في الوقت الذي يشهد فيه العالم العديد من الاتحادات والتكتلات والأحلاف الدولية والإقليمية ؛ يظل هاجس الوحدة العربية مطلبا جماهيريا ملحا للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج ، ومشروعا متجددا في الفكر القومي العربي. ورغم غياب التجانس القومي واللغوي والديني والعرقي والتاريخي بين مختلف الوحدات التي تتكون منها تلك الأحلاف والتكتلات الاندماجية إلا أنها تآلفت واتحدت متخطية مجمل تلك التباينات. بينما العرب الذين يتمتعون بالمقومات والخصائص التي تجمعهم وتميزهم عن غيرهم من الشعوب والأمم المتباينة لم يتمكنوا من تحقيق وحدتهم القومية! فما هي أسباب العجز التي حالت وتحول دون أن يستفيد العرب من مقوماتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية ، وبلورتها في إطار كيان وحدوي متماسك؟ يبدو من خلال تتبع الواقع العربي في مراحله المختلفة مدى حجم الصعوبات والتحديات التي أعاقت ولا زالت تقف حجر عثرة أمام ذلك المشروع العربي ، ونوجز منها ما يلي: تحديات البيئة الخارجية: تعرض مشروع القومية العربية لحملات متتالية من قبل الغرب, والصهيونية, وخاض معارك غير متكافئة مع مختلف أشكال الغزو ثقافياً، عسكرياً, ومادياً. حيث كان خروج العرب من الأندلس تاريخاً لولادة هذا التآمر. حتى حصول الأقطار العربية على "الاستقلال" في سنوات التحرير لم يرتبط تلقائياً بقيام "الوحدة، لأن "التجزئة" اقترنت بتعدد قوى الاستعمار وتنوع أساليبها في العنف والسيطرة، وهو ما حول النضال القومي العربي إلى نضال قطري ضيق الأفق في أغلب الحالات.وبتلك التجزئة نجح الاستعمار في وصم المنطقة العربية بالتخلف والتبعية من ناحية، وفي زرع الكيان الصهيوني من ناحية أخرى ، حتى اكتملت التحديات الاستعمارية اليوم بالعولمة الأميركية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن - باستثناء مرحلة الخمسينات والستينات-تفاقمت مشكلات الدولة العربية القطرية" داخل حدودها الاصطناعية، مع تعميق تخلفها وتبعيتها من ناحية، وتقليص المخاطر والتحديات التي تواجه الدولة الصهيونية من ناحية أخرى ، حتى أصبحت اليوم دولة إقليمية عظمى تهيمن على المنطقة لا سيما بعد التخلص من تهديد القوة العسكرية العراقية على مرأى ومسمع بل ومشاركة عربية واضحة. وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي و تشكل ما سمي ب"النظام العالمي الجديد" إلى انفراد القطب المنتصر بالإمساك بناصية التوازن الدولي، فتعاظمت إمكانيات التسوية السلمية للقضية الفلسطينية بشروط الصهاينة ، كما اختل التوازن الإقليمي باتجاه الإضرار بمصلحة العرب ، حيث تقلص وغاب هامش المناورة أمام الدول العربية ، وتدهورت مكانتها في النظام الدولي، وتراجعت أهمية قضاياها في أجندة النسق الدولي. وقد ترتب على ذلك تحول الأممالمتحدة إلى مؤسسة تابعة للولايات المتحدةالأمريكية ، فأصبح من الميسور عليها أن تستصدر ما تشاء من قرارات مجلس الأمن كما حدث في حصارها لبعض الدول العربية ، قبل حربها واحتلالها للعراق مطلع القرن الجديد ، ودون أي اكتراث للشرعية الدولية ، وامتدت هيمنها للتأثير أيضا على الجمعية العامة للأمم المتحدة (كما هو الحال في إلغاء القرار القاضي باعتبار "الصهيونية عقيدة عنصرية وشكلاً من أشكال التمييز العنصري"- وتلك سابقة حدثت لأول مرة في الأممالمتحدة). كل ذلك يعني أن القضية العربية كانت ولا زالت مسالة خارجية منذ القرن التاسع عشر ، ولا زالت حتى اليوم تخضع لإملاءات الإصلاح الغربية والأمريكية . حيث تتجه تلك الإصلاحات باتجاه: الحيلولة دون قيام أي شكل من أشكال الاتحاد/ الأمة العربية ، والوقوف ضد أي نزعات راديكالية قومية أو دينية للتحرر العربي ، واستمرار نهب الثروة النفطية والتحكم بها ، وحماية إسرائيل، وتحقيق أمنها الدائم، واستقرارها وقوتها ورفاهيتها ، إلى جانب مساندة ودعم استمرار سلطات تابعة تبعية مطلقة في اطار التحالف مع الأصدقاء العرب. تحديات البيئة الداخلية : يتمثل التحدي العربي الداخلي بالدوائر السياسية المتعددة دولاً وأحزاباً ، والتي تتسم بالكيانات القطرية الهزيلة العاجزة، حيث حل الفكر السياسي محل الفكر القومي؛ وفرض على العرب تحديات أخرى عسكرية ومعرفية وتقنية، ليس فقط في تراكم الأسلحة المتخلفة التي يقذفها الغرب إلى كل دولة عربية بكلف وأثمان باهظة ؛ وليس في برامج التدريب والتعاون المشترك مع دول الغرب ؛ بل في الانقطاع المعرفي والمنهجي والعسكري الحاصل بين العرب أنفسهم ، والتآمر العربي العربي على الرغم من وجود الجامعة العربية، والمؤسسات الثقافية والعلمية الموحدة ، فضلاً عن وجود مجلس الدفاع المشترك". كما أن العرب لم يستطيعوا حتى الساعة الانتصار على عوامل القهر والتجزئة في نفوسهم؛ بل ربما تحرص بعض القيادات العربية على تنميتها لتحقيق مصالحها الضيقة والأنانية. فتراجعت بذلك فكرة الوحدة العربية إلى فكرة التضامن العربي، ومن موقع الانطلاق القومي إلى موقع الدفاع عن الذات القطرية ، على شكل دعوات وحركات وأحزاب قطرية أو إقليمية وجدت تعبيرها في أطروحات ثقافية على شاكلة الأمة المصرية والأمة السورية والأمة اللبنانية، واستبدال أو تغيير الثقافة العربية بالثقافة الفرعونية والثقافة المتوسطية والشرق أوسطية، أو الثقافة الأفريقية،... الخ. كل ذلك جعل قوى الدفاع الذاتية داخل الواقع العربي عاجزة عن توفير الشروط الكافية واللازمة لفعل عربي قادر على التصدي لأشكال الاستحواذ ، وبناء القوة الذاتية، وأبرز ملامح هذا العجز تتجلى في: غياب دولة الحق والمؤسسات، والقانون، وتضخم السلطة بمفهوم التسلط، ، غياب الديمقراطية كناظم للحراك الاجتماعي السياسي، وشكلاً للعلاقة المتوازنة بين الحاكم والمحكوم ، اللاعقلانية، والتلفيقية كمنهجين أفصحا عن عجز فاضح في المجالات: السياسي والأيديولوجي والعسكري أديا إلى تقديم المصالح الفئوية الخاصة على المصلحة القومية ، إضافة إلى أن أغلب محاولات النهضة كانت فوقية ولم تمثل التعبير الواعي والحر عن حراك نابع من النسيج الاجتماعي للأمة، فبقيت الوحدة العربية على الهامش، إما في إطار النخب المحلية أو داخل الأقليات. إخفاق الجامعة العربية : تجاه كل ذلك أخفقت الجامعة العربية في تحمل المهام الموكلة إليها ، وأثبتت عدم فاعليتها فتراجعت الآمال المعلقة عليها.لا سيما مع تصاعد حالات التطبيع مع إسرائيل، حيث أصبحت القومية العربية في أروقة الجامعة من القيم الباليه والمستهلكة، ولم يعد لها في عصر المتغيرات الدولية، والعولمة، معنى ولا دور وظيفي تؤديه ، وهذا يعني إصابة الجامعة العربية بالشلل ونسف مبرر وجودها. فقد صعدت الجامعة خلال العقدين الأخيرين من اهتمامها السياسي والإعلامي بما يسمى مؤتمرات التعاون الاقتصادي بين دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، فتحولت بذلك إلى آلية للنظام الشرق أوسطي الذي يعمل الغرب على ترسيخه داخل الوطن العربي. وهو ما قاد بقصد وعن عمد إلى تهميش دور الجامعة ، واستدراج الأطراف العربية بعيداً عن العمل العربي المشترك، وعن الاتجاه القومي بمختلف روافده وأدواته الداعية إلى تحقيق الوحدة العربية. ويصبح الأمر أكثر وضوحا إذا أدركنا بان ميثاق الجامعة العربية الموضوع منذ ما يزيد عن نصف قرن ؛ يخلو من أهم هدف يؤكد قومية الجامعة ألا وهو هدف "الوحدة العربية"! ، الأمر الذي أفقدها الحافز نحو تعظيم دورها وتفعيل أدائها في المنطقة. فقد اهتمت مواد الميثاق بتنظيم العلاقات البينية للدول الأعضاء، والحث على تطويرها في مختلف المجالات بالأسلوب التقليدي المتبع بين مختلف الدول وفي صياغات تغلب عليها العمومية. كما لم ينص الميثاق على عدم جواز أن تنتهج أي دولة عربية سياسة تخالف أو تتعارض مع سياسة الجامعة. وهو ما كان سببا لهرولة البعض نحو التطبيع مع الصهاينة . أضف لذلك أن المادة السابعة من الميثاق تحدد طريقة اتخاذ القرارات وفقا لقاعدة الإجماع، وهو ما أصاب الجامعة بالضعف والجمود، في حين تم رفض استبدالها بقاعدة الأغلبية. وعليه تواجه الجامعة العربية في إطار الظروف والأوضاع العربية والإقليمية السائدة عدداً من التحديات الخطيرة التي لا تقتصر آثارها السلبية والمدمرة على فاعلية الجامعة فحسب بل وتمتد إلى وجودها ذاته ، وتتمثل تلك التحديات : بالصراع العربي العربي ، الآثار السلبية للتجمعات الإقليمية العربية على أداء الجامعة ، التصعيد الإسرائيلي للصراع مع العرب ، تصدير المشروع الشرق أوسطي إلى المنطقة لفرض التراجع عن المشروع القومي العربي ، التواجد العسكري الأمريكي على أراضي العراق المحتل وبعض دول ومياه الخليج ، التحالف التركي الإسرائيلي ، الأطماع الإقليمية الإيرانية في الخليج والمنطقة. ختاما: لا شك أن انعكاس هذا الواقع على المنطقة العربية يتحرك بفعالية في اتجاه تنمية التخلف ، وتعميق التبعية للغرب، نتيجة للتوجه العربي الأساسي نحو إعطاء الأولوية للعلاقات الرأسية مع الغرب، على حساب العلاقات الأفقية البينية مع العرب - من ناحية، وفي استمرار التجزئة وترسيخ قواعدها وأصولها، وعرقلة الوحدة ، أو حتى أي احتمال لوحدة عربية ممكنة - من ناحية أخرى. والأصعب أننا نشهد مزيداً من التفتيت والتجزئة "داخل" الأقطار العربية نفسها. ومعنى ذلك أن "العولمة" حملت معها خطر الاندماج والتبعية للغرب، بشكل أكثر بشاعة مما حدث في القرنين الماضيين، فضلاً عن خطر "الانفراط في الداخل". ولدينا نموذج لبنان من قبل، وما حدث في الجزائر ، وجحيم العراق اليوم ، وما مر ويمر به الصومال، وما استجد في السودان، والمحاولات القريبة في سوريا ، وغيرها من الدول العربية المستهدفة ، بما فيها الجمهورية اليمنية التي تتعرض وحدتها للتهديد والتآمر من وقت لآخر . والغاية من كل ذلك هي ضرب الوحدة الوطنية وتجزئة الأقطار العربية المجزأة إلى كيانات طائفية وعشائرية ومذهبية، لكي تنتهي إلى الأبد فكرة الأمة العربية الواحدة، وتتلاشى رسالتها الخالدة من صدور الجماهير العربية ، المتمسكة بأهدافها والمؤمنة بوحدتها رغم كل القيود والتحديات. * باحث في العلوم السياسية.