تصدرت مدينة ممباي الهندية نشرات الأخبار الإلكترونية والورقية لعدة أيام، ولا تزال بعد الهجمة الإرهابية المطولة التي وقعت عليها في نهاية شهر نوفمبر. كانت الأطول والأعنف لأنها دامت ثلاثة أيام في العاصمة التجارية والمالية لشبه القارة إذ قتل فيها المهاجمون أكثر من مائتين وأصابوا ضعف العدد ودمروا أجزاءً من أشهر فندقين في المدينة وأكبر محطة قطارات وأقدمها، وروعت مدينة تضم في الأيام العادية ثمانية عشر مليوناً بالقادمين من الضواحي للعمل فيها، وكل ذلك في مساحة لا تتجاوز ستمائة كيلومتر مربع، وهي بذلك تشبه القاهرة المصرية بعدد السكان وكثافتهم التي تصل إلى عشرين ألفاً في كل كيلومتر. ومع ذلك يحبها أهلها ويتهافت عليها بقية الهنود للإقامة فيها بسيل يومي يصل إلى ألف فرد، وأكثر وأهم من ذلك أنها المدينة الأولى في الهند ومركز إشعاعها الثقافي والمالي وقلب الاقتصاد الوطني الذي يفوق ستمائة مليار دولار في السنة. لكن كل ذلك يخفي أيضاً فقراً مدقعاً، ومدن صفيح وأسمالاً وجريمة منظمة إلى جانب ناطحات السحاب حيث يبلغ ثمن الشقة الحديثة عشرات الملايين من الدولارات– الدولار يساوي اليوم خمسين روبية هندية، وبالقرب من بوابة العمارة تلك سترى عائلات متعددة الأفراد تنام وتطبخ وتتناسل على قارعة الطريق، كما سترى لو واصلت رحلتك بالسيارة أو بالريكشو –دراجة نارية تحمل ثلاثة ركاب– أو على الأقدام، مدناً بحالها من أعجب ما شاهدته في حياتي، ربما باستثناء أكشاك البرازيل والأرجنتين حيث مراتع الإجرام، وإن كانت اليوم أفضل حالاً نظراً للطفرة المالية التي تشهدها أمريكا الجنوبية. عرفتها أول مرة في منتصف الخمسينات للالتحاق بإحدى كلياتها، إذ كانت تضم بعض أشهر المؤسسات التعليمية منذ الاستعمار البريطاني الذي انتهى عام 1947 بتقسيم البلاد إلى الهند وباكستان، وهذه الأخيرة انقسمت بدورها لتفسح المجال لبنغلاديش، نفس شبه القارة التي كانت أيضاً تحت السيطرة البريطانية ضمت سري لانكا بلاد الشاي ونيبال موقع أعلى قمة (افرست) في العالم في أحضان جبال الهملايا القريبة من التبت ودولاً أخرى. ولما وصلتها من عدن أعجبت فوراً بجامعاتها وعمرانها وطرقاتها ومتنزهاتها إذ أنها حوت كل ما كنت أتمناه لعدن المستعمرة ومحمياتها التي تركها الاستعمار البريطاني في حالات متفاوتة من التخلف والفقر وبدون كلية جامعية واحدة حتى الاستقلال كما لم يكن في المنطقة كلها سوى مستشفى حديث واحد، بينما كانت ممباي التي بدلت اسمها من بومباي القديمة تتباهى بعدة مستشفيات حكومية وأهلية. بدأت ممباي كعدن تزدهر بعد افتتاح قناة السويس 1869 إذ طبق البريطانيون نظام الميناء الحر في عدن وطوروا ممباي فتحولت المدينتان على بحر العرب إلى مركزين تجاريين عالميين مع الفارق بينهما في المساحة، وعدد السكان والمناطق المحيطة بها، عدن ضواحيها فقيرة بينما ممباي لديها شبه قارة غير مقسمة، وشبكة قطارات، وعدة مراكز سكانية متكاملة في التعليم والصحة والنظافة العامة. ولما كنت أقيم وأدرس في قلب المدينة بالقرب من مبنى الجامعة الرئيسي، ظللت قريباً من محطة القطارات الأجمل عمراناً في آسيا، وبوابة الهند التي بنوها احتفاءً بمقدم الملك الإمبراطور جورج الخامس وزوجته الملكة ماري جدة الملكة الحالية إليزابيث، والنافورة التاريخية التي بنيت في العهد الاستعماري، والمركز التجاري والبورصة وأشهر البنوك ودور السينما التي كانت تعرض الأفلام الغربية والهندية كما كنت أقطع المسافة مشياً على الأقدام بين الكلية والسكن الداخلي إلى الكورنيش التي تشرف عليه عدة بنايات سكنية تعتبر من الأغلى في الهند قاطبة. كانت شبيهة بالقاهرة حتى النصف الأول من القرن الماضي ثم انطلقت ممباي بعد الاستقلال لتحتل مركزاً هاماً في الهند كلها وشجعت الحكومة على بناء عدة مدن صغيرة خارج حدود بلديتها– كما حدث في مصر الجديدة، ثم ضواحي أخرى تجاوزت حدود المطار الدولي، وتوغلت في مدينة ستة أكتوبر والطريق الصحراوي القاهرة- الإسكندرية، لكن الفارق أن الهند لم تؤمم المساكن، ولم تجمد قانونياً الإيجارات كما حدث في مصر لذلك اندفعت مدنها نحو المزيد من العمران، ولولا تضاعف عدد السكان لكان الوضع في المدينة أفضل بكثير مما هو عليه اليوم. كيف تسقي من الماء ما يقارب عشرين مليوناً كل أيام السنة. القاهرة معها النيل، وممباي لديها ست بحيرات من الماء العذب الصالح –إلى حدٍ ما– للشرب والغسيل والاغتسال والصناعة والزراعة، تمدها الأمطار الموسمية خلال أربعة شهور كل عام بكميات كبيرة, شبهتها أول مرة بأفواه القرب لغزارتها لأنها اضطرتني إلى الاعتماد على المظلة ليلاً ونهاراً وإلى تغطية كتبي الجامعية بالبلاستيك الذي يباع معهم حتى اليوم. أما الطاقة فتصل إلى الملايين عن طريق محطات كهرباء مع أن نسبة عالية من المستهلكين لا يدفعون فواتيرها, بل يفضلون سرقتها بمد أسلاك من كابلات الحكومة إلى مساكنهم, أو أنهم عند نهاية الشهر يقومون بإعادة تشغيل العداد الذي ظل ساكناً لتسعة وعشرين يوماً في الشهر, وإما بتسليك يد مندوب الطاقة بعدة روبيات ليتجاوز عن خطاياهم. يعود اسم ممباي إلى سيدة كان الهندوك يعتبرونها مقدسة اسمها ممباديفي عندما وصلها الأسطول البرتغالي لاحتلالها كما فعل أو حاول أن يفعل في عدن قبيل الاحتلال التركي والبريطاني، ولما تسلمها البريطانيون كانت عبارة عن سبع جزر ربطوها بعد ذلك بواسطة جسور وردميات، ولما تزوجت ملكة البرتغال كاترين براجانزا الملك البريطاني شارل الثاني أهدته الجزر مهراً له فقام بدوره بتأجيرها لشركة الهند الشرقية مقابل عشرة جنيهات إسترلينية -أقل من ألف ريال يمني حالياً– عندما كان عدد سكانها عشرة آلاف. شمل الاعتداء الدامي احتلال وإحراق فندق تاج محل التابع لشركة «تاتا» التي كانت تدير فندق تاج سبأ في صنعاء إلى عهد قريب، وكان أحد التجار الفرس قد بناه قبل مائة عام بعدما أهانه المدير الإنكليزي لأحد الفنادق في المدينة بمنعه من الدخول عندما قال له إن الهنود والكلاب ممنوعون من ارتياده.