ذات يوم كتبت منشوراً صغيراً عن أحمد شوقي في صفحتي على الفيس بوك، تحدثت فيه عن أحقية أحمد شوقي بلقب “أمير الشعراء”، فثار بعض الأصدقاء من الشعراء والكتَّاب، وكأني مسستُ جزءاً من العقيدة!! وقبل أيام تناولت كتاب “الشوقيات” وقرأت الكثير من النصوص بكل أناةٍ وتجرُّد، فلم أجد الدهشة التي تساوي ذلك اللقب الأسطوري. أن تقرأ قصيدة لأحمد شوقي تتجاوز مائتي بيت يصف فيها أبا الهول، أو قصيدة تزيد عن مائة بيت شعر قيلت بمناسبة فشل حادثة اغتيال أحد خديويات مصر فهذا سيصيبك بانفجار الزائدة الدودية.. يومها خرج الآلاف من المصريين إلى الشارع لأجل هذا الحدث الذي لم ينجح، ومن سخرية الدنيا أن يموت في نفس اليوم مصطفى صادق الرافعي، ولم يخرج في جنازته سوى القليل الذين يعدّون على الأصابع.. وهذا هو الفرق بين من هم على البلاط ومن هم خارجه. هذه القصيدة الخديوية التي كتبها شوقي متفجِّعاً هي كالكثير من نصوص المهاترات التي كانت تحدث بينه وبين حافظ إبراهيم وغيره، فالقصائد الآنية والمناسباتية تموت بانتهاء المناسبة، إذ لا يستطيع أن يقرأ هذه القصيدة في محفل آخر، لأنها قد انتهت بانتهاء المناسبة التي قيلت من أجلها. إمارة الشعر كانت سياسية بامتياز، وليس لأن شوقي أشعر أهل زمانه، فهنا في اليمن ينادون عبدالعزيز الزراعي أمير الشعراء لأنه فاز في برنامج خليجي يحمل اسم “أمير الشعراء” فقط، وهذا لا يعني أن الزراعي أشعر أهل عصره، ففي اليمن وفي مصر وغيرهما من الدول العربية ستجد مئات الشعراء المجيدين الذين يستحقون هذا اللقب عن جدارة، وليس كاستحقاق شوقي الذي أفنى معظم شعره في مسح بلاط الخديوي. حافظ إبراهيم أرق من شوقي في قصائده، رغم أنهم يلقبونه ب”شاعر النيل”، وهو لقب لا يرضى به شاعر مبتدئ.. وأما إبراهيم ناجي وكامل الشناوي فهما أشعر من شوقي بمراحل عديدة، لكنهما لم يكونا يتمسحان ببلاط السياسة ليفوزا بالحظوة التي نالها شوقي. كانت السياسة هي التي تلمِّع بعض الأسماء الأدبية في مصر، إما عبر البلاط الملكي أو عبر بعض الصوالين الأدبية التي كانت تقوم بجزء من هذا الدور.. فها هو الأديب يحيى حقي، صاحب الرواية الشهيرة “قنديل أم هاشم”، لم تخلع عليه السلطة والصوالين الأدبية أي لقب، حتى وإن كان لقب “الأستاذ”، مع أنه كاتب متفرّد ومتميز. تم خلع لقب “عميد الأدب العربي” على طه حسين، و”عملاق الفكر العربي” على عباس العقاد، وغيرهما الكثير من حملة الألقاب المُركّبة التي لن تزيد من إبداع حامل اللقب ومن حجمه الأدبي أوقية واحدة إن لم يكن كاتباً حقيقياً، فالتاريخ يغربل كل شيء، والأجيال القادمة لن تؤمن بمسلَّمات ذلك الجيل الذي إن لم يكن يريقه حقيقياً فلن يدوم إلى الأبد. التقديس، وتوارث الآراء يجعلك تُضيِّع البوصلة، والمقولات الجاهزة التي توارثناها وسلَّمنا بها تسليماً مطلقاً ليست سوى قشور طافية على السطح تمنعنا من متعة الغوص والاكتشاف.. فلا شيء أضرَّ بالعرب كالتقديس، والانحياز للأصنام المتوارثة في المناهج وكتب التاريخ. بالتأكيد لا أحد يستطيع أن ينفي شاعرية أحمد شوقي نفياً تاماً، فقد كتب قصائد جميلة حين كان منفياً في أسبانيا، كقصيدة “سلامٌ من صبا بردى أرقُّ” وغيرها، ومع ذلك لا ترقى هذه النصوص الجميلة إلى مستوى اللقب الذي ألبسته السياسة، وما جعل بعض قصائد المنفى جميلة فذلك لأنه كتبها من أجل الشعر وليس من أجل مدح الخديوي عباس حلمي، أو الملك فؤاد.. أما حين كان يكتب وهو واقف أمام عرش الملك فإن الأرض تهتز من تحته وتظهر كل صوره الشعرية مهزوزة.السياسة ترفع من شأن الكثير وتضع الكثير، ولا أدري كيف انطلت أكذوبة “أمير الشعراء” على أحمد شوقي؟!