واعتزازاً منا, بل وثقة وإيمان يُعززهما يقين خالص, بأن الشاعر والمُفكر والأديب الأستاذ عبدالله البردوني, كان وسيظل من بين كل الشعراء والكتاب والمفكرين هو الأكثر والأرجح منطقاً وسداداً, والأمهر والأقدر على تشخيص الحالة المرضية اليمنية التاريخية المزمنة في كل مراحلها, والأكثر فهماً وتوفيقاً وتمكناً في تحليل ما حدث ويحدث في اليمن, من خلال قدرته الخارقة على كشف الحقائق وتبيان الغموض وتسمية الأشياء بمسمياتها, وسبر أغوار الغد والمجهول واستشراف الآفاق البعيدة فيه بجملة من النبواءت والأحجيات التي تضمنتها كتاباته النثرية وقصائده الشعرية. على أن كل ما صدر عن البردوني يمثل النبأ اليقين لجل ما يتعلق هُنا بلعبة الدم والموت, وطبيعة الصراعات والحروب التي تشهدها اليمن بين الفينة والأخرى ومآلاتها, وهذا سبب كافي يجعلنا نستشهد ونستدل بما رآه وقرره بهذا الشأن. وبالعودة الحميدة إلى مشاعر الرائي "البردوني" التي كان رحمه الله يستحضرها وهو " جواب العصور, من خلف العصور هاكم هنا أبياته "المتنكرة للأحجيات", والتي يصدح فيها صادقاً بما سبق وأشرنا إليه في قصيدة شعرية مُعبرة, هي أقرب إلى الشرح والوصف للإنسان اليمني, يقول فيها بإسلوبه الشعري البديع المميز: عرفتهُ يمنيًّا في تلفّتِه خوفٌ وعيناهُ تاريخٌ من الرَّمَدِ. مِن خضرة القات في عينيه أسئلة صفرٌ تبوح كعُودٍ نصف مُتّقِدِ. رأيت نخل (المكلا) في ملامحهِ شمّيت عنب (الحشا) في جيده الغيدِ. من أين يا اِبني ؟ ولا يرنو وأسألُهُ أدنو قليلا : صباح الخير يا ولدي. ضمّيتُه ملء صدري إنّه وطني يبقى اشتياقي وذوبي الآن يا كَبِدي. من مات يا ابني ؟ من الباقي ؟ أتسألني ... فصول مأساتنا الطولى بلا عددِ. ماذا جرى في السنين الست من سفري ؟. أخشى وقوع الذي ما دار في خلدي. مارست يا عمّ حرب السبع متقدا. تقودني فطنة أغبى من الوتدً. كانت بلا أرجل, تمشي بلا نظر كان القتال بلا داعٍ سوى المدَدِ. وكيف كنتم تنوحون الرجال بلا نوحٍ نموت كما نحيا بلا رشَدِ؟. فوجٌ يموتُ وننساه بأربعة فلم يعُد أحد يبكي على أحدِ. وفوق ذلك ألقى ألف مرتزق في اليوم يسألني ... ما لون معتقدي؟. بلا اعتقادٍ وهم مثلي بلا هدفٍ يا عمّ, ما أرخصَ الإنسان في بلدي..!!. وأمام هذا التجلي والوضوح الذي جسده البردوني بل وعكسه في قصائده وشعره ومجمل كتاباته المتعددة المجالات والأغراض يبقى هو وحده مميزا وفريدا, ويجعلنا كذلك مع ذلك نتفق مع الأديب والشاعر عبد الكريم الخياط الذي لم يخف إعجابه وإنبهاره بالبردوني وما أبدعه شاعرا ومفكراً وأديباً وكاتباً, وقد أجمل ذلك في رأيه فيه بقوله :" يرحم الله الشاعر الكبير جوّاب العصور عبدالله البردوني الرائي المبصر لليمن بعينين من قلبه، فارتبط بهما يسمّر عينيه يشاهد صفحات من الأهوال فتنقاد الحروف لمعانيه الاستشرافية في وضاءة شفيفة يسلط عليها ضوءه النوراني الكاشف لأسباب العتمة التي تظهر بين عيون الشعب اليمني القابع بين ظلام قرون ترسبت حول عقولهم صلابة ضد الوعي أو التجديد في التفكير لاستنهاض أبجديات الحضور بين فسيفساء الغياب المتلفع بأحجيات تتنكّر حتى للتعايش مع بني البشر على جودي الإنسانية ". ويضيف الخياط في وصف البردوني :" يالها من مشاعر "راداريّة" استحضرها الرائي من خلف العصور؛ لتوقف ال(أنا) بنزعتها الأزلية المتبجحة (أنا خير منه ) ، خيريّة تتنصّل منها الشعوب والأوطان ولاتقرّ بملامحها الأديان " ولأنه وقف دوماً مع الشعب وانتصر لقضاياه العادلة, فلا غروى أن يكون خير وأصدق من يعبر عن مايريده هذا الشعب ويبتغيه. وما أصدق وأنبل مشاعر البردوني الوطنية تجاه شعبه ووطنه, حين عبر عنها أو ترجمها بقوله في قصيدته الرائعة ( الطريق الهادر ), ولسان حاله بشأن هذا الشعب الذي بر به حقاً يقول : هو الشَّعبُ طافَ بإنذارهِ على من تحدَّاهُ واستعبَدا وشقَّ لحوداً تَعَبُّ الفسادَ وتَنجَرُّ تَبتَلِع المُفسِدا. وأوما بِحبّاتِ أحشائهِ إلى فجرهِ الخصب أن يُولدا. أشار بأكبادهِ فالتقت حشوداً مداها وراء المدى. وزحفاً يُجَنِّحُ درب الصباح ويستنفِر التُرب والجلمدا. وينتزع الشعب مِن ذابحيهِ ويُعطي الخلود الحِمى الأخلدا. ويهتف: يا شعب شيّد على جماجِمُنا مجدك الأمجدا. وعِش موسماً أبديُّ الجنى وعَسجِد بِإبداعِكَ السرمدا. وكَحّل جُفونكَ بِالنيّرات وصُغ مِن سنى فَجرِكَ المِرودا. لك الحُكم أنت المُفدى العزيز علينا ونحنُ ضحايا الفِدا. ولنا وقفات أخرى مع نبوءات ومعجزات البردوني وأحجياته الشعرية بشأن اليمن واليمنيين سنأتي عليها تباعاً ضمن مانحن بصدد كتاباته لاحقاً بهذا الخصوص وما يتعلق به !. ........ يتبع.......