نظم المركز الثقافي الفرنسي بمحافظة عدن مساء السبت الماضي فعالية عن "الكتاب في الأول" للكاتب الفرنسي الكبير دومنيك فرناندز. وفي الفعالية جرى استعراض عدد من الأعمال الأدبية للكاتب تضمنت مسيرة حياته الأدبية، إضافة إلى نقاش مع المشاركين في الفعالية حول تجربته في كتابة الرواية. وكان بيت الثقافة بصنعاء قد شهد الأربعاء الماضي فعالية للأديب الفرنسي الزائر قدم خلالها محاضرة عن تجربته الإبداعية. ودومينيك فرناندز روائي وناقد وصحافي ورحالة فرنسي من أصل مكسيكي ولد في باريس عام 1929، وصل عام 2007 إلى عضوية الأكاديمية الفرنسية. وذلك بعد مسيرة طويلة مع الكتابة أصدر خلالها أكثر من ستين كتابا نقل بعضها إلى العديد من اللغات. فمنذ نشره لرواية (قشرة الحجارة) عام 1959 وصولاً إلى (رامون) عام 2008، تنقل فرنانديز من جنس أدبي إلى آخر، ومن رواية إلى أخرى، موظفا شغفه بالسفر ومشاهداته في إيطاليا وروسيا وشمال إفريقيا ومصر وبلاد الشام. وكتب أيضا عن الروائي غوغول والرسام كارافاج والمخرج السينمائي بازوليني. والعام الماضي كرس كتابه الأخير للبحث عن تفسير للتناقض البارز في حياة أبيه (رامون) الذي كان أشهر ناقد أدبي بين الحربين العالميتين بالإضافة على كونه يساريا وشيوعيا. لكنه نُسي واستبعدت كتاباته الأدبية القيمة بسبب انضمامه في نهاية الثلاثينات من العام الماضي إلى الحزب الفاشي وقبوله التعامل مع الاحتلال الألماني لفرنسا وحكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية. وفي إطار زيارته الأولى لليمن التي بدأها الأسبوع الماضي التقى فرناندز بمجموعة من الأدباء اليمنيين في صنعاءوعدن إلى جانب لقائه بطلبة كلية الآداب في جامعة صنعاء. وفي اللقاء الذي احتضنه بيت الثقافة بصنعاء بحضور الشاعر عبد العزيز المقالح أكد فرناندز أهمية الكتابة الأدبية لتنمية مدارك القارئ. وانتقد الدور السلبي الذي تمارسه وسائل الإعلام تجاه الأدباء الذين تندر إطلالاتهم عبر الشاشات الفضائية. وفي المركز الثقافي الفرنسي بعدن تحدث فرناندز عن تقهقر الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص في عالم اليوم. كما أكد إن الأديب سيظل صاحب رسالة، وينبغي عليه أن يظل يمارس المعارضة الثقافية الهادفة إلى تنوير المجتمع وتطويره. من كتاب فن الحكي في ما يلي ترجمة قام بها الدكتور مسعود عمشوش للجزء الأول من كتاب (فن الحكي) الذي أصدره دومينيك فرناندز عام 2006: حتى أواخر القرن الثامن عشر، تعد الرواية نصا عاما جامعا يمكن أن يتضمن أي شيء. فاليوم تبدو لنا روايات ليساج، وفولتير، وماريفو، وساد، وديفو، وفيلدينغ، وبوتوكي مجرد سلسلة من الحلقات. وكان القراء حينئذ ينظرون إلى الرواية على أنها جنس أدنى من المسرح والشعر، اللذين يعدان نوعين مميزين لا يشوبهما مزج أو اضطراب. أما الرواية فهي مكان التجارب والأفكار والخبرات الجديدة. وفي أوائل القرن التاسع عشر ظهر نوع جديد ومختلف من الروايات؛ إنه رواية الاعتراف التي تسرد الحياة الخاصة للمؤلف، هذا ما نجده مثلا في أدولف ورينيه والويس. وكذلك في رواية دومينيك التي ظهرت في نهاية القرن، أوفي البحث عن الزمن الضائع التي نشرها مارسيل بروست في مطلع القرن العشرين. وقد برزت الحاجة إلى سرد الذات كرد فعل ضد سلبيات عصر الصناعة، والتوسع العمراني والحضري. إنه تعبير عن ذعر الذات التي تشعر بالحاجة إلى وقفة تأمل. ومن ناحية أخرى راجت في القرن التاسع عشر كتابة اليوميات والمذكرات، كالتي حررها امييل جوبير، ودو فينيي، وميشله، ومين دي بيران، وبودلير. ومع ذلك، هناك كاتب عثر على طريقة ثالثة لتأليف الرواية تقع بين الرواية-المسلسة ذات الشخصيات البعيدة عن المؤلف ورواية الاعتراف التي يتماها فيها البطل مع المؤلف؛ إنه ستندال، الذي رغم إعجابه بالكتابة الذاتية وتجريبه لها في نصه السير-ذاتي: (هنري برولار وهذا هو الاسم الحقيقي لستندال)، رفض أن يحصر نفسه في هذا النوع من الكتابة (الذاتية). فهو يريد أن يكون بيل المؤلف الحقيقي، وفي الوقت نفسه ستندال المؤلف الخيالي العاشق للسفر. فهو منذ سن السابعة عشرة اكتشف ايطاليا التي أنقذته من الانغلاق على نفسه. فبالنسبة لاستندال كانت إيطاليا هي أرض العواطف، والفعل، إنها بلاد الدراما والميلودراما. في فرنسا ننظر للناس وهم يعيشون، إما في إيطاليا ... فنعيش. عندما يبدأ ستندال في كتابة رواية ما، توجهه مشكلة مزدوجة: فمن جهة هو يريد أن يسرد ذاته. ومن جهة أخرى لا يريد أن يتحدث عن نفسه مباشرة. كل روائي يواجه هذه المعضلة: فالتعبير عن ذات بشكل مباشر، من دون وساطة شخصية خيالية لن يكون بالضرورة مسطحا. فبالنسبة لهؤلاء الروائيين الكتابة ليست مكانا للاستعراض المباشر بل ... للتحول. وقد صاغ رينه دو شاتوبريان مؤلف (رينه) الرواية-السير ذاتية و(مذكرات من وراء القبر التي لم يقرأها ستندال)، القاعدة العامة التي تقف وراء كل رواية: "لا يمكن لكاتب أن يرسم جيدا إلا قلبه، وذلك من خلال إلصاقه بشخصية أخرى". وقد استخدم ستندال على الفور هذه الصيغة الروائية: فهو سيتحدث عن نفسه من خلال استعارة هويات (أي شخصيات) بديلة، لقد حول نفسه إلى شخصيات أخرى تتكلم في مكانه. على سبيل المثال: هروب الكساندر فارنيس في رواية (دير بارم). في هذه الرواية لا يقدم ستندال نفسه في ملامح البطل الكساندر. لا. إنه يضع نفسه في مكانه ويتساءل: ماذا يمكن أن أفعل، أن أتصرف لو كنت ابن نبيل إيطالي؟ إذا كنت قد سجنت إثر مبارزة؟ لو كنت وقعت في حب حارس القلعة؟ لو هربت بواسطة حبل، الخ؟ باختصار: إنه يعطي لنفسه أولا هوية بديلة، ثم يترك هذا البديل يعيش ويتصرف وفق منطقه الخاص به. ومن هذا المنطلق تكون رواية (دير بارم) سير-ذاتية، بما إن ستندال يلصق مشاعره وعواطفه وحياته الداخلية في الهوية البديلة التي استعارها. إن الروائي يمكن أن يعيش العديد من الحيوات الخيالية بقدر ما يريد، وهذا هو سر الفن الروائي. والقارئ، من جانبه، عن طريق التماهي مع البطل ، يمارس أيضا هذه الازدواجية، وتحير نفسه من خلال هذا الانشطار. إذن فالرواية هي الفن الذي يسمح لكل من الكاتب أو القارئ بالهروب من حياته، ومن حصار وحدود حياته الواقعية. فكل رجل يعاني، وكل امرأة تعاني من عدم امتلاك إلا حياة واحدة وهوية واحدة، وبلد واحد، ولغة واحدة، وجنس واحد، ومهنة واحدة. والروائي الذي، يعاني مثل الآخرين من هذه المحدودية، ويمتلك درجة أعلى من الحساسية تجاهها، يسعى للعثور على الوسيلة المناسبة ليتمكن هو وقراؤه من تجاوزها. وباستثناء ألبرت تيبوده- أكبر نقاد القرن العشرين والمنبوذ من أساتذة الجامعة- لم يستطع أحد من النقاد أن يميز بين الروائي الحق القادر على خلق الشخصيات وبين الروائي الوهمي المتخصص في الخيال المباشر. فهو يكتب" يخلق الروائي الحقيقي من شخصياته من الاتجاهات العديدة لحيواته الممكنة، إما الروائي السيئ فيخلقها من خلال الخط الوحيد لحياته الواقعية. (تأملات حول الرواية ، 1912 غاليمار، 1938). وقد عبر الأديب العالمي أوسكار وايلد، عن هذه القاعدة في كتابه: (نوايا) حينما كتب "لأن شكسبير لم يتحدث أبدا عن نفسه في مسرحياته فمسرحياته تكشفه لنا بالتفصيل، وبطريقة أفضل مما هو عليه في الطبيعة. ومن المؤكد أن هذه السوناتات التي كتبها تفضح وتعري خزائن قلبه للقارئ اللبيب. نعم، الشكل الموضوعي هو قطعا الأكثر ذاتية. فالإنسان يكذب حينما يبدأ يتحدث عن نفسه بشكل مباشر. لكن أعطه قناعا (أو هوية مستعارة بديلة) وسيقول لك الحقيقة". إما غاستون باشلار فيكتب في (الأرض وأحلام الإرادة): "تكمن الجمالية المميزة للأدب في التحدث والكتابة واختراع الماضي. فالإحلال من أهم وظائف الأدب، الذي يمنح الحياة للفرص الضائعة". لقد وجدت ما يؤكد هذا المبدأ عند روائي آخر لم يقع في النرجسية وخطيئة تأليف (صورة دوريان غراي) مثل أوسكار وايلد: إنه ميلان كونديرا الذي يقول: "تجسد الشخصيات في رواياتي هي إمكاناتي الخاصة التي لم تتحقق. وهذا يجعلني أحبها، وأخشاها جميعها على قدم المساواة. لقد استطاعت تلك الشخصيات أن تعبر الحدود التي لم استطع أنا إلا رؤيتها. إن ما يشدني إليها هو تلك الحدود المتجاوزة والتي بقيت أنا خلفها. ففي الجانب الآخر يقع السر الذي تبحث عنه الرواية. لذا فالرواية ليست اعترافا، بل استكشافا للذي يمكن أن تكونه حياة الإنسان في هذا الفخ الذي آل إليه العالم".