مضى زمن طويل دون أن يتسبب العالم العربي بأزمة حكومية أو بتعديل وزاري أساسي في فرنسا.ويحسن الرجوع إلى حرب السويس عام 1956 أو حرب تحرير الجزائر حتى نقف على التأثير العربي في الأحداث السياسية المركزية في هذا البلد. الحاصل أن باريس شهدت تعديلا وزاريا أوائل الأسبوع المنصرم أدى إلى تعيين السيد آلان جوبيه وزيرا للخارجية بدلا من الوزيرة المقالة ميشال آليو ماري والسيد كلود غيان وزيرا للداخلية بدلا من الوزير بريس هورت فو, فضلا عن تعيين السيد جيرار لونغيه وزيرا للدفاع وهو ينتمي إلى تيار الوسط.. ويجمع المراقبون في باريس على أن إقالة السيدة آليو ماري, الحدث الأهم في التعديل الوزاري الذي بدا بمثابة عقاب لها على زيارتها الخاصة لتونس أثناء التظاهرات التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي.والواضح أن هذه الزيارة تمت برفقة والديها المسنين (92 90 سنة) وعلى متن طائرة رجل أعمال مقرب من أسرة بن علي والإقامة في فندق يملكه حيث تم توقيع صفقة عقارية بين الطرفين. ومع أن الأهل هم الذين وقعوا الصفقة وليس الوزيرة فقد ربطت وسائل الإعلام الفرنسية بين هذه الواقعة وبين موقف آليو ماري من التطورات التونسية اذ كانت تود مساعدة الحكومة في قمع المتظاهرين قبل أيام من سقوط النظام, الأمر الذي أثار ردود فعل تونسية حادة ازدادت اتساعا عندما التقت آليو ماري نظيرها التونسي الجديد الذي اجبر على الاستقالة بعيد اللقاء بها, ليتضح أن شرط عودة العلاقات الطبيعية بين فرنسا وتونس ينطوي على إقالة آليو ماري وهو ما تم بالفعل أوائل الأسبوع الجاري. بيد أن آليو ماري لم تكن وحدها موضع تساؤل الرأي العالم, فقد أميط اللثام عن عطلة خاصة قضاها رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون في مصر بدعوة من الرئيس السابق حسني مبارك وعلى متن طائرته الخاصة وبضيافته أيضا لكن أحدا في مصر لم يطالب بإقالة فيون ولم يشترط رحيله لاستئناف العلاقات الودية بين البلدين ناهيك عن أن الوزير الفرنسي الأول لم يدل بتصريحات مؤيدة لمبارك . ولم يقف مسلسل إجازات المسؤولين الفرنسيين عند هذا الحد فقد كشفت وسائل الإعلام مؤخرا أن السيد هنري غينو المستشار الشخصي للرئيس نيكولا ساركوزي قد أمضى عطلة رأس السنة في ليبيا وكان في ضيافة السفير الفرنسي في طرابلس وكاد الأمر أن يتحول إلى فضيحة لولم يكشف غينو عن تفاصيل رحلته وتحمله نفقات السفر من موازنته الخاصةوانه لم يجتمع بمسؤولين ليبيين وأن الزيارة كانت محصورة بسفير حكومته في ليبيا دون غيره. اكبر الظن أن التعديل الوزاري الفرنسي لم يضع حدا للفضيحة الحكومية فحسب وإنما انطوى على تطور آخر ربما يشير إلى مناورة جديدة في السياسة الخارجية الفرنسية تهدف إلى الامتناع عن التماهي تماما مع السياسة الخارجية الأمريكية وبالتالي إطلاق صوت مختلف على الصعيد الدولي . ولعل اختيار الرئيس ساركوزي السيد آلان جوبيه لتولي وزارة الخارجية ليس بعيدا عن هذه المنارة فالرجل كان رئيسا سابقا للوزراء ويتمتع بخبرة لا يستهان بها في الشؤون الخارجية, ناهيك عن كونه احد ابرز المرشحين للرئاسيات الفرنسية في العام المقبل والملفت أن هذا التعيين تزامن مع استطلاع للرأي يفيد أن 81 بالمئة من الفرنسيين يعتقدون أن دور بلادهم في العالم يتضاءل وذلك إلى حد أن عددا من الباحثين في باريس نظموا مؤخرا حلقة دراسية بعنوان هل انتهت فرنسا وهل انتهى الدور الفرنسي في العالم؟وهو سؤال يفصح عن حال الإحباط واليأس الذي يسيطرعلى الطبقة السياسية الفرنسية هذه الأيام وشعورهابان باريس فقدت زمام المبادرة وإنها تنتظر دائما الموقف الأمريكي حتى تقتفي أثره. وزير الخارجية الجديدة لم ينتظر طويلا ليبادر إلى التحدث بلهجة جديدة في السياسة الخارجية الفرنسية. فقد ربط التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا بصدور قرار صريح بهذا الشأن عن مجلس الأمن الدولي الأمر الذي يذكر بلهجة فرنسا عشية حرب العراق وبخطاب وزير الخارجية الأسبق دومينيك دوفيلبان الذي هدد بان تستخدم بلاده الفيتو ضد الحرب على العراق ما لم تنتهي أعمال التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل. و الملاحظ في هذا الصدد أن جوبيه تحدث عن رفض الشارع العربي للتدخل الأجنبي في ليبيا ونصح بالاعتماد على العقوبات الدولية. ليس موقف جوبيه من الأزمة الليبية مجردا من المنطق فهو يتناسب مع مزاج مواطنيه ورغبة حكومته وإنما أيضا مع أصوات في الإدارة الأمريكية ترفض الانزلاق في حرب ثالثة بعد أفغانستان والعراق. تبقى الإشارة إلى التعديل الحكومي الفرنسي لم يقتصرفقط على الخارجيةالفرنسية فقد شمل وزارة الداخلية وتعيين وزير جديد ليس معروفا بحساسيته المناهضة للمهاجرين الأجانب وهم عرب بأكثريتهم الساحقة ما يعني أن باريس صارت تقيم اعتبارا للشارع العربي أكثر من ذي قبل. وفي الخلاصة فإن فرنسا إذ تعتمد سياسة خارجية اقل التصاقا بالسياسة الخارجية الأمريكية فإنها تضمر الحصول على ردود فعل ايجابية داخل وخارج البلاد لكنها بالمقابل تدرك كما يدرك 81 بالمئة من الفرنسيين المستطلعين أعلاه أن التراجع الفرنسي ليس ناجما عن اللهجة السياسية التي يعتمدها هذا الوزير أو ذاك وإنما عن الضعف الذي طرأ على الغرب عموما وعلى فرنسا بعد حربي أفغانستان والعراق و التعثر في البناء الأوربي السياسي وفي تأسيس تيار متوسطي قابل للحياة هذا إذا أردنا إشاحة النظر عن صعود عمالقة آسيا وشبه القارة الهندية و الانعتاق الآخذ في الاتساع في أمريكا اللاتينية. نعم تتحدث فرنسا مع الآن جوبيه بلهجة جديدة لكن في إطار لغة غربية ما عادت مسموعة من معظم دول العالم وفق حكم جازم من هوبير فيدرين... وهو وزير آخر للخارجية لا يقل كفاءة عن جوبيه وفيلبان.