جابرنا عمرو بن براقة قال وفي الليلة التاسعة بعد الألف وبعد أن شاع موت شهريار دخلت عليّ قارئة الكف وهي تتلوى كالمحصور وتنذر بعظائم الأمور فقلت لها حسبك يا بومة السواد ونذير الشؤم في البلاد ثم تلفت أبحث عن شهرزاد واسأل عنها الرائح والغاد إذ بجنود شهريار يتنادون كالنسور ويتوافدون من ثكنانتهم حول مجمع القصور وهم يصرخون ملككم مغدور .. ملككم مغدور ويشيرون نحوي بصوت مدوي اقبضوا على ذلك البدوي فأدركت الخطر الوشيك وفررت بجلدي وقفزت من خلف السور وأنا أقول يا فكيك ثم أسرعت في العدو والجريان حتى غبت عن العيان وحلَّ علي الليل بعد أن هد عدوي وجرياني الحيل فقلت آخذ قصدا من الراحة فقد صرت بعيدا عن الساحة وماهي إلا إلماحة إذ بكلب يقترب على هريره ونباحه ووقع حوافر خيل يتداعى من كل جانب فقلت في نفسي لي البقاء في هذه المضارب بالرأي السديد ولا الصائب ومن لم تعركه التجارب ليس له الزمان بصاحب فتواريت بعيدا عن الأنظار وأويت إلى كناسٍ من الأشجار وبت تلك الليلة على غير قرار .. تقلبني الوساوس وتوجس الأخطار تقليب الشواء على النار وبالكاد ينتابني بالرغبة لذيذ الرقاد حتى يعاودني القلق على شهرزاد التي تركتها عرضة للاتهام في بلاط عالي المقام الذي قضى نحبه فجأة دون أن تمتد إليه يدها أو يدي ودار في خلدي أن أستجمع قوتي وجلدي وأعود لا أصطحبها عائدا إلى بلدي وبقيت على تلك الحال غير خال البال إلا من شهرزاد رفيقة دربي ونضالي وشهريار الليالي .. استرجع تاريخه الحافل بالإبهار والأساطير والأخبار وأستغرب كيف ضحكت له الدنيا اللعوب فاستطاع تخمير العقول وتخدير القلوب فانصاعت له الشعوب وانحنت له الجباه وظل حاكما مدى الحياة حتى تجاوز ملكه تلك الديار ليمد نفوذه وسلطته على سائر الأقطار والبلدان والأمصار .. وأنا أقلب سجله القديم وأتأمل ماضيه العقيم بحثا عن أمارة تدل على ما يثير من بناء وتعمير أو ما يستوجب الإكبار ولفت الأنظار من رفاه وازدهار مَنَّ به على شعبه ولم يظن به على صحبه من أولي النخبة .. فلم أجد ما يستحق الإهتمام أو التقدير والاحترام فقد كان رجعيا وسادي متعرضا لكل رائح وغادي يتلبسه شيطان رجيم .. وشهوة السلطة والتلذذ بتعذيب الحريم وممارسة التخدير والتنويم ليأمن على بقاء سلطانه غير مبال ولا آبه برعيته الذين اتخذهم مطيته ولا هياب بالكرب العظيم الذي يجثم على شعبه الكريم مستمرئا ضرهم ومستحليا عسرهم وفقرهم .. ولم يصح يوما ضميره أو تصف نيته فيعمل على تنوير وتعليم رعيته بل على العكس أسرف في التضييق والتعتيم حتى أصبحوا كاصحاب الكهف والرقيم .. قال عمر بن براقه وعلى الرغم أنه ليس لي ولا لشهرزاد بموت شهريار أية علاقة إلا أني تنفست الصعداء وأطلقت زفرة حراقة وبعثت من الحنايا لوحش الفلا ة وطيرها .. أبهى باقة من التهاني والأماني بذوبان الجليد وتدفق الروح في بلداننا من جديد وحن حنيني إلى شهرزاد وإلى احتضانها بذراعي الفؤاد وقد تغلبت مشاعري وأحاسيسي على هواجسي ووساويسي وبريق الشعر يتدلى من جناني وفراديسي ويدنو مني لأصيغه على غير معاييري ومقاييسي فقلت مرتجلا: من ألف عام يا كتاب الليال .. ولم أمل الصبر والانتظار والحرب بيني والليالي سجال ولا يجلِّيني إليها نهار والدرب ينأى والمراحل طوال ولهفتي تدعو البدار البدار يا شهرزاد الروح إذ لا أزال على مطال الوعد أرجو مزار لكنني حقا بلغت المنال مستودعا مافيك من شبل نار قولي ابن براق الربيع يا رجال ولا تخافي قد قضى شهريار وظلت أترنم بما راق لي من أشعاري المرتجلة.. حتى رفع الليل عني كلكله .. وبعث إلي الصباح من سناه أجمله .. وحياني بابتسامته البراقه .. فقلت لنفسي ياعمرو بن براقه ألا ترى في هذه الإشراقه ما يدعوك للانشراح فقلت لها يانفس كفي المزاح وقد اقترب هرير الكلاب ونباحها فسكتت الديكة عن صياحها.