغ التوهم المخيب لأي وجود خارج ذاتها، على اعتبار أن الرومانس هو الشكل الأصفى من الذات المراوغة، الذي تحلم بالحلول في الآخر، كما تتنّهده بحرقة ملذوذة " لو شربتك ماذا يصير! " رغم العناد الأنثوي الأصيل المنزرع بعمق في نصوصها، كما في نص " انتظار " مثلاً المعبأ بالمفارقات الشعورية، ودلالات الازدراء التي تحمل ما يناقضها:
أسفتُ لأنك لست معي
وحين التقينا أسفت كثيراً
لأنك لستَ معي.
هكذا هي " أناها " مخفورة بروح التنادد مع الآخر. لا تحضر في النص إلا كفاعل، أي على دراية وقصد بالتكاذب، وليس كذات مغدور بها، أو مرتكسة تحت وطأة مازوخية مكفوفة الأهداف، كأنها تقترب من المعنى الذي أراده ابن سينا بأن الشعر كلام مخيّل، فالكذب برأيها " ابتكار وخلق وتورط عظيم " وهو يعادل عندها الفعل، فالكذّاب، كما تستبطنه نصوصها، كائن تخييلي خلاق على درجة من الحيوية، ومرد ذلك كله إباء أنثوي صريح لا تتبرأ منه، بل تعاند به ما تضمره اللغة من استئثار ذكوري:
هكذا أدافع عن أكاذيبي
عن حقي في الفعل
عن موقعي في الجملة المفيدة حسب النحو العربي
النحو نفسه الذي يدلي لي لسانه كلما توهمت أنني أتواجد في مكان الفاعل.
بهذا التموضع في مركز وضمير المتكلم تغدو الأكاذيب بالنسبة لها إعتقاد. طريقة تفكير وحياة. حالة من الرغبة في التكلم لاستجلاء الذات، كما يشخص لاكان تلك العلاقة الغامضة بين الفكر والكلام، حيث ينهض اللاشعور على بنية منتظمة وليس على الفوضى، وهذا هو حال متخيلها الشعري، فهي لا تكتب من المنطقة الغسقية، أو بنفس تهويمي، بل من مكامن اليقظة، لدرجة تبدو أكاذيبها المدّبرة وكأنها سيرتها التي لا ترويها وفق منطقية سرد متماسك ولكنها تكتفي ببث جوهرها عبر نصوص مقطّرة، قوامها كلمات قليلة سابحة في بياض هائل، تعيد تدويرها ببراعة، أو هكذا يسيل من روحها الشعر بما يشبه طهورية الكلام، الذي يعادل سيكولوجية الاستشفاء. تكتبه وكأنها تنادم نفسها به، فنصها الذي تكاتب وتكاذب ذاتها به، إن هو إلا دليل لغوي على حيرة:
البنت التي اكتشفت كذبة الوقت
والكذبة لم تكن الوقت،
كانت البنت في لعبة الوقت.

بدورانها الفلسفي تحيل نبيلة الكذب إلى شعوذة لغوية. عبقرية شعورية. مخترعات ذاتية كما تعتقده. أو هذا ما تستعرضه بمكرٍ فني في " أكاذيب نونزاي " عندما تروي ما تيسر من وعي تلك الذات الكذوبة " بأكاذيب قليلة ... وقابلة للتعديل ". إنها سيرة " البنت التي فتحتْ دكانة لبيع أكاذيبها بالمجان .. وكانت تتخلص من أكاذيبها أولا بأول لأنها تريد كل مرة لعبة جديدة ". إنها البنت التي تتفنن باللغة لاتقاء الفعل الوحشي للزمن، وإبطاء ما يتقشر من " أناها " على ايقاعه المتسارع، بما هو الفعل الكوني الذي يستحيل مكاذبته، وهو ما يفسر خيبتها من عطالة نصوصها ازائه، لأنه العنصر الحيوي الذي لا يقبل المهادنة أو المكاذبة " هل الساعة معصوبة العينين وتسير " أو هكذا تتمادى في مراوغة الزمن لتطرح ذاتها عرضة للاواقع، إذ تدخل نصها بغفلة العارف في لعبة الحضور والغياب، أو تسقط بوعي الحالم في لعبة الخفاء والتجلي.
هكذا هي الأكاذيب بالنسبة لنبيلة، عملية خلق، وإعادة انتاج واعية ولا واعية للأنا التي لا تجد مفراً من فجيعة المصارحة. وهذه الأكاذيب لا تبلغ ذروتها الجمالية إلا إذا تخطت حاجز المعقول، فصارت أقرب إلى الهلوسة، بحيث ينفلت النص من تماسكه، وتنفرط خيوط منطقه، فالفرق بين العصابي والشاعر بتصورها " أن الأول يعاني هلاوس حسية أو ميتافيزيقية بينما الآخر يبتكر تلك الهلاوس ويخوضها دون خوف " وهو ما يتطابق مع رؤية دعاوى النقد النفسي من حيث نظرته للمبدع كعصابي. وبموجب هذا التقعيد التعبيري تستنفذ علو القيمة الدلالية والأخلاقية والفنية لمفردة " الكذب " وتستثمر طاقتها الفائقة في التخييل الذي هو أساس الشطح السريالي، فهو ابن الكذب بتعبير مارتن والاس، كما تتقنه نبيلة بمعناه العبثي وليس الحلمي، أو هذا ما أرادت التأكيد عليه مثلاً في " شاهد مائل " حين أعلنت " ان العقل هو الحجر الأول في هرم الموت " تاركة مفرداتها الهاذية القليلة تتمايل وسط فضاءات خرساء تتيح للمفردة شيئاً من الرنين اللفظي، إذ تمحو أكثر مما تكتب.
ذلك هو مكمن هلوساتها المعقلنة. في الخيال، بما هو أعلى صور التكاذب، وبما هو ملكة تحليل واقعية الصور وإعادة تركيبها، لأنه - أي الخيال - عقل في جوهره، ولكنه على درجة من التواطؤ مع الإنفعال، وهنا يكمن سر تعلقها برهافة الشكل الظاهراتي للصور الخلاقة، المتأتية من ذات نزقة على درجة من الطيش التعبيري، أو ذلك هو ما يغريها بدس ذاتها فيما تحت الوعي أو فوقه لتوليد صور مصفاة شعورياً، ومقصّفة لغوياً، وتحديد معالم ذاتها من خلال نصوص هي بمثابة وثائق نفسية، كاستيهامها القدرة على إنتاج أحلام عديمة الألوان مثلاً. ومحاولاتها السيزيفية العابثة ل" تنوين الغائب " وإصرارها على أنسنة الجماد أو التخاطب مع " فأس كان في نيته أن يورق ". وتوسلها السريالي الحارق لاختراع " وريد من السولوفان، لحزم تلك الأمطار في باقة، وتقديمها لمن نحب ".
تلك هي نبيلة المفصومة بحدة وحسرة ذات مضطرة للجلوس على كرسيين. المتبرمة من عدم وجود " حب دون أوتار عصبية يكون بوسع اللمسة أن تقطعها ". المقيمة في أطلال رجل مؤقت. الراقصة على إيقاع تنهيدة عشق أبدية، والمشنوقة بأمنية الارتماء " بين ذراعين شاغرين يمكن فتحهما واستعمالهما نهارا ". أو هذا ما تتقنه وتتفنن فيه من التصويرات الشعرية باستخدام أقل الكلمات، وفتح شقوق النص لحقنه بمزيد من الإشارات المحرضة على تأوّل المعنى الغائر، المستفزة للحواس، فالفرح كذب، برأيها " وكل كذبة ثمالة " ولكن الواقعية الكاذبة هي محكه، ومحل اختباره، فبوسع الفرح برأيها أن " ببببرأن يكون دائما ويتمطط .. دون أن يشترط علينا أعصاباً من الربل .. البلاستيك الرديء التوصيل الحب ".
وسط كل تلك التصويرات الخاطفة " أينع القلب في حلة الكذبة الرائعة " كما تصف استواءاتها العاطفية، حيث سمحت لجماليات الكذب بالتسرب إلى لغتها لإضفاء شيء من السحرية على النص، فهي كشاعرة، تمكر بالنص لتجعل من نفسها أمثولة، تغلف مادة نصها في بطانة نفسية، إذ تقيم في الحيرة والشقاء لتستدر تواطؤ القارئ معها، أو تدخله خابيتها دون إكراه. ويتصعد الأمر عندما تكون الذات هي القارئ الضمني فيما يشبه التشرنق " أغلق جلدي عليّ " حيث تغدو الصراحة مغلفة بشيء من التجريد المراوغ، وذلك ما تتقنه نبيلة، أي الوصول الى الآخرين دون الخروج من ذاتها، كما تفصح عن ذلك اعترافاتها النصية المتكررة.
الكذب إذاً يحتضن خبرات نبيلة في الألم والشجاعة، كما تشي بذلك مرارة نصوصها، ربما لأنها مفجوعة بشيء ما لا تريد تصديقه واقعاً، أو هذا ما تحاول تكذيبه نصاً، ولكنها في نهاية الأمر موجودة داخل حياة اكتسبتها بحرقة التجربة، وهو ما يفسر جانبا من متناقضاتها، ورغبتها الكامنة في المحو " كأنما قنينة الحبر التي كتبت كل هذا .. لم تكن إلا بياضاً أملس " فالكذب شكل من أشكال مراودة الذات للإنحجاب قبالة الحقيقة، والتخفي أمام رهاب التجلي، أو ذلك هو ما يتسرب إلى نصوصها من إنفصام شعوري، حيث الطراد الدائم وراء كائن يشفيها من عزلتها، وإن كانت تكابر إلى حين ارتطامها باللغة، إذ يفضح لا شعور خطابها الشعري مراوغاتها اللفظية، أو عند هذا المنعطف تنكشف ضآلة كذبتها أمام اللغة:
لهذا أفجر اللغة من تحتي وأقف على أنقاضها
- تفجرين من!
- اللغة
- هاهاهاها
هذه كذبة صعبة
لأنها صعبة أدعيها
أضع اللغة على الطاولة وأعرف أنها ملعوبة
لكنني أرفض كل مقترحاتها وأقترح عليها نفسي شرسة
لابد من شراسة عالية كي تبتلع اللغة لسانها الذي تدليه بسبب وبدون سبب
إلى الآن لم تقتنع السيدة "اللغة" إلى وجودي الحبي معها على نفس الطاولة
حتى الرجال دلت لهم لسانها حينما أرادوا أن يكتبوا بعيدا عن فحولتها

* عناوين ثقافية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.