إن حدوث مثل ذلك سيكون أهم حدث سياسي.. ودستوري يكتب لليمن.. إن أي نظام سياسي يرفع شعار الإصلاح والتحوّل الديمقراطي، مطالب ليس فقط بأن يتوقف عن الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان.. من اعتقال عشوائي، وتعذيب ومحاكمات جائرة، وإنما عليه أيضاً أن (يتطهر) من الانتهاكات التي تلوّث يده. وذلك (التطهير) هو دليل الصدق والأمانة في التحوّل، وهذا ما فعلته (جنوب أفريقيا) حين شكلت لجان (المصارحة والحقيقة). وهو ما فعلته المغرب حين تعاملت مع ملفات الغائبين والمفقودين، وأولئك الذين تعرضوا للانتهاكات والتعذيب، إذ في الحالتين فتحت الجراح كله، وجرى تطهيره من مكامن التقُّيح والعفن المتراكم، فحوسب من حوسب، وأعتذر آخرون مما صدر عنهم وطلبوا الغفران من الضحايا، ومن المجتمع كله، وجرى تعويض الذين تعرضوا للتعذيب، وكذلك الذين فقدوا ذويهم بعدما خطفوا واختطفوا في ظروف غامضة، تبيّن بعد ذلك أنها لم تكن (غامضة).. أو الذين ماتوا بسبب التعذيب، وقبل هذا كله وذاك.. إطلاق سراح سجناء الرأي، وأُلغيت قوانين الطوارئ الاستثنائية التي ألقت بهم في غياهب السجون، هذه المهمة ينبغي أن تنجز قبل أي كلام من المشاركة السياسية.. أو قل أنها ألف باء الديمقراطية، التي بغيرها لا تقوم لبنائها قائمة. السجن.. الوطن! فاتحة الثمانينيات.. الأجواء السياسية ملبدة بالغيوم، الرعب والإرهاب يلف الجميع، الكل مهدد في بيته وفي الشارع وفي الجامعة وفي مقار العمل.. في كل مكان.. لا فرق أمام الكلاب الضالة المطلق سراحها أن تنال ممن تشاء، وفي الوقت الذي تشاء.. الجميع متهم.. موجة إرهابية انطلقت تعتقل وتسجن وتعذب.. وتغتال بالرصاص، ودهساً بالسيارات، لا يهم الوسيلة المهم هو أن كل السُبل استخدمت.. انتهاك فاضح لحقوق الإنسان وكرامته العظماء لا أثر له، ولا قيمة. كان جهاز الأمن الوطني هو الجهة الوحيدة التي تحكم في البلاد.. وهو وحده الذي يقرر مصائر الناس.. وكانت مختلف الأجهزة والمؤسسات عبارة عن كيانات بدون فعل ولا تأثير.. جميعها تتأقزم أمام سطوة وجبروت هذا الجهاز، الحاكم الوحيد في البلاد. حملة الاعتقالات طالت الآلاف من أبناء هذا الوطن.. العُمال والطلاب والنساء والتجار والسياسيين والموظفين والمثقفين والصحافيين والأطباء.. ورُعاة الأغنام.. وغيرهم. وبدا أن الجميع كانوا قد اتهموا سِلفاً (بالحزبية) والانتماء، ومناصرة الأحزاب اليسارية والقومية والوطنية.. التي كانت تعمل بالسر بعيداً عن أعيُن أجهزة الاستخبارات.. وهو ما جاء بهم (ضيوفاً) إجباريين إلى معتقل (البشائر).. كان البرد القارس يحتل كل الخلايا، ولكني رغم ذلك شعرت بالاطمئنان بصحبة ذلك الاحتشاد الضخم.. ممن وقعوا ضحية الاعتقال والاختطاف، والاختفاء القسري والاعتقال التعسّفي.. والذي حدث أن هؤلاء كانوا موضوعاً لشبهات سياسية.. أودعتهم هذه الأقبية، حتى يتم انتزاع (الاعترافات) منهم ليس بفعل ذكاء الجلادين، ولكن بسبب الانهيارات التي تحدث تحت آلة التعذيب. في داخل زنازين معتقل (البشائر) كان المعتقلون يتراصون.. يفترشون الأرض، وأقدامهم مكبلة بالأصفاد، إنما كان الغريب في الأمر، واللافت للنظر.. أنه كان ضمن المعتقلين راعي أغنام، لا يفقه إلاّ في علم الماعز وجودة لبنه، وروعه صوفه، ولا يعلم ما الذي ساقه من بين قطيعه في الجبال والوديان، وأتى به إلى هذا الجحيم!.. ولإن كانت معاناة السجن وعذاباته لا تحتاج إلى براهين وأدلة.. واستدعاء الذكريات، فأن الجميع يعرفون معنى المعتقلات.. وما يجري فيها من قهر وإذلال، وانتهاك فاضح وفج لكرامة الإنسان وآدميته.. ولم يكن من الصدفة أن مر مصطلح (الحزبية) في خاطري، فالواقع أني كنت مأخوذاً بالسؤال الذي حيرني طيلة هذا الليل.. وهو ما علاقة الحزبية والدولة والمعارضة والدستور) وكل هذه الأشياء براعي الغنم؟.. وما علاقة هذه الدولة بهؤلاء الناس الضحايا التعساء، وتهمتهم التي زجّت بهم إلى هذا المعتقل، ومحنتهم الكبيرة التي جعلتهم بلا حماية من الفقر والبطالة، والاستبداد و(الإرهاب)؟!. تحت آلة التعذيب حين يأتي المساء، كانت أقبية الموت تستقبل مزيداً من المعتقلين، ينضمون إلى سابقيهم، ومنهم تستمع لحكايات دامية، يتطرقون فيها إلى تلك الأساليب المشينة التي اتبعت معهم أثناء اختطافهم من بين أطفالهم.. أو من الشارع وهم يستقلون وسائل النقل العامة.. ولا يقطع سرد تلك الحكايات إلاّ الآهات والأنات التي تصدر من المعتقلين الرازحين تحت آلة التعذيب أو نداء الجلادين لأسماء جديدة مطلوبة للمثول في غرف الموت للتحقيق معهم!. كانت حالة من الرعب، والهلع تسيطر على تلك الأقبية.. وكان كل معتقل يعتقد أن دوره قد حان.. كان المعتقل يعود من غرفة الموت وهو محمول على نعش، الدماء تسيل من بدنه، وتنزف من جميع أجزاء جسده ومن هول التعذيب ووحشيته كان العديد من المعتقلين لا يقوون على الكلام.. وعاجزون عن الحركة.. وكان المنتظرون في الأقبية والذين لم يحن استدعاؤهم يتدافعون لتطبيب الجراحات، ومسح الدماء من الأبدان، وتغيير ما يمكن من ملابس المعتقل.. ومواساته ببعض الكلمات.. والإشادة بشجاعته، وقدرته على التحمّل وهزم جلاديه. كان معظم المعتقلين يقضون الأشهر والسنوات داخل أقبية هذا المعتقل، دون أن تصدر بحقهم أية أحكام قضائية، ولم توجه لهم أية اتهامات صريحة، سوى تلك (الاعترافات) التي أدلوا بها.. بفعل قساوة التعذيب وجهنميته.. والتي تأتي في لحظات الانهيارات الأخيرة!.. في السجن قيد وقهر وإذلال، لكن فيه أيضاً مساحة لتأمل النفس والدنيا والبشر، ومع ذلك لابد من الإشارة إلى أن هذا المعتقل (البشائر).. من بين عشرات المعتقلات، كان قصراً لآخر أئمة اليمن محمد البدر وأفراد أسرته، وقد تم نسف طوابقه العليا بمارد الثورة، وكان يؤمل أن يتحول إلى متحف، يحكي عن فترة معينة من تاريخ اليمن المعاصر، لا أن يغدو رمزاً جديداً للطغيان وإهدار كرامة الإنسان والدوس على آدميته. من جحيم (البشائر) نجا قلة، وقضى عدد آخر في صمت رهيب..بينما أُصيب الغالبية بعاهات جسدية، وجروح نفسية، لازمتهم طوال مسيرة حياتهم. وأعلم علم اليقين أن هؤلاء الضحايا لم يعيروا أي التفات للصخب الإعلامي عن الإصلاح السياسي، والديمقراطية والحريات العامة، بل ولا حتى حقوق الإنسان.. الذي يبدو مصطلحاً تجريدياً.. ومع ذلك فهل هناك علاقة عميقة بين الإصلاح السياسي والديمقراطي من ناحية وراعي الغنم من ناحية ثانية؟!.