التطرق هنا لوضع شركة الملاحة الوطنية ليس كأحد أوجه الفساد الضخمة التي واجهت مؤسسات الدولة ومقدراتها في الجنوب بعد صيف 94م؛ لأن هناك أعمال نهب وفساد وتخريب أكبر من ذلك بكثير طالت, وتطال, حتى يومنا هذا, مؤسسات وأراضي وممتلكات الدولة والناس, بشكل منظم لا يمكن حصره في تقارير صحفية مقتضبة, أو خلال فترة وجيزة. لكن تناول شركة الملاحة الوطنية هنا هو كنموذج للتأكيد وتوثيق ماهية وطبيعة الخصخصة, التي تمت في الجنوب بعد 94م بهدف تدمير مؤسسات كانت ناجحة وفاعلة في رفد اقتصاد البلد بموارد كبيرة, على العكس من طرق خصخصتها أو تبعات خصخصتها. ولقد تم التخطيط لذلك من قبل نظام صنعاء وفي أعلى المستويات لصالح قوى وأشخاص نافذين وفاسدين. تتلخص عملية الخصخصة, بطبيعتها الحقيقية ومفهومها العام, في ادعاء فشل القطاعات العامة, وخلق شراكة مع القطاع الخاص, أو خلق إدارة مشتركة حسب متطلبات السوق, كخيار أول. فيما المؤسسات الفاشلة, والتي ثبت فشلها, لا يتم معالجة وضعها عبر تصفيتها, بل عبر إعادة تأهيلها أولا, لإعادة تقييمها وبيعها, وهذا كأحد الخيارات الأخرى التي تقوم عليها عملية الخصخصة. كما تنطبق عملية الخصخصة على المؤسسات المديونية, والتي ليس لها أصول, وتحمل الدولة أعباء اقتصادية. غير أنه لم يُتبع هذا ولا ذاك مع شركة الملاحة الوطنية, بل تمت عملية تدمير مقصودة ومنظمة لها, بطريقة غير قانونية, حسب مختصين وخبراء اقتصاديين كبار أكدوا ذلك ل"الشارع". هناك مؤسسات تم خصخصتها, وأخرى تم الاستيلاء عليها, وأخرى بيعها من الباطن, لصالح جهات ونافذين. هذه المؤسسات "تزيد عن خمسين مؤسسة اقتصادية وصناعية, تم تدميرها أو الاستيلاء عليها", في الجنوب, وكانت, في معظمها, "مؤسسات ناجحة, وكانت ترفد اقتصاد البلد بملايين الدولارات سنوياً؛ إلا إنه تم, وبشخطة قلم, سحب أرصدتها وأموالها الكبيرة التي كانت تمتلكها. وحصلت الصحيفة على وثائق تكشف ما تم في شركة الملاحة الوطنية كنموذج للخصخصة وتدمير المؤسسات الحكومية العامة. توضح الوثائق, التي تنشرها "الشارع" أنه تم, في 29/4/2000م, سحب مليار ريال يمني, ومليوني دولار أمريكي من حساب شركة الملاحة الوطنية إلى حساب رئاسة الجمهورية. وطبقاً للوثائق, فقد وجه الرئيس السابق, علي عبد الله صالح, في 19/2/2000م, بتحويل مليار ريال, ومليوني دولار, من حساب شركة الملاحة الوطنية إلى حساب الرئاسة, في اليوم ذاته. ووجه وزير النقل حينها, عبد الملك السياني, رسالة إلى مدير عام فرع البنك المركزي بعدن, أبلغه فيها: "تنفيذاً لتوجيهات رئيس الجمهورية, يتم تحويل مليار ريال يمني, واثنين مليون دولار من حساب شركة الملاحة الوطنية عدن الجاري, والوديعة المربوطة لدى البنك المركزي فرع عدن, إلى حساب الحكومة طرف البنك". وقال للصحيفة مختصون في هذا المجال إن "المبالغ التي تم سحبها من حساب شركة الملاحة كانت تكفي وحدها للتأكيد, بما لا يدع مجالاً للشك, بأن هذه الشركة كانت ناجحة مائة في المائة". ويؤكد المختصون انه "تم سحب هذه المبالغ من شركة الملاحة بطريقة قانونية, فهذه الشركة كانت شركة اقتصادية مستقلة مالياً وإدارياً, ما يجعل عملية سحب أرصدتها غير قانونية وغير مبررة على الإطلاق". وهذا الأمر يؤكد أن النظام السابق تعمد تدمير المؤسسات العامة بشكل مقصود وممنهج, وهناك مؤسسات أخرى جرى تصفيتها بالطريقة ذاتها: السطو على حساباتها. وأدت الخصخصة؟, نتائج وتبعات, إلى تدمير مؤسسات الجنوب لصالح مراكز قوى وفاسدين في النظام السابق فحسب, بل ومازالوا نافذين في النظام الحالي؛ نظام ما بعد ثورة الشباب. مازالت القوى ذاتها تمارس الفساد في أسوأ وأكبر صورة. لقد تم الدفع بشركة الملاحة, وشركات ومؤسسات جنوبية أخرى, من أجل هؤلاء الفاسدين كي يتمكنوا من تكوين شركات خاصة تقوم بنفس مهام ووظائف هذه الشركات والمؤسسات التي تم تدميرها عبر الخصخصة. وازدهرت تجارة هؤلاء بعد ضرب المؤسسات الحكومية العامة, وأصبح هؤلاء المشائخ والقادة العسكريون, تجاراً في الوقت ذاته, على طريقة "ثلاثة في واحد". وتم فتح المجال أمام هؤلاء النافذين لإقامة تجارتهم في مجال الملاحة, وغيرها, عبر المحاصصة غير الشرعية مع الجهات البديلة للشركة الوطنية للملاحة, التي تم أيضاً الاستيلاء على أصولها و ليتقاسمها نافذون وقادة عسكريون. ومن تلك الأصول سبع سفن بحرية كانت تابعة لهذه الشركة. المشكلة أن هؤلاء النافذين ما زالوا يحتفظون بقوتهم, وما زالوا يمارسوا أساليبهم ذاتها حتى اليوم. وأنشئت شركة الملاحة الوطنية في عدن عام 1969م, كشركة قطاع عام, لمزاولة نشاط التوكيلات الملاحية, وتزويد البواخر والناقلات بالوقود والمياه والخدمات البحرية والعلاقات والتوكيلات السياحية والخدمات البحرية للسفن التي ترتاد موانئ عدن والمكلا ونشطون. هذه الشركة مملوكة بالكامل للدولة, وتمكنت من تحقيق أرباح متزايدة مستمرة لما يزيد عن عشرين عاماً ظلت خلالها تسدد حصة الدولة من الأرباح, وكذا الضرائب المستحقة عليها, فضلاً عن الإسهام في تعزيز ميزان المدفوعات من النقد الأجنبي, والى جانب ذلك من خلال الاحتياطي القانوني والاحتياطي العام. وبعد مايو 1990م اتخذت الدولة سياسة وتوجيهات نحو توسيع دائرة المشاركة مع القطاع الخاص في عملية التنمية والبناء, إضافة إلى القرارات الصادرة الخاصة بإلغاء الاحتكار, ووفقاً لذلك فقد تم, وعلى مراحل, نقل مهام التوكيلات الملاحية ونشاط مناولة البضائع وتموين البواخر بالمياه والوقود كاملة من شركة الملاحة الوطنية إلى شركات القطاع الخاص التي يملكها نافذين. إلا أن إلغاء الاحتكار اقتصر على القطاع العام, واحتكر القطاع الخاص الأنشطة, ولقد نتج عن هذا التحول تراجع نشاط الشركة إلى حد التوقف, واقتصر ما تحقق من إيرادات على عوائد الأوراق المالية (استثمار أموالها الجاهزة في أذون الخزانة) وإضافة إلى الخدمات المحدودة جداً والتي ظلت تغطي بها التزاماتها ونفقاتها الجارية؛ غير أنه, ومع نهاية العام 1999م وبداية عام 2000م تم مركزياً سحب كافة سيولتها من البنط المركزي البالغة سبعة ملايين دولار أميركي, ومليار ريال يمني, وفقاً لمعلومات رسمية. وقد أدى ذلك إلى عدم قدرة الشركة على مواجهة الإيفاء بالالتزامات التي عليها, ومن بينها التزامات لجهات خارجية وداخلية بمبلغ إجمالي وقدره 4.373.393 دولارا أمريكيا و173.005.886 ريالا يمنيا, إضافة إلى عدم تمكينها من تنفيذ حطتها الاستثمارية, وبحسب ما تضمنته الخطط الاستثمارية والمقرة مركزية؛ علما بأن العديد من الجهات الخارجية مستمرة في طلب مستحقاتها, وقد لجأ إلى القضاء لاستخلاصها مع الفوائد المتراكمة, الأمر الذي سيؤدي إلى تضخم مثل هذه المستحقات ويصار إلى دفعها لاحقا, كما أن بعض هذه الشركات قد أحالت مطالباتها عبر الهيئات البحرية الدولية, والذي انعكس سلباً على نشاط وسمعة شركة الملاحة الوطنية. وقال الدكتور عبد الناصر علي عبد اللطيف البان, مدير عام شركة الملاحة الوطنية, في رسالة مفصلة عما جرى للشركة, إنه تم سحب سيولتها عبر "توجيهات رئيس الجمهورية السابق بتاريخ 2000/3/19م مرجع رقم (935) إلى وزير النقل السابق, ورسالة وزير النقل السابق بتاريخ 2000/2/19م ذلت المرجع 3101- 190الى مدير عام البنك المركزي فرع (عدن)...". وقال البان إن "التعليمات الرئاسية قضت بتحويل مليار ريال واثنين مليون دولار أمريكي إلى حساب الحكومة العام؛ ولكنهم سحبوا المليار ريال إلى رئاسة الجمهورية, حسب الإشعار البنكي؛ لكن تم سحب الإشعار البنكي رقم 0001672, وسحبوا 2.000.000 دولار إلى حساب الحكومة الإشعار البنكي رقم 00001674...". مشيراً إلى أن ذلك تم "بدون موافقة أو علم شركة الملاحة الوطنية". وأشار إلى إنه سبق أن تم, في 1998/8/17م, وسحب خمسة ملايين دولار أمريكي من حساب الشركة إلى حساب الحكومة. وقال إنه ذلك أدى إلى: - تراجع نشاط الشركة إلى حد التوقف, والقضاء على مصير ومستقبل موظفي الشركة. - الإضرار بحقوق الموظفين المشروعة وإحالتهم جمعيا بطريقة متسرعة ومتهورة الى الصندوق الخدمة المدنية كعمالة فائضة ومن ثم الى المعاش التقاعدي المبكر واستبعاد سنوات خدماتهم المتبقية مما أضر بأسرهم وحالاتهم المعيشية. - حرمان الدولة من موارد مالية من خلال تسديد الشركة حصة الدولة من الارباح وكذا الضرائب المستحقة. - عدم قدرة الشركة على سداد مطالبات الجهات المحلية المختلفة بالعملة المحلية. - فقدان التعامل مع الجهات ذات العلاقة ولما له من أثر سلبي في سير عمل الشركة. - عدم قدرة الشركة من تنفيذ خطتها الاستثمارية وبحسب ما تضمنته الخطط الاستثمارية المقرة مركزياً. وطالب البان, عبر وزير النقل, الدكتور واعد باذيب, ب "إعادة ما تم سحبه من حسابات الشركة حسب التوضيح أعلاه والمرفقات, وذلك بالتخاطب مع رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء واسترداد حقوق شركة الملاحة الوطنية".