غيب الموت الأسبوع الماضي روبرت مكنمارا أشهر وزير للدفاع في تاريخ الولاياتالمتحدة.. نظراً إلى أن أسمه ارتبط بشكل عضوي بحرب فيتنام، وهي أول حرب تخسرها أميركا. توفى مكنمارا عن ثلاثة وتسعين عاما بعدما خدم في وزارة الدفاع بين العامين 1961 و1968 وبعدما وصفه الرئيس الراحل جون كينيدي بأنه "أذكى شخص عرفته". كان مكنمارا ذكيا بالفعل. كان رجلا أستثنائيا، لكنه امضى النصف الثاني من عمره يتندم على دوره في الحرب التي خطط لها والتي لم يعرف أنها ستودي بحياة ستة عشر ألف جندي أميركي خلال فترة توليه وزارة الدفاع وبأثنين وأربعين الفا آخرين في السنوات التي تلت تركه البنتاغون. في العام 1995، أنتهى مكنمارا من كتابة مذكراته وقال فيها بصراحة: إن حرب فيتنام كانت "خطأ، بل كانت خطأً رهيباً". ما لم يقله مكنمارا الذي تولى في العام 1968 رئاسة البنك الدولي بعد ما شكك الرئيس ليندون جونسون بولائه له، أنه أكتشف باكرا أن حرب فيتنام خاسرة. لم يستطع مكنمارا الخروج الى العلن وقول رأيه في الحرب. أكتفى بتوجيه رسائل إلى الرئيس ليندون جونسون الذي خلف جون كينيدي في نوفمبر من العام 1963 يشير فيها إلى الحرب التي تخوضها الولاياتالمتحدة في فيتنام من النوع الذي لا يمكن الانتصار فيه. وتؤكد وثائق رسمية أميركية أن مكنمارا أتصل في التاسع عشر من سبتمبر من العام 1966 بجونسون ليقول له "إني مقتنع شخصيا أكثر من أي وقت بأن علينا وضع خطة تؤدي إلى وقف القصف الجوي لفيتنام الشمالية". وفي التاسع عشر من مايو 1967، وجه رسالة إلى الرئيس الأميركي يحضه فيها على البحث عن اتفاق سلام بدل تصعيد الحرب في فيتنام. ومما جاء في الرسالة:" إن العداء الشعبي للحرب في تزايد مستمر". لكن رد فعل جونسون تمثل في دفع مكنمارا إلى الاستقالة، اذ اعتقد انه يتآمر عليه وأنه يعمل من أجل أن يكون روبرت كينيدي المرشح الديموقراطي للرئاسة بدلا منه. وفي نوفمبر 1967، اعلن الرئيس الأميركي أن مكنمارا سيصبح رئيساً للبنك الدولي. وقد أنتقل الرجل إلى منصبه الجديد مطلع العام 1968 وهو يتساءل:" هل أستقلت من منصبي كوزير للدفاع، أم طردت منه"؟ عاش مكنمارا ما تبقى من حياته الطويلة في ظل كوابيس حرب فيتنام التي كان يعرف مسبقاً أن الولاياتالمتحدة ستخسرها. وكان مهماً أن تكشف صحيفة "نيويورك تايمز" في متن المقال الذي كتبته عن مكنمارا، في مناسبة وفاته، أن الرئيس جونسون حصل على موافقة الكونغرس على الدخول في حرب فيتنام في خريف العام 1964 بعدما أدعى أن زوارق خفر السواحل الفيتنامية الشمالية هاجمت قطعا حربية أميركية في خليج تونكين يوم الرابع من أغسطس من العام نفسه. وتبين من الوثائق الأميركية الرسمية أن هذا الهجوم لم يحصل وأن كل ما في الأمر أن القطع الحربية الأميركية فتحت النار على أهداف وهمية كانت في الواقع ظلال الرادارات المجهزة بها... ولكن ما العمل مع إدارة أميركية لم يعد لديها هاجس سوى فيتنام ومع رئيس أميركي يبحث عن عذر، أي عذر، لاعلان الحرب وفي أعتقاده أن سقوط فيتنام الجنوبية سيقود إلى سقوط المنطقة كلها في يد الاتحاد السوفياتي الذي كان يخوض في تلك المرحلة حربا باردة مع القوة العظمى الأخرى التي اسمها الولاياتالمتحدة. كانت وفاة مكنمارا مناسبة لفتح جروح حرب فيتنام التي لم يتجرأ على قول رأيه فيها عندما كان وزيراً للدفاع. هناك عشرات الآلاف من العائلات الأميركية تحمل الرجل المسؤولية المباشرة عن مقتل أبنائها من دون سبب. لم يمتلك روبرت مكنمارا ما يكفي من الشجاعة لقول رأيه علنا في الوقت المناسب، أي في صيف العام 1966 عندما تلقي تقريرا من وكالة الأستخبارات المركزية ( سي.آي. أي) يؤكد أن ليس ما تستطيع أميركا عمله للانتصار في فيتنام. بعد أقل من أربعين عاما على إنتهاء حرب فيتنام في العام 1975، وهي أنتهت بهزيمة أميركية واضحة، تبدو الولاياتالمتحدة متجهة إلى فيتنام أخرى في أفغانستان حيث الحرب مستمرة منذ العام 2001، أي منذ ثماني سنوات تمثل ما يزيد بسنتين على ما أستغرقته الحرب العالمية الثانية. ثمة حاجة هذه المرة إلى من يقول بصوت عال داخل الولاياتالمتحدة نفسها أن لا انتصار أميركيا ممكنا في أفغانستان ما دامت هناك قاعدة خلفية تدعم "طالبان" انطلاقا من باكستان مثلما كانت هناك قاعة خلفية اسمها الصين والاتحاد السوفياتي تدعم فيتنام الشمالية. كان روبرت مكنمارا رجلاً ذكياً بالفعل. لكن الذكاء شيء والشجاعة شيء آخر. ثمة حاجة حاليا إلى من يشرح للرئيس الأميركي الأسباب التي تحول دون تحقيق أنتصار في أفغانستان. هذه الاسباب لا تتعلق بطبيعة أفغانستان نفسها والتركيبة القبلية والعشائرية للبلد فحسب ولا بالقاعدة الخلفية التي تمثلها باكستان المرشحة لأن تتحول إلى دولة فاشلة. يكمن السبب الذي يحول دون إنتصار في أفغانستان في أخذ الجيش الأميركي إلى العراق من دون سبب وجيه قبل أستكمال المهمة في أفغانستان بحجة أمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. تبين أن هذه الحجة لا تمت إلى الحقيقة بصلة... بل هي كذبة كبيرة على غرار مهاجمة القطع البحرية الأميركية في خليج تونكين في 1964. هل في واشنطن من يريد إجراء المقارنة والعمل من الآن على أيجاد مخرج من أفغانستان؟