رئيس الوفد الحكومي: لدينا توجيهات بعدم التعاطي مع الحوثيين إلا بالوصول إلى اتفاقية حول قحطان    هدية من خامنئي.. شاهد لحظة العثور على "خاتم" الرئيس الإيراني متفحما وردة فعل فريق الإنقاذ: عويل مرتفع    رسميًا.. محمد صلاح يعلن موقفه النهائي من الرحيل عن ليفربول    اللجنة الوطنية للمرأة تناقش أهمية التمكين والمشاركة السياسة للنساء مميز    وهم القوة وسراب البقاء    في اليوم 227 لحرب الإبادة على غزة.. 35562 شهيدا و 79652 جريحا واستهداف ممنهج للمدارس ومراكز الإيواء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    مجلس النواب يجمد مناقشة تقرير المبيدات بعد كلمة المشاط ولقائه بقيادة وزارة الزراعة ولجنة المبيدات    غاتوزو يقترب من تدريب التعاون السعودي    ثلاث مرات في 24 ساعة: كابلات ضوئية تقطع الإنترنت في حضرموت وشبوة!    أول تعليق أمريكي بشأن علاقة واشنطن بإسقاط مروحية الرئيس الإيراني    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    منظمة التعاون الإسلامي تعرب عن قلقها إزاء العنف ضد الأقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار    الصين تبقي على اسعار الفائدة الرئيسي للقروض دون تغيير    مجلس التعاون الخليجي يؤكد موقفه الداعم لجهود السلام في اليمن وفقاً للمرجعيات الثلاث مميز    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    قيادات سياسية وحزبية وسفراء تُعزي رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح في وفاة والده    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    وفاة محتجز في سجون الحوثيين بعد سبع سنوات من اعتقاله مميز    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    مع اقتراب الموعد.. البنك المركزي يحسم موقفه النهائي من قرار نقل البنوك إلى عدن.. ويوجه رسالة لإدارات البنوك    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    لماذا صراخ دكان آل عفاش من التقارب الجنوبي العربي التهامي    بن مبارك بعد مئة يوم... فشل أم إفشال!!    الجوانب الانسانية المتفاقمة تتطلّب قرارات استثنائية    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    عبد الله البردوني.. الضرير الذي أبصر بعيونه اليمن    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    هجوم حوثي مباغت ومقتل عدد من ''قوات درع الوطن'' عقب وصول تعزيزات ضخمة جنوبي اليمن    تغير مفاجئ في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    أرتيتا.. بطل غير متوج في ملاعب البريميرليج    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    قادم من سلطنة عمان.. تطور خطير وصيد نوعي في قبضة الشرعية وإعلان رسمي بشأنه    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سر الرؤساء
نشر في يمنات يوم 21 - 11 - 2010

الكتب التي تكشف الفضائح والدسائس لا تتوقف هذه الأيام عن الصدور، ولعل آخرها، كتاب الصحفي والكاتب الفرنسي فانسون نوزيل “في سر الرؤساء” الصادر عن دار “فايار”، والذي يتعرض لثلاثة رؤساء فرنسيين: فرانسوا ميتران، وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وهو كتاب يتناول مواضيع وكالة الاستخبارات الأمريكية والبيت الأبيض والإليزيه (الوثائق السرية 1981- 2010) .
ما يريده المؤلف من هذه الأسرار، أكد عليه في التقديم حين كتب: “لم تنته الجمهورية الخامسة من تسليم أسرارها . إذ خلف التصريحات الرسمية، وبعيداً عن الإعلانات المتفق عليها، في غرف الانتظار بالإليزيه، تُعزف بعضُ المقطوعات التي لا تشاهدها سوى قبضة من الناس . الرئيس الفرنسي يُحكّم ويقرر ويرسل
مبعوثين وجنوداً من دون أن يكشف كل ما يُنسَج في هذا القصر . وما بين الرؤساء الأمريكيين والفرنسيين يعتبر مسرح الأشباح هذا مثيراً . لأن المشهد ليس له علاقة كبيرة مع ما يحدث في الكواليس . ليس للفاعلين الوجه نفسه . الحوارات هي أحياناً على نقيض الرواية التي يتم تقديمها للرأي العام” .
وبما أن الشجن اللبناني هو الذي يحرك العالم العر
بي الآن، فسنركز على المستجدات وبعض الاعترافات التي تخص لبنان، خصوصاً بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وأيضاً، في ظل استمرار الأزمة اللبنانية -اللبنانية بكل تعقيداتها، وبالتالي سنركز على دور فرنسا-شيراك (الصديق لأمريكا والمعجب بثقافتها و”مطبخها!”) في فترة حرجة من تاريخ لبنان، وتداخلاته مع الهيمنة الأمريكية على منطقتنا العربية .
يرى المؤلف في الفصل العاشر من الكتاب أن الرئيس شيراك يعتبر من الديغوليين النادرين الموالين للولايات المتحدة . ويقول إن شيراك في زيارته الأولى كرئيس للجمهورية الفرنسية، أحبّ أن يُذكّر مضيّفيه أنه عاش فترة من الزمن في بلدهم، وأنه يحبه، وأنه “عاش قسماً من هذا “الحلم الأمريكي”” .
نكتشف أن الرئيس شيراك، كان في بداياته، من الديغوليين القلائل الموالين للولايات المتحدة . صحيح أنه في مراهقته كان يميل للحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنه سرعان ما مال للحلم الأمريكي . في 16 تشرين الأول ،1967 وُجِّهَت دعوة غداء لدى السفير الأمريكي شارلز بوهلن، برفقة مسؤولين ديغوليين آخرين . ولم يبخل الدبلوماسي الأمريكي في إسباغ المدائح على هذا الضيف، الذي شكّل “اكتشاف السهرة” وقد وجده: “ذكياً ودينامياً ودافئاً وأصيلاً ومُقنِعاً” .
ويظهر الأمر في حديث شيراك الحماسي عن “سفرياته إلى الولايات المتحدة وعن إعجابه بنمط العيش الأمريكي”، بدل أن يُحيل إلى الجنرال ديغول، الذي لم يتلفظ حتى باسمه . وقال السفير ملخصاً بكثير من الجذل: “بدا لي أمريكيّاً وليس فقط موالياً للولايات المتحدة - مثل كثير من الأمريكيين” . وأضاف: “إنه يحب جمال وشساعة المناظر الأمريكية، ويعبر عن إعجابه بنظام الحدائق الوطنية ومعجب بالطبخ الأمريكي . وأشار إلى أنه أتى، من حين لآخر، بصفة سرية، إلى مطبخ السفارة خلال السنوات العشر الأخيرة، لأنه المكان الوحيد في المدينة الذي يمكن أن يعثر فيه على الطعام الأمريكي” .
وكانت الولايات المتحدة تتابع باهتمام السياسة الفرنسية الداخلية والصراع بين قطبي اليمين الفرنسي: جاك شيراك وفاليري جيسكار ديستان، “وكانت الولايات المتحدة ترى بعين الرضى إلى التنافس المتصاعد بين شيراك وديستان”، إذ من وجهة نظر المصالح الأمريكية، من المهم جداً أن يحافظ شيراك على وضعيته في المشهد السياسي، باعتباره بديلاً في حال تفكك ديستان من الآن إلى 1981 أو ما بعد هذا التاريخ . وسيكون من المحزن أن يكون ميتران البديل الوحيد” .
ابتداء من سنة 1981 أصبح شيراك الزعيم الحقيقي للمعارضة . ويرى المؤلف أنه حافظ على علاقات جيدة مع كل من رونالد ريغان وجورج بوش (الأب) .
ويستعرض المؤلف الكثير من الأمثلة التي تثبت أن شيراك كان المفضل لدى الأمريكيين، ومن بينها زيارته إلى الولايات المتحدة في مارس/ آذار ،1987 وكان حينها رئيس وزراء للرئيس فرانسوا ميتران: “وبما أنه كان يمتلك صورة المرشح للرئاسيات الفرنسية الأكثر م
والاة للولايات المتحدة، وبما أنه يعشق الحديث عن مروره على هارفارد سنة ،1953 جرى كل شيء على أفضل حال . كان شيراك سعيداً . تناول الغداء، في جو ودي جداً، مع بوش، نائب الرئيس، كما تحادث مطوَّلاً مع الرئيس ريغان . وقد أعدّ له البيت الأبيض بروتوكولاً مخصصاً لرؤساء الدول . وقد أثار هذا الاستقبال حنق الرئيس ميتران، لأن هذا يبين أن شيراك يحظى بدعم الأمريكيين” .
ومع مجيء بيل كلينتون إلى البيت الأبيض حرص شيراك على فتح قنوات معه . وكانت اللقاءات الأولى بين الرجلين واعدة، “ولأول مرة يتسنى لشيراك أن يتحدث، بشكل مفتوح، عن السياسة الخارجية التي سيقودها في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية . وكان الرئيس الأمريكي ينصت بانتباه شديد إلى هذا الديغولي الجديد، وهو يعلن له أن فرنسا تستطيع أن تقترب أكثر من حلف الأطلسي أو اتخاذ موقف أكثر اندفاعاً في البوسنة، وهما موضوعان كان الرئيس ميتران متحفّظاً جداً فيهما، خلال السنوات الأخيرة . ومثل خطيب أبدي eternal fiancé جاء جاك شيراك ليقدم بعض الوعود للولايات المتحدة . وتلتقط له مرة أخرى صورة في البيت الأبيض . وإذا ما وصل شيراك إلى الإليزيه فليس مستحيلاً أن الولايات المتحدة يمكن تعبر عن غبطتها . وبعد كل شيء، فإن شخصاً يلتهم الهامبورغر بشهية طيبة ويتحدث عن الجاز في نوفيل أورليان بِرَجَفان في الصوت، في نظر كلينتون، لا يمكن أن يكون، في الجوهر، شخصاً سيئاً” .
بيل وجاك في القارب نفسه
يصل جاك شيراك إلى السلطة ويجد نفسه مع بيل كلينتون في القارب نفسه، مع اشتداد الحرب البوسنية . ونقرأ رد فعل الرئيس القاسي، عقب اعتقال القوات الصربية للعديد من القوات الدولية (القبعات الزرق)، ومن بينهم مئة وثلاثة من الجنود الفرنسيين، حيث صرح أمام رئيس الأركان الفرنسي: “العسكريون جبناء! يجب إعطاء الأمر للقبعات الزرق الفرنسية بالدفاع عن النفس ببنادقهم الآلية . عليهم أن يقاتلوا!”
تتوالى التجارب في البوسنة ولا نرى تحققاً لغضبات شيراك المُضَرية . فقد كانت سيبرينتشا، مثالاً على الجبن، القريب من التواطؤ، أو “العجز” الأطلسي إزاء الجريمة والإبادة . ويرى المؤلف أن شيراك عبّر عن غضبه ولكنه ظل عاجزاً . وكان الأمر ورد الفعل دليلاً على “انهيار جديد للمجتمع الدولي قاد إلى مأساة كان يخشاها الكثيرون” . وإذا كان المجرمون الكبار غير مجهولين ومن بينهم ملاديتش وكراديتش، فالحقيقة تقول إنه لم يكن يريد أحد إيقافهم “وفي الحقيقة، وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المخالفة، فإنه لا الأمريكيون ولا الفرنسيون أبْدَوا حماساً كبيراً في اعتقال رئيس صرب البوسنة كراديتش”، رغم انه مطلوب للمحكمة الدولية، وقد افْتُضِحت اتصالات فرنسية مع كراديتش(الذي لم يتم توقيفه سوى في يوليو/ تموز سنة 2008 من قبل الاستخبارات الصربية)، برّرها الفرنسيون برغبتهم في “إقناع الزعيم الصربي البوسني بتسليم نفسه” .
ويستطرد الكاتب، مرّت العلاقات بين شيراك كلينتون بمراحل مختلفة من الحميمية إلى برودة . فقد عبر كلينتون عن شكره للموقف الفرنسي من إظهار إرادته في تقوية حلف الأطلسي، وأيضاً لبْرَلة التجارة العالمية والعمل مع الاتحاد الأوروبي في كل المواضيع الممكنة . ولكن ابتداء من خريف 1995 بدأت البرودة تنتاب العلاقة، حين طلب كلينتون من شيراك تقديم مساعدة اقتصادية إلى الأردن، أو تشديد العقوبات على الجماهيرية الليبية .
وإذا كانت البرودة هنا، فإن تنازلات قدمتها فرنسا في موضوع العودة الفرنسية إلى القيادة العسكرية لحلف الأطلسي . لقد قبلت فرنسا، في حقيقة الأمر، ومن دون شروط، أن تقوم بالخطوة الأولى نحو اندماج كامل، مستعيدة مكانها في أحضان مجلس وزراء الدفاع واللجنة العسكرية لرؤساء أركان حلف الأطلسي . ولمْ يَعد يتبقى لها إلا القيادة المندمجة ولجنة التخطيطات كي تندمج بشكل نهائي في المنظمة (الأطلسي) . هذه المراحل الأخيرة، الرمزية، لا يمكن للإليزيه أن يقدم عليها إلاّ إذا تم إرضاء طلباتها، أي إصلاح الحِلف بما يتيح انبثاق “ركن أوروبي” .
ويقول الكاتب إنه لم تَبْق العلاقات بين الرئيسين الفرنسي والأمريكي حسنة، على الرغم مما يحاول الطرفان إظهاره من اتفاق وانسجام . “عبّر كلينتون عن رغبته في رؤية “تعاون وثيق” مع الفرنسيين”، حول المشكلات الاقتصادية للفلسطينيين أو حول تقديم المساعدة للبنان “وهي طريقة مقبولة للطلب من جاك شيراك ألا يتدخل في قضايا أخرى” . ويرسم الكاتب صورة مثيرة للشفقة عن رئيس فرنسي لا يتوقف عن اقتراح دعمه وعرض خدماته على الأمريكيين، وهم يتمنعون في قبولها “ما الذي يمكن أن يفعله شيراك أكثر من هذا؟ بالتحديد، جاك شيراك، لم يعد له من حظ على المستوى الدولي” .
ويذهب المؤلف إلى وصف الحالة الضعيفة والمهزوزة لشيراك، ويقدم مثلاً:
“فشل الرئيس الفرنسي في تمديد ولاية صديقه بطرس بطرس- غالي في منصب الأمين العام للأمم المتحدة (بسبب الفيتو الأمريكي!) . ولم يتوقف عن النضال من أجل التمديد له”، “وفي يوم 16 كانون الأول/ديسمبر ،1996 نجح البيت الأبيض في فرض مرشحه المُفضّل، الغاني كوفي أنان، الذي ساند المواقف الأمريكية في البوسنة أو في هايتي” .
وزاد الأمريكيون في إغاظة الفرنسيين، في رسالة وقحة أرسلها كلينتون إلى شيراك، تقول ضمن ما تقول: “عزيزي شيراك، أود أن أشكرك على مساهمتك في إنجاز إجماع مبكر حول كوفي عنان كأمين عام للأمم المتحدة” .
“السخريّة قاسية . شيراك، الحانق، تحمَّل الإهانة على مضض . إهانة أخرى . وهو ليس في نهاية خيباته . . عزيزي جورج، لِنَعُدْ، من جديد، أصدقاءَ . . .” .
بعد احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، جاءت الرغبة الأمريكية في قولبة الشرق الأوسط . وظهر مشروع شرق أوسطي “كبير”، اقترحته يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2004 وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس على المستشارين الدبلوماسيين الأوروبيين . وقد بدأت بعض الردود السلبية على المشروع الشرق الأوسطي الجديد، من قبل بعض زعماء المنطقة من العرب . “إن الدعوات إلى “تغيير الأنظمة” لم تتلق صدى حماسياً لا في القاهرة ولا في الرياض” .
لم يتأخر الموقف الفرنسي إزاء المشروع الأمريكي . وعلى الرغم من الطابع الرسمي والدبلوماسي للرد، فإن شيراك عبّر، بأدب، عن ملاحظاته على فكرة بوش الأخيرة: “أنا أوافق على المبادرة الأمريكية حول الشرق الأوسط الكبير، ولكن يجب أن نكون على وعي من أن مفتاح السلام والاستقرار الإقليمي هو إيجاد حل للصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني . ولن يكون سلام من دون مفاوضات، ولا يمكن فرض السلام من الخارج . إن مبادرة الشرق الأوسط الكبير اصطدمت بهذه القضية” .
هذا ما كان في العلن، أمّا في الكواليس، “فلم يكتفِ الإليزيه بهذه الانتقادات الحذرة، بل يتعلق الأمرُ بإفشال سري لمشروع البيت الأبيض”، وفي نهاية شباط/فبراير 2004 سربت فرنسا وألمانيا نصاً معنوناً “شراكة استراتيجية من أجل مستقبل مشترك مع الشرق الأوسط” والغرض منه مواجهة النص الأمريكي . وفي بداية مارس/ آذار أرسلت فرنسا مبعوثين إلى العواصم العربية من أجل تسليم خطابات إنذار وقياس ردود الفعل . وجاءت ظروف وصدف متعددة أفشلت المشروع الأمريكي وأطلقت عليه رصاصة الرحمة . ومن بينها ما يكتبه المؤلف في هذه الفقرة المكثفة: “أحداث إبريل/ نيسان ،2004 ستزعزع الماكينة الأمريكية الثقيلة . المعارك شرسة في العراق بين القوات الأمريكية والمسلحين في مدينة الفلوجة كذّبت كل التصريحات المُطَمْئِنَة عن استتباب الأمن . كما أن الصحافة كشفت عن ممارسات تعذيب في سجن أبو غريب العراقي . وكشفت أشرطة الفيديو الاتهامية عن كذب اللازمة الأمريكية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط . وقد قامت الصحافة العربية بإدانة “النفاق”، الأمريكي، ورأت في فضيحة التعذيب إضافة “فشل أخلاقي” إلى الورطة العسكرية الأمريكية في العراق . وأخيراً دعم جورج بوش القوي لأرييل شارون . . .”
وأخيراً جاء الفشل الأمريكي في فرض هذا الشرق الأوسط الجديد واضحاً في البيان الختامي لمجموعة الثماني، الذي “اكتفى بإعلان بسيط للنوايا داعياً إلى إصلاحات وإلى احترام التنوع . كما أن غداء بوش الذي جمعه يوم الأربعاء 9 حزيران/يونيو 2004 مع رؤساء دول عربية وإسلامية سيكون نصف فشل: إذ لن يحضر سوى الرئيس الأفغاني قرضاي، والرئيس الجزائري بوتفليقة، وملك البحرين، والملك الأردني عبدالله، ورئيس الوزراء التركي أردوغان، والرئيس اليمني علي صالح . في حين أن الملكين المغربي والسعودي ورئيسي مصر وتونس لم يلبوا الدعوة . . .” .
وجاءت فترة مصالحة بين الرئيسين بوش وشيراك، في 5 حزيران/يونيو ،2004 حين حضر الرئيس بوش احتفالات مرور ستين سنة على الإنزال الأمريكي في النورماندي . صحيح أن الخلافات بين الطرفين كثيرة، ولكنهما استطاعا في النهاية أن يتفقا على موضوع واحد: “هذا العشاء للمصالحة انتهى بثيمة وحّدت الطرفين وشكلت إنذاراً لبوش ولشيراك: الهيمنة السورية على لبنان” .
الوجود السوري في لبنان
ويكشف الكاتب أنه “اشتغل التعاون الأمريكي الفرنسي، بصفة سرية، حول هذا الملف” . واستعان الرئيس الفرنسي بصداقته الحميمة مع رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، “الذي كان يلتقيه بانتظام مع زوجته، نازك”، ويرى المؤلف ان “الحريري راهن على ورقة التعاون مع القوة السورية المجاورة، باحثاً عن دعم وحماية . ولكن الحضور الدائم للقوات السورية وممارسات الاستخبارات السورية والضغوط تسبب في حدوث طلاق بين الحريري والسوريين”، ومن هذه اللحظة “وضع نفسه في موضع المدافع الشرس عن استقلالية لبنان . وكان “صديقه جاك” يساعده بكل الوسائل” .
ويضيف الكاتب، لقد تصوّر شيراك بعيد وفاة الرئيس حافظ الأسد أن الرئيس الشاب بشار، الذي التقى به قُبَيل وصوله إلى الرئاسية السورية، “من أنصار الإصلاحات، التي لم يَقُم بها أبوه حافظ، الذي كان معروفاً عنه بأنه لا يتزحزح حتى وفاته يونيو/ حزيران 2000” .
لا شيء ثابتاً في السياسة، فنحن نعلم أن الرئيس الفرنسي زار سوريا ثلاث مرات، أكتوبر/ تشرين الأول 1996 ويونيو/ حزيران 2000 وأكتوبر/ تشرين الأول ،2002 وأنه بذل قصارى جهوده من أجل التقرب من الرئيس السوري . وهنا يقول أحد المستشارين السابقين في الإليزيه: “حين تولى بشار السلطة، تصور الرئيس الفرنسي أن بإمكانه أن يضعه تحت سيطرته . بذل كثيراً من الجهد من أجل مساعدته وتدليله وحاول إقناعه بتليين مواقفه . وقد نجح في الحصول من سوريا على الموافقة على التصويت على القرار الأممي حول عودة المفتشين إلى العراق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004” .
ويقول المؤلف “حاول الفرنسيون والألمان والروس تغيير المواقف السورية، ولكنهم لم يحصلوا منه على ما يريدون . وأدت هذه الخيبة الفرنسية، إضافة إلى شعور الحريري المتكرر بالإهانة في دمشق، وأن الوزراء اللبنانيين المقرّبين من سوريا يهيمنون على الحكومة اللبنانية، إلى اقتناع الرئيس شيراك بأن نظام الأسد غير قابل للانثناء، اللهم إلا إذا مورست عليه الضغوط” .
ويستطرد الكاتب، عوامل التوتر الأمريكية - السورية عديدة، ولعل أهمها اعتبارها منذ سنة 2002 عضواً في “محور الشرّ”، وزاد الغضب الأمريكي مما تعتبره تهاوناً من سوريا في مراقبة حدودها مع العراق، حيث تتسلل خلايا القاعدة . إضافة إلى استيلاء سوريا على حسابات مالية عراقية . وإلى ما ذكر يأتي دعم سوريا لحزب الله اللبناني وللحركات الفلسطينية الراديكالية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، عدوّتي “إسرائيل” اللدودتين ليُعقِّدَ الأمر . وقد كانت الوقاحة الأمريكية واضحة في الرسائل المُوجَّهَة للقيادة السورية . “أرسل البيت الأبيض عدة رسائل إلى الرئيس السوري للتعبير عن غضبه في ما يخص هذه المواضيع جميعاً . لكن من دون نتيجة . وقد أسرّ بوش، غاضباً، للرئيس الفرنسي في سبتمبر/ أيلول ،2003 أثناء لقاء على هامش الاجتماع العام للأمم المتحدة، “قُلْ لبشار الأسد إني شرير أحادي الجانب”” .
ووسط هذا العداء المتصاعد للقيادة السورية من قبل الفرنسيين والأمريكيين انضاف الكونغرس الأمريكي إلى قائمة الأعداء الجدد، وذلك من خلال تبني عقوبات اقتصادية ضد النظام السوري، المُتَّهَم بدعم الإرهاب وبالحفاظ على وجوده العسكري في لبنان . وقد أبدى بعض الدبلوماسيين الفرنسيين قلقهم من العقوبات الأمريكية . ورأى البعض منهم في الأمر: “أن مشكل الإدارة الأمريكية يكمُنُ في شيطنتها للنظام السوري القائم، وإذاً فهي عاجزةٌ عن تصور سياسة أكثر شمولاً ودينامية، تجمع ما بين العصا والجزرة، وهي بسبب عدم اقتراحها أي شيء على مُحاوَريها، فإنها تَدُلُّ من تفاعليّتهم” .
بعد أفغانستان والعراق، أصبحت سوريا تحت العين الأمريكية، وبالتالي جاء وقت المصالحة الفرنسية - الأمريكية . ونقرأ تصريحات لشيراك تذهب في هذا الاتجاه، خصوصاً حين يُصرّح أمام وفد من مجلس الشيوخ الأمريكي: “لنكن واقعيين، إننا لن نُسهِم في تقدّم الديمقراطية إلاّ بتعزيزها حيث توجد أصلاً، حتى وإن كانت بطريقة غير كاملة، كما هو الشأن في لبنان . يجب مساعدة هذا البلد على التحرر من الوصاية السورية” . ويضيف في هجوم كاسح على السوريين لا يمكن سوى أن يعجب الأمريكيين: “سيبحث السوريون، ربما، في التمديد للرئيس الحالي إميل لحود، من خلال تغيير الدستور . « . . . » لنعمل سويّة” .
يصف هوارد ليتش، السفير الأمريكي السابق في باريس، الوضعية المستجدة من العلاقات الفرنسية - الأمريكية، بالقول: “لا يريد شيراك أن يصرخ فوق الأسطح بأنه يبحث، بأي ثمن، أن يتصالح مع جورج بوش، الذي نزلت شعبيته في فرنسا إلى الحضيض، ولكن بسبب عدم الإنصات إليه في ما يخص العراق والصراع “الإسرائيلي” العربي، وجد في لبنان ثيمة للمصالحة التي ستعيده إلى الحلبة . صديقه رفيق الحريري مبتهج”، والثمرة من هذه الاتصالات ومن هذا التوافق الفرنسي - الأمريكي مع رفيق الحريري هو قرار أممي جديد . ويكشف المؤلف أن هذا القرار تمت قراءته وإعادة قراءته في يخت الحريري بحضور موفد شيراك الذي التقى كوندوليزا رايس ومسؤولين آخرين في 19 و20 أغسطس/ آب ،2004 قبل أن يتجه إلى سردينيا، المقر الصيفي لرفيق الحريري، في الوقت الذي لم يتوقف فيه غضب شيراك الشديد على السوريين
الكتب التي تكشف الفضائح والدسائس لا تتوقف هذه الأيام عن الصدور، ولعل آخرها، كتاب الصحفي والكاتب الفرنسي فانسون نوزيل “في سر الرؤساء” الصادر عن دار “فايار”، والذي يتعرض لثلاثة رؤساء فرنسيين: فرانسوا ميتران، وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وهو كتاب يتناول مواضيع وكالة الاستخبارات الأمريكية والبيت الأبيض والإليزيه (الوثائق السرية 1981- 2010) .
ما يريده المؤلف من هذه الأسرار، أكد عليه في التقديم حين كتب: “لم تنته الجمهورية الخامسة من تسليم أسرارها . إذ خلف التصريحات الرسمية، وبعيداً عن الإعلانات المتفق عليها، في غرف الانتظار بالإليزيه، تُعزف بعضُ المقطوعات التي لا تشاهدها سوى قبضة من الناس . الرئيس الفرنسي يُحكّم ويقرر ويرسل
مبعوثين وجنوداً من دون أن يكشف كل ما يُنسَج في هذا القصر . وما بين الرؤساء الأمريكيين والفرنسيين يعتبر مسرح الأشباح هذا مثيراً . لأن المشهد ليس له علاقة كبيرة مع ما يحدث في الكواليس . ليس للفاعلين الوجه نفسه . الحوارات هي أحياناً على نقيض الرواية التي يتم تقديمها للرأي العام” .
وبما أن الشجن اللبناني هو الذي يحرك العالم العربي الآن، فسنركز على المستجدات وبعض الاعترافات التي تخص لبنان، خصوصاً بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وأيضاً، في ظل استمرار الأزمة اللبنانية -اللبنانية بكل تعقيداتها، وبالتالي سنركز على دور فرنسا-شيراك (الصديق لأمريكا والمعجب بثقافتها و”مطبخها!”) في فترة حرجة من تاريخ لبنان، وتداخلاته مع الهيمنة الأمريكية على منطقتنا العربية .
يكشف المؤلف أن المشاروات الأخيرة حول القرار، جرت نهاية أغسطس/آب/آب 2004 وتبادل الدبلوماسيون الفرنسيون والأمريكيون في الأمم المتحدة مسوداتهم . موريس غوردو مونتاني مستشار شيراك الديبلوماسي على تواصل مباشر مع اللبنانيين، وبطريقة غير مباشرة مع وزير الخارجية السوري، الذي كان يمرر رسائله عبر الإسبان . التعديلات الأخيرة، قدمها مستشار شيراك إلى كوندوليزا رايس، وذهب باتصالاته الهاتفية المتتالية، إلى حد أن يقتحم عليها الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري في ماديسون سكوير غاردن، في نيويورك .
ويعود المؤلف إلى اجواء علاقات الحريري بالقيادة السورية فيقول، توترت العلاقات بشكل غير مسبوق بين الحريري والقيادة السورية، ويورد المؤلف بعض المصادر التي تكشف مواقف سوريالية تظل بحاجة إلى تأكيد من جهات أخرى: “تم استدعاء الحريري إلى دمشق في 26 أغسطس/آب، وكان الرئيس في قمة الغضب” . لحود (إيميل)، هو أنا . إذا كان شيراك يريد إخراجي من لبنان، سأكسر لبنان . فإما أن تنفذوا ما يُطلب منكم وإما سنصيبكم، بالإضافة إلى عائلتكم، أينما كنتم! “تهديد مباشر بالموت”، وأخيرا أثمرت، يوم 2 سبتمبر/أيلول الدسائس والاتصالات السرية بين الأمريكيين والفرنسيين عن القرار الأممي رقم 1559 بأغلبية تسعة أصوات وعدم تصويت 6 دول، من بينها روسيا والصين والجزائر، “هذا القرار “1559” هو صفعة حقيقية لسوريا . « . . .» ومن دون أن ينتظر مرور الوقت، نجح الرئيس السوري في فرض تمديد للرئيس اللبناني، إيميل لحود . لكنه لم يكن يتوقع هذا القرار الدولي ولا هذا التحالف الفرنسي الأمريكي ضده، غير المتوقع بعد حرب الخليج . ورأى فيها استفزازا من الحريري وخيانة من جاك شيراك وتحديا من جورج بوش . باختصار، رأى في القرار إعلانَ حرب” .
وفي ما يخص العلاقات الأمريكية - الفرنسية فقد كانت في شهر عسلها، في ما يتعلق بالملف السوري اللبناني . تدل على ذلك الهدايا الكثيرة التي أغدقها شيراك (ساعة ذهبية من نوع برنارد ريشارد، ووشاح هيرمس وقطعة نادرة من خزف ليموج) على “الدكتورة رايس” (كوندوليزا رايس، أصبحت وزيرة خارجية) . وقد واصل الرئيس جاك شيراك هجومه على القيادة السورية وعلى الرئيس بشار الأسد، فاعتبر أن النظام السوري يلجأ إلى طرق “سوفييتية” .
وفي كلمات غير دبلوماسية اندفع شيراك في انتقاد حاد للنظام السوري: “الأقلية العلوية الصغيرة تحكم سوريا بيد من حديد منذ فترة الحرب الباردة وبطرق مستوحاة من المعسكر السوفييتي . وقد حل محل الرئيس الراحل حافظ الأسد ابنه، الذي لا يمتلك نفس التجربة ولا نفس الذكاء . إنه حَجَر الزاوية للنظام، الذي سينهار، من دونه . ولكن المسؤولين الحاليين لا يعرفون أي اتجاه يأخذونه، ومن هنا حركاتهم غير المنظمة” .
يوزع شيراك اتهاماته وانتقاداته للسوريين، فيتحدث عن وجود أطراف مختلفة في النظام السوري، المعتدلين والمتشددين . ويرى تمظهر هؤلاء المتشددين في الحدود مع العراق (كأننا أمام مسؤول أمريكي وليس أمام رئيس فرنسا)، حيث يتواصل مرور مقاتلي القاعدة، وأيضاً من خلال تقديم الدعم المالي للمنظمات الفلسطينية “الإرهابية” رغم النفي الرسمي . ويُعرّج على لبنان فيرى فيها يد سوريا وهي “تضغط على الانتخابات من خلال قانون انتخابي على مقاسها ومن خلال ضغوط ومحاولات تقسيم المعارضة حيث يتواجد السُنّة والمسيحيون والدروز” . ليخلص إلى هذا الموقف المتشدد: “لا يمكن أن نترك الديمقراطية تختنق في البلد العربي الوحيد الذي هي متجذرة فيه”، وتصميم الرئيس جاك شيراك يُقرأ، أيضاً، في هذا المقطع: “يجب ممارسة ضغوط . لقد كان القرار 1559 ضربة قاسية جداً لسوريا . « . . .» يجب الانتباه لشيئين: في المقام الأول يجب ألاّ نخلط ما بين مستقبل الديمقراطية في لبنان ومسلسل السلام، وإلاّ ستُوضَع ورقة في لعبة دمشق . يجب دعم الديمقراطية في لبنان، من أجل الديمقراطية ومن أجل لبنان . وفي المقام الثاني، يجب التهديد بفرض عقوبات مالية جديدة قادرة على الوصول إلى نظام الفساد الموجود بين دمشق وبيروت”
ويرى المؤلف أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك طلب من الولايات المتحدة الأمريكية أن تذهب أبعد مما قامت به في هذه الأرضية، وهو ما يمكن أن يجر الأوروبيين . وقد ألحّ الرئيس شيراك، في حضور صديقته الأمريكية الجديدة “الدكتورة كوندوليزا رايس” التي كانت تعبر عن “اتفاقها الكامل معه” على: “يجب، في كل مناسبة، التذكير بالقرار الأممي 1559 والمطالبة بتطبيقه . وهو ما سيُساهم في إضعاف متشدّدي النظام السوري، في حين أن مُعتدِلي النظام سيجدون حججاً من أجل التشكيك في التوجيهات الحالية . ليست لدينا أي مصلحة في رؤية هلال شيعي يمتد من إيران إلى حزب الله مروراً بالعراق وسوريا، في الشرق الأوسط” .
وقد عبر الرئيس الفرنسي، الذي أبان دائماً عن خشيته من هيمنة الشيعة، الذين يعتبر السوري بشار الأسد حليفاً لهم، وعن تفضيله للسُنّة، من صدام حسين إلى رفيق الحريري، عن سعادته لتقوية التعاون الفرنسي - الأمريكي حول هذا الملف .حتى وإن كانت الأولويات تختلف بين الحليفين: “الأولوية لفرنسا هي سيادة لبنان، في حين أن الأولوية الأمريكية تتمثل في دعم سوريا للإرهاب . ولكنهما يتفقان، معا، على وضع النظام السوري في موقع الرماية” .
شيراك لبوش: القرار (باغتيال الحريري) اتخذه الرئيس الأسد . وكل فرضية أخرى، لا معنى لها .
مأساة لبنانية أخرى تحدث يوم الاثنين 14 فبراير/شباط ،2005 في الساعة الثانية عشرة والدقيقة 56 فقد وقع تفجير أدى إلى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ومعه 23 شخصاً . وقد كانت الصدمة كبيرة على الرئيس الفرنسي، الذي أعلن الخبر السيئ إلى زوجة رفيق الحريري، التي كانت موجودة في باريس، ثم قرّر التوجه على الفور إلى بيروت لتقديم التعازي . وكان شيراك، الذي توجه إلى بيروت بعد يومين، على اغتيال صديقه، في بالغ التأثر والحزن . “لقد قتلوا صديقه، لقد تجرأوا على ذلك . وبالنسبة له، ولا شك في ذلك، يجب التوجه إلى دمشق للبحث عمن أعطى الأمر بقتل الحريري .” ويرى خبير في وزارة الخارجية الفرنسية أن “الحريري كان يُزعج السوريين، وقد استفاد من دعم غربي واسع . وكانت ثمة خشية من اشتداد شعبيته في لبنان، بل وحتى خارجها . إلا أن الحريري سُنيّ، مثل 90 في المئة من السكان السوريين . كان الحريري يُمثّل تهديداً واضحاً، أكثر فأكثر، للنظام السوري .”
وإذا كان الفرنسيون والأمريكيون يشككون، معا، في دور خفي لسوريا، (مع أو من دون مشاركة مباشرة للاستخبارات اللبنانية)، وهي فرضية “طبيعية” (كما يرون)، فإن “الرئيس المصري حسني مبارك قدر هو أيضاً أن التفجير من توقيع السوريين” .
توالى المسؤولون الأمريكيون الذين اتهموا النظام السوري باغتيال رئيس الوزراء، وكان على رأسهم، بول وولفوفيتس، مساعد وزير الدفاع، والعضو النافذ في تيار المحافظين الجدد، الذي كشف أمام جان دافيد ليفيت، السفير الفرنسي في واشنطن، أنه يرى دور سوريا واضحاً في اغتيال الحريري: “يتعلق الأمر بعلامة ضعف وخوف للنظام السوري” .
وهكذا أظهر هذا المسؤول الأمريكي، من المحافظين الجدد، والذي كان، في السابق، غاضباً جداً على الفرنسيين، عن انفتاحه، من الآن فصاعداً، على تعاون فرنسي - أمريكي على كل الجبهات، سواء في العراق أو إيران أو لبنان . وقال للسفير الفرنسي: “علينا أن نكون، معاً، على رأس مجهود دولي لمساعدة لبنان، إما في الأمم المتحدة أو مع الجامعة العربية، والتفكير في اتخاذ إجراءات إضافية” .
ويكشف الكاتب انه أثناء لقاء بين الرئيس الأمريكي جورج بوش والفرنسي شيراك في السفارة الأمريكية في بروكسل يوم 21 فبراير/شباط ،2005 وبطلب من الفرنسيين تقرّر أن يكون الموضوع اللبناني هو على رأس المَواضيع المُتنَاوَلة، وقد أصدرا بياناً مشتركاً في الموضوع يدعو إلى إظهار كامل الحقيقة عن هذا “العمل الإرهابي” وبتطبيق القرار الأممي 1559 في “كل أبعاده” . ويصف المؤلف كواليس هذا اللقاء: “كان الرئيس الفرنسي شيراك هو الذي يتحدث أثناء هذا اللقاء . كان يتفجر غضباً . ويريد أن ينتقم لصديقه الحريري .”
ويقول المؤلف، نصح العديد من الخبراء والسفراء الفرنسيين الرئيس شيراك بدفع واشنطن إلى الواجهة ضد سوريا، إذ ليس لديها صعوبات مقارنة مع فرنسا . وكانت الأولوية، بالنسبة لفرنسا، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، تتلخص في “إرساء السيادة اللبنانية من خلال معاقبة سوريا، وليس من خلال إزاحة مباشرة للنظام السوري”، وقد ركز الرئيس الفرنسي على مسائل اعتبرها جوهرية في معالجة الأزمة . وتتلخص في “لجنة تحقيق دولية لتحديد الفاعلين ومن أعطاهم الأمر”، كما أنه، في صراعه المفتوح مع القيادة السورية، رأى أنه “من خلال إفشال النظام السوري في لبنان، يمكن توجيه ضربة قاتلة للنظام السوري”، وأضاف هذه الجملة التي كانت تفضح الحالة النفسية التي كان يتواجد فيها، والتي تعلن أن الأمور وصلت مستوى غير مسبوق: “إن سوريا لن تتقيّأ أو تقر بمسؤوليتها إلا إذا كانت تعرضت للتخويف أو تم إيلامها” .
وواصل شيراك توجيه الكلام إلى الرئيس الأمريكي، بلهجة غير مسبوقة يبدو فيها أنه كان على اطّلاع على الأمور، أو ما حاول إظهاره: “التفجير ضد رفيق الحريري ما كان بالإمكان تنفيذه إلا من قبل أجهزة منظمة ومُجربَة . وبالنسبة لمن يعرف عمل النظام في سوريا، فإن الشك غير ممكن . القرار (باغتيال الحريري) اتخذه الرئيس الأسد . وكل فرضية أخرى، لا معنى لها” .
استبق الرئيس الفرنسي، في هذه التهمة، كل تحقيق . وواصل هجومه على سوريا: “يجب أن نكون صارمين . لا يمكننا التصريح برغبتنا في إرساء الديمقراطية وفي الوقت ذاته نترك البلد العربي الوحيد في الشرق الأوسط الذي زرعت فيه الديمقراطية يتعرض للخنق . لكن يجب التصرف بدقة، وتجنب التهجم بشكل مباشر على سوريا، لأنه حينها، يمكنها أن تنجح في استعادة التضامن العربي . يجب أن يكون هدفنا هو تحرير لبنان من الهيمنة السورية، لأن سوريا تعيش بفضل استغلال لبنان من خلال نظام فساد منظم على مستوى القمة . إن لبنان هو كعب أخيل سوريا .”
ويكشف المؤلف ان الرئيس بوش وافق على البرهنة الشيراكية، التي لا تصرّ على توجيه هجوم نهائي إلى سوريا . ولكنه سأل الرئيس الفرنسي: “سوف نمر عبر لبنان، ولكن كيف يمكننا بلوغ هدفنا”؟
وهنا كشف الرئيس الفرنسي عما كان يطبخه خلال بعض الوقت: “يجب إنشاء لجنة تحقيق حول الجريمة . يجب أن تكون قوية ومدعومة من طرف المجتمع الدولي، ولأن تدخلها في المشهد اللبناني، سوف يساعد المعارضة . توجد اليوم حركة شعبية كبيرة، ولكن زعماءَها يخشون اغتيالهم، والبعض منهم سيغتالون من دون شك . ثم يجب بعد ذلك عدم الخلط بين الملف السوري اللبناني ومسار السلام في الشرق الأوسط، وإلا فقدْنا الشيعة، فضلاً عن أن سوريا تذرعت بسياق مسار السلام من أجل رفض كل حركة حول لبنان”، وكرر الرئيس شيراك، أمام بوش الذي وعد بإيصال الرسالة إلى “الإسرائيليين”، ضرورة تنفيذ القرار الأممي 1559 والعودة إلى مجلس الأمن من أجل “التفكير في عقوبات”، وأضاف: “من دون انتظار الوقت، يجب دراسة إمكانية عقوبات مالية، مباشرة وغير مباشرة . كل النظام السوري يرتكز على نهب لبنان، في القمة” .
رأى الكاتب، معلقاً على اقتراحات الرئيس جاك شيراك الغاضبة أمام بوش: “أن خطة شيراك كانت قاسية، وضاغطة ويغذيها حقدٌ لا يمكن كبْحُهُ إزاء الأسد . وكان تواطؤه مع الحريري يُشوّش على قسم من تقديره: كان يعتقد، بجدية، أن النظام السوري سينهار من تلقاء ذاته، بعد انسحابه من لبنان . وأمامه كان الرئيس الأمريكي في بالغ التأثر . وقد اقتنع . سوريا ليست هي العراق”، وكان تعليق بوش: “إني أرى بشكل واضح الطريق الذي يجب تتبعه . إنه مشروع مهم . إنها لحظة مهمة” .
انسحاب القوات السورية من لبنان
في السادس من مارس/آذار 2005 أعلن الرئيس السوري، أمام البرلمان، عن نيته سحب القوات السورية من لبنان، “لا يمكننا البقاء في لبنان إذا كان حضورنا سيكون مصدر انقسام بين اللبنانيين”، وفي هذه اللحظة أمر الرئيس الفرنسي شيراك بفعل كل ما يمكن من أجل إقناع حزب الله اللبناني بالابتعاد عن سوريا ومن أجل تجنب أي تهييج قد تقوم به سوريا في المخيمات الفلسطينية . ومن جديد بشرَ شيراك الرئيس الأمريكي بوش، بقرب انهيار النظام السوري من تلقاء نفسه: “البعض يتحدث عن التسبب في تغيير النظام السوري . إن إظهار هذا سيكون في مصلحة دمشق . إذا ما حصلنا على انسحاب وفقدان المراقبة السورية للبنان، فإن النظام السوري سينهار من تلقاء نفسه . يوجد اليوم هلال شيعي من إيران إلى لبنان مروراً بالعراق الجديد وسوريا . وفي سوريا الغد، ستأتي الديمقراطية بالسُنّة والمسيحيين إلى السلطة، وهو ما سيدُق ركناً في الهلال الشيعي” .
تلاحقت الأحداث، ولكنها لم تسر وفق الحُلم الشيراكي ولا وفق المخططات الأمريكية . فقد قرر الرئيس السوري إنهاء انسحاب القوات من لبنان في تاريخ 30 إبريل/نيسان 2005 وفي 7 إبريل/نيسان من نفس السنة شُكّلت لجنة التحقيق الدولية حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، انسجاما مع تمنيات جاك شيراك .
حاولت صنع إجماع في لبنان والحفاظ عليه، وكان لحزب الله مكان فيه، وهو ما يكشفه المؤلف حين يتحدث عن لقاءات عديدة بين مسؤولين في حزب الله ودبلوماسيين فرنسيين، من أجل إقناعه “بالمشاركة في لعبة الانتخابات والابتعاد عن سوريا” . ويكشف المؤلف أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله التقى بالسفير الفرنسي في بيروت، برنارد إيميي، في 6 إبريل/نيسان . كما يكشف أن اللقاء كان إيجابياً، على الرغم من أن “الزعيم اللبناني وَاصَل الإعلان عن “مقاومته”، إزاء التدخلات “الإسرائيلية”، وأكّد على عدم وجوب إضعاف سوريا” .
وهنا اختلاف بين الرؤية الأمريكية والفرنسية، حول حزب الله: “إذ بينما تريد الولايات المتحدة إدراجه ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، كانت الرسالة الفرنسية واضحةً، من الأفضل مراعاته مُؤقّتا . ومن دون تغيير في الجوهر، تتبع البيت الأبيض نصائح الإليزيه من خلال التخلي عن هذا الإدراج” .
بعد الانسحاب السوري من لبنان وفي انتظار النتائج المرجوة من قبل الحليفين الأمريكي والفرنسي، كان ثمة تحليل للوضعية السورية وتقييم لها، إذ يرى الأمريكيون، “أن الأسد ليس إصلاحياً . ولا شيء يمكن انتظاره منه . والنظام غير قابل للإصلاح . والأسد ليس في منأى عن انهيار نظامه والشعب متعطش إلى التغييرات” . في حين أن الفرنسيين يرون “أن الدور لم ينته بعد، وأن الإصلاحيين والمحافظين مستمرون في المواجهة، الرئيس الأسد هو، على الأرجح، إلى جانب الإصلاحيين، ولكنه يرسل إشارات معاكسة . يجب الحكم عليه من خلال الأفعال . « . . .» يجب علينا أن نعاود الاتصال بدمشق . إن تجاهل سوريا يدفعها إلى الراديكالية” .
صحيح أن الرأي الفرنسي هو دون توقعات الرئيس جاك شيراك حول نهاية نظام بشار الأسد .
ومن هنا طالب شيراك بإجراء محاكمة دولية حول اغتيال الحريري . وخلال هذا الوقت وَاصَل تأكيد قناعته بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد “كثمرة آن قطافها”، ومما زاد هذه القناعة وقواها تفسيره لانتحار وزير الداخلية السوري الجنرال غازي كنعان، الرجل القوي في النظام باعتباره تفككاً داخلياً للنظام السوري .
ولا يتوقف الرئيس شيراك أمام زواره من المسؤولين الأمريكيين من صب جامّ غضبه على القيادة السورية واتهامها بأشياء خطيرة (تقترب من نظرة عِرقية وعنصرية)، وهو ما يفعله أمام كوندوليزا رايس، حين يقول: “النظام السوري مزعزَعٌ أكثر مما يبدو وأكثر هشاشة مما يُتصور . وقد بدأ الرأي العام السوري يتساءل أكثر فأكثر حول مواقف حكامه . « . . .» إذا أحس الرئيس الأسد بالتهديد سيلتجئ إلى العنف الإرهابي . إنه (الإرهاب) . وقد كانت الحالة نفسها في زمن والده، على الرغم من أن الأب كان أكثر ذكاء وتجربة . يجب أن ينهار، ولكن وحده” .
إزاء هذه القراءة الشيراكية للوضع السوري - اللبناني، اقترحت كوندوليزا رايس العمل على قرارين أممين متوازيين . الأول تبعا لتقرير ديتليف ميليس عن “عدم التعاون السوري” في التحقيق حول اغتيال الحريري، والثاني حول التصرفات الأخرى للنظام السوري بعد تقرير تيري ريد لارسن . ولكن الفرنسيين أبدوا حذراً كبيراً، لأن الأمر كان ينذر بفتنة أخرى شبيهة بفتنة التدخل الأمريكي في العراق والمعارضة الفرنسية لهذا التدخل . يكتب المؤلف: “تحتفظ فرنسا بتذكار سيئ عن مشاجرة 2003 وليست لديها رغبة في معارضة الولايات المتحدة من جديد في أروقة الأمم المتحدة .”
صمد التحالف الأمريكي الفرنسي، وأثمر عن قرار جديد من مجلس الأمن بتاريخ الأول من يناير/كانون الثاني 2005 يطلب من سوريا تعاونا أفضل مع لجنة ميليس، الذي قدم تقريرا اتهاميا ضد سوريا . وبعد أسابيع، طلبت الحكومة اللبنانية، المعادية لسوريا، رسميا، من الأمم المتحدة إنشاء محكمة دولية من أجل محاكمة المسؤولين عن التفجير الذي قتل رفيق الحريري ومعه 22 شخصا . وقد تم تبني هذا الطلب، الذي ساندته فرنسا والولايات المتحدة، من قبل مجلس الأمن يوم 28 مارس/آذار 2006 ولكن النظام السوري، الذي كان يختنق، حسب المؤلف، أو ينهار، في صمت، ووحده، كما كان يتصور شيراك ويحاول إقناع نفسه والأمريكيين، استعاد عافيته وبدأ يتنفس بعد الهجوم “الإسرائيلي” على لبنان يوم 13 يوليو/تموز ،2006 بعد أن اختطف حزب الله اللبناني جنديين “إسرائيليين” . وبسرعة رأى مستشارو الرئيس شيراك في عملية حزب الله: “عملية ماهرة قام بها بشار الأسد بدعم من حلفائه”، وقال: “يريدُ (الرئيس) الأسد من خلال أزمة إقليمية كبرى، العودة كمحاور رئيسي والتخلص من الضغوط المسلطة عليه” .
“اضطرت “إسرائيل” إلى الانكفاء بعد حملة عسكرية انتهت بالفشل أمام حزب الله المسلح تسليحاً جيداً”، ولكن ما هي النتيجة: “بلد الأرز يتنفس قليلا . ولكن قتلة الحريري لا يزالون طليقين . أما بشار الأسد فهو لا يزال في مكانه في دمشق . وخلاف
ا للتمنيات المتكررة لشيراك، فإن نظامه لم يسقط . الرئيس السوري الماهر، يعرف كيف يُقدم على بعض التنازلات حين يتطلب الأمر ذلك، ويعرف أن يقلب ظهره في انتظار مرور العاصفة . بل ونجح في كسر تدريجي لعزلته الدولية، انطلاقا من يونيو/حزيران ،2007 حين مدّ له الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي، اليد من جديد، في قلب لصفحة من مشاكسة شيراكية كانت فعاليتها محدودة” .
ويختتم المؤلف بقوله، وهكذا انتهى الصراع الشخصي بين شيراك والأسد، لمصلحة الأخير، حيث توجه شيراك إلى التقاعد، تطارده محاكمات حول فساد، في حين أن الرئيس السوري الشاب يبرهن، مع الأيام، أنه لاعبٌ إقليمي كبير يُحسَب له ألف حساب . ولم يبق أمام شيراك من نقطة اتفاق مع الأمريكيين سوى لعب ورقة النووي الإيراني . ولكنه حتى في هذه الورقة، أصيب بفقدان البوصلة، أو “كثير من البوصلات”، إذ قال في لقاء سري، رداً على سؤال عن النووي الإيراني، ولم يكن بغرض النشر: “إن امتلاك إيران للقنبلة النووية ليس مسألة بالغة الخطورة . « . . .» الخطر لا يكمُن في القنبلة التي ستمتلكها إيران، والتي لن تنفعها في شيء . سترسلها إلى أين؟ على “إسرائيل”؟ قبل مائتي متر من انطلاق القنبلة في المجال الجوي ستكون طهران قد مُسِحَت” .
حاول بعد ذلك أن يخفف من شدة التصريح، وأن يقنع حليفيْه (في الوقت الراهن، إذ لا حليف إلى الأبد) المصري والسعودي، بتبرير آخر . ولا أحد قال لنا: هل اقتنع الصديقان العربيان، اللذان عبّرا عن طموحاتهما النووية، بتصحيح رئيس كان قد بدأ يفكر في تقاعده وفي استدعاءات القضاء؟
الكتب التي تكشف الفضائح والدسائس لا تتوقف هذه الأيام عن الصدور، ولعل آخرها، كتاب الصحفي والكاتب الفرنسي فانسون نوزيل “في سر الرؤساء” الصادر عن دار “فايار”، والذي يتعرض لثلاثة رؤساء فرنسيين: فرانسوا ميتران، وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وهو كتاب يتناول مواضيع وكالة الاستخبارات الأمريكية والبيت الأبيض والإليزيه (الوثائق السرية 1981- 2010) .
ما يريده المؤلف من هذه الأسرار، أكد عليه في التقديم حين كتب: “لم تنته الجمهورية الخامسة من تسليم أسرارها . إذ خلف التصريحات الرسمية، وبعيداً عن الإعلانات المتفق عليها، في غرف الانتظار بالإليزيه، تُعزف بعضُ المقطوعات التي لا تشاهدها سوى قبضة من الناس . الرئيس الفرنسي يُحكّم ويقرر ويرسل
مبعوثين وجنوداً من دون أن يكشف كل ما يُنسَج في هذا القصر . وما بين الرؤساء الأمريكيين والفرنسيين يعتبر مسرح الأشباح هذا مثيراً . لأن المشهد ليس له علاقة كبيرة مع ما يحدث في الكواليس . ليس للفاعلين الوجه نفسه . الحوارات هي أحياناً على نقيض الرواية التي يتم تقديمها للرأي العام” .
وبما أن الشجن اللبناني هو الذي يحرك العالم العربي الآن، فسنركز على المستجدات وبعض الاعترافات التي تخص لبنان، خصوصاً بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وأيضاً، في ظل استمرار الأزمة اللبنانية -اللبنانية بكل تعقيداتها، وبالتالي سنركز على دور فرنسا-شيراك (الصديق لأمريكا والمعجب بثقافتها و”مطبخها!”) في فترة حرجة من تاريخ لبنان، وتداخلاته مع الهيمنة الأمريكية على منطقتنا العربية .
يرى المؤلف في الفصل العاشر من الكتاب أن الرئيس شيراك يعتبر من الديغوليين النادرين الموالين للولايات المتحدة . ويقول إن شيراك في زيارته الأولى كرئيس للجمهورية الفرنسية، أحبّ أن يُذكّر مضيّفيه أنه عاش فترة من الزمن في بلدهم، وأنه يحبه، وأنه “عاش قسماً من هذا “الحلم الأمريكي”” .
نكتشف أن الرئيس شيراك، كان في بداياته، من الديغوليين القلائل الموالين للولايات المتحدة . صحيح أنه في مراهقته كان يميل للحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنه سرعان ما مال للحلم الأمريكي . في 16 تشرين الأول ،1967 وُجِّهَت دعوة غداء لدى السفير الأمريكي شارلز بوهلن، برفقة مسؤولين ديغوليين آخرين . ولم يبخل الدبلوماسي الأمريكي في إسباغ المدائح على هذا الضيف، الذي شكّل “اكتشاف السهرة” وقد وجده: “ذكياً ودينامياً ودافئاً وأصيلاً ومُقنِعاً” .
ويظهر الأمر في حديث شيراك الحماسي عن “سفرياته إلى الولايات المتحدة وعن إعجابه بنمط العيش الأمريكي”، بدل أن يُحيل إلى الجنرال ديغول، الذي لم يتلفظ حتى باسمه . وقال السفير ملخصاً بكثير من الجذل: “بدا لي أمريكيّاً وليس فقط موالياً للولايات المتحدة - مثل كثير من الأمريكيين” . وأضاف: “إنه يحب جمال وشساعة المناظر الأمريكية، ويعبر عن إعجابه بنظام الحدائق الوطنية ومعجب بالطبخ الأمريكي . وأشار إلى أنه أتى، من حين لآخر، بصفة سرية، إلى مطبخ السفارة خلال السنوات العشر الأخيرة، لأنه المكان الوحيد في المدينة الذي يمكن أن يعثر فيه على الطعام الأمريكي” .
وكانت الولايات المتحدة تتابع باهتمام السياسة الفرنسية الداخلية والصراع بين قطبي اليمين الفرنسي: جاك شيراك وفاليري جيسكار ديستان، “وكانت الولايات المتحدة ترى بعين الرضى إلى التنافس المتصاعد بين شيراك وديستان”، إذ من وجهة نظر المصالح الأمريكية، من المهم جداً أن يحافظ شيراك على وضعيته في المشهد السياسي، باعتباره بديلاً في حال تفكك ديستان من الآن إلى 1981 أو ما بعد هذا التاريخ . وسيكون من المحزن أن يكون ميتران البديل الوحيد” .
ابتداء من سنة 1981 أصبح شيراك الزعيم الحقيقي للمعارضة . ويرى المؤلف أنه حافظ على علاقات جيدة مع كل من رونالد ريغان وجورج بوش (الأب) .
ويستعرض المؤلف الكثير من الأمثلة التي تثبت أن شيراك كان المفضل لدى الأمريكيين، ومن بينها زيارته إلى الولايات المتحدة في مارس/ آذار ،1987 وكان حينها رئيس وزراء للرئيس فرانسوا ميتران: “وبما أنه كان يمتلك صورة المرشح للرئاسيات الفرنسية الأكثر موالاة للولايات المتحدة، وبما أنه يعشق الحديث عن مروره على هارفارد سنة ،1953 جرى كل شيء على أفضل حال . كان شيراك سعيداً . تناول الغداء، في جو ودي جداً، مع بوش، نائب الرئيس، كما تحادث مطوَّلاً مع الرئيس ريغان . وقد أعدّ له البيت الأبيض بروتوكولاً مخصصاً لرؤساء الدول . وقد أثار هذا الاستقبال حنق الرئيس ميتران، لأن هذا يبين أن شيراك يحظى بدعم الأمريكيين” .
ومع مجيء بيل كلينتون إلى البيت الأبيض حرص شيراك على فتح قنوات معه . وكانت اللقاءات الأولى بين الرجلين واعدة، “ولأول مرة يتسنى لشيراك أن يتحدث، بشكل مفتوح، عن السياسة الخارجية التي سيقودها في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية . وكان الرئيس الأمريكي ينصت بانتباه شديد إلى هذا الديغولي الجديد، وهو يعلن له أن فرنسا تستطيع أن تقترب أكثر من حلف الأطلسي أو اتخاذ موقف أكثر اندفاعاً في البوسنة، وهما موضوعان كان الرئيس ميتران متحفّظاً جداً فيهما، خلال السنوات الأخيرة . ومثل خطيب أبدي eternal fiancé جاء جاك شيراك ليقدم بعض الوعود للولايات المتحدة . وتلتقط له مرة أخرى صورة في البيت الأبيض . وإذا ما وصل شيراك إلى الإليزيه فليس مستحيلاً أن الولايات المتحدة يمكن تعبر عن غبطتها . وبعد كل شيء، فإن شخصاً يلتهم الهامبورغر بشهية طيبة ويتحدث عن الجاز في نوفيل أورليان بِرَجَفان في الصوت، في نظر كلينتون، لا يمكن أن يكون، في الجوهر، شخصاً سيئاً” .
بيل وجاك في القارب نفسه
يصل جاك شيراك إلى السلطة ويجد نفسه مع بيل كلينتون في القارب نفسه، مع اشتداد الحرب البوسنية . ونقرأ رد فعل الرئيس القاسي، عقب اعتقال القوات الصربية للعديد من القوات الدولية (القبعات الزرق)، ومن بينهم مئة وثلاثة من الجنود الفرنسيين، حيث صرح أمام رئيس الأركان الفرنسي: “العسكريون جبناء! يجب إعطاء الأمر للقبعات الزرق الفرنسية بالدفاع عن النفس ببنادقهم الآلية . عليهم أن يقاتلوا!”
تتوالى التجارب في البوسنة ولا نرى تحققاً لغضبات شيراك المُضَرية . فقد كانت سيبرينتشا، مثالاً على الجبن، القريب من التواطؤ، أو “العجز” الأطلسي إزاء الجريمة والإبادة . ويرى المؤلف أن شيراك عبّر عن غضبه ولكنه ظل عاجزاً . وكان الأمر ورد الفعل دليلاً على “انهيار جديد للمجتمع الدولي قاد إلى مأساة كان يخشاها الكثيرون” . وإذا كان المجرمون الكبار غير مجهولين ومن بينهم ملاديتش وكراديتش، فالحقيقة تقول إنه لم يكن يريد أحد إيقافهم “وفي الحقيقة، وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المخالفة، فإنه لا الأمريكيون ولا الفرنسيون أبْدَوا حماساً كبيراً في اعتقال رئيس صرب البوسنة كراديتش”، رغم انه مطلوب للمحكمة الدولية، وقد افْتُضِحت اتصالات فرنسية مع كراديتش(الذي لم يتم توقيفه سوى في يوليو/ تموز سنة 2008 من قبل الاستخبارات الصربية)، برّرها الفرنسيون برغبتهم في “إقناع الزعيم الصربي البوسني بتسليم نفسه” .
ويستطرد الكاتب، مرّت العلاقات بين شيراك كلينتون بمراحل مختلفة من الحميمية إلى برودة . فقد عبر كلينتون عن شكره للموقف الفرنسي من إظهار إرادته في تقوية حلف الأطلسي، وأيضاً لبْرَلة التجارة العالمية والعمل مع الاتحاد الأوروبي في كل المواضيع الممكنة . ولكن ابتداء من خريف 1995 بدأت البرودة تنتاب العلاقة، حين طلب كلينتون من شيراك تقديم مساعدة اقتصادية إلى الأردن، أو تشديد العقوبات على الجماهيرية الليبية .
وإذا كانت البرودة هنا، فإن تنازلات قدمتها فرنسا في موضوع العودة الفرنسية إلى القيادة العسكرية لحلف الأطلسي . لقد قبلت فرنسا، في حقيقة الأمر، ومن دون شروط، أن تقوم بالخطوة الأولى نحو اندماج كامل، مستعيدة مكانها في أحضان مجلس وزراء الدفاع واللجنة العسكرية لرؤساء أركان حلف الأطلسي . ولمْ يَعد يتبقى لها إلا القيادة المندمجة ولجنة التخطيطات كي تندمج بشكل نهائي في المنظمة (الأطلسي) . هذه المراحل الأخيرة، الرمزية، لا يمكن للإليزيه أن يقدم عليها إلاّ إذا تم إرضاء طلباتها، أي إصلاح الحِلف بما يتيح انبثاق “ركن أوروبي” .
ويقول الكاتب إنه لم تَبْق العلاقات بين الرئيسين الفرنسي والأمريكي حسنة، على الرغم مما يحاول الطرفان إظهاره من اتفاق وانسجام . “عبّر كلينتون عن رغبته في رؤية “تعاون وثيق” مع الفرنسيين”، حول المشكلات الاقتصادية للفلسطينيين أو حول تقديم المساعدة للبنان “وهي طريقة مقبولة للطلب من جاك شيراك ألا يتدخل في قضايا أخرى” . ويرسم الكاتب صورة مثيرة للشفقة عن رئيس فرنسي لا يتوقف عن اقتراح دعمه وعرض خدماته على الأمريكيين، وهم يتمنعون في قبولها “ما الذي يمكن أن يفعله شيراك أكثر من هذا؟ بالتحديد، جاك شيراك، لم يعد له من حظ على المستوى الدولي” .
ويذهب المؤلف إلى وصف الحالة الضعيفة والمهزوزة لشيراك، ويقدم مثلاً: “فشل الرئيس الفرنسي في تمديد ولاية صديقه بطرس بطرس- غالي في منصب الأمين العام للأمم المتحدة (بسبب الفيتو الأمريكي!) . ولم يتوقف عن النضال من أجل التمديد له”، “وفي يوم 16 كانون الأول/ديسمبر ،1996 نجح البيت الأبيض في فرض مرشحه المُفضّل، الغاني كوفي أنان، الذي ساند المواقف الأمريكية في البوسنة أو في هايتي” .
وزاد الأمريكيون في إغاظة الفرنسيين، في رسالة وقحة أرسلها كلينتون إلى شيراك، تقول ضمن ما تقول: “عزيزي شيراك، أود أن أشكرك على مساهمتك في إنجاز إجماع مبكر حول كوفي عنان كأمين عام للأمم المتحدة” .
“السخريّة قاسية . شيراك، الحانق، تحمَّل الإهانة على مضض . إهانة أخرى . وهو ليس في نهاية خيباته . . عزيزي جورج، لِنَعُدْ، من جديد، أصدقاءَ . . .” .
بعد احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، جاءت الرغبة الأمريكية في قولبة الشرق الأوسط . وظهر مشروع شرق أوسطي “كبير”، اقترحته يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2004 وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس على المستشارين الدبلوماسيين الأوروبيين . وقد بدأت بعض الردود السلبية على المشروع الشرق الأوسطي الجديد، من قبل بعض زعماء المنطقة من العرب . “إن الدعوات إلى “تغيير الأنظمة” لم تتلق صدى حماسياً لا في القاهرة ولا في الرياض” .
لم يتأخر الموقف الفرنسي إزاء المشروع الأمريكي . وعلى الرغم من الطابع الرسمي والدبلوماسي للرد، فإن شيراك عبّر، بأدب، عن ملاحظاته على فكرة بوش الأخيرة: “أنا أوافق على المبادرة الأمريكية حول الشرق الأوسط الكبير، ولكن يجب أن نكون على وعي من أن مفتاح السلام والاستقرار الإقليمي هو إيجاد حل للصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني . ولن يكون سلام من دون مفاوضات، ولا يمكن فرض السلام من الخارج . إن مبادرة الشرق الأوسط الكبير اصطدمت بهذه القضية” .
هذا ما كان في العلن، أمّا في الكواليس، “فلم يكتفِ الإليزيه بهذه الانتقادات الحذرة، بل يتعلق الأمرُ بإفشال سري لمشروع البيت الأبيض”، وفي نهاية شباط/فبراير 2004 سربت فرنسا وألمانيا نصاً معنوناً “شراكة استراتيجية من أجل مستقبل مشترك مع الشرق الأوسط” والغرض منه مواجهة النص الأمريكي . وفي بداية مارس/ آذار أرسلت فرنسا مبعوثين إلى العواصم العربية من أجل تسليم خطابات إنذار وقياس ردود الفعل . وجاءت ظروف وصدف متعددة أفشلت المشروع الأمريكي وأطلقت عليه رصاصة الرحمة . ومن بينها ما يكتبه المؤلف في هذه الفقرة المكثفة: “أحداث إبريل/ نيسان ،2004 ستزعزع الماكينة الأمريكية الثقيلة . المعارك شرسة في العراق بين القوات الأمريكية والمسلحين في مدينة الفلوجة كذّبت كل التصريحات المُطَمْئِنَة عن استتباب الأمن . كما أن الصحافة كشفت عن ممارسات تعذيب في سجن أبو غريب العراقي . وكشفت أشرطة الفيديو الاتهامية عن كذب اللازمة الأمريكية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط . وقد قامت الصحافة العربية بإدانة “النفاق”، الأمريكي، ورأت في فضيحة التعذيب إضافة “فشل أخلاقي” إلى الورطة العسكرية الأمريكية في العراق . وأخيراً دعم جورج بوش القوي لأرييل شارون . . .”
وأخيراً جاء الفشل الأمريكي في فرض هذا الشرق الأوسط الجديد واضحاً في البيان الختامي لمجموعة الثماني، الذي “اكتفى بإعلان بسيط للنوايا داعياً إلى إصلاحات وإلى احترام التنوع . كما أن غداء بوش الذي جمعه يوم الأربعاء 9 حزيران/يونيو 2004 مع رؤساء دول عربية وإسلامية سيكون نصف فشل: إذ لن يحضر سوى الرئيس الأفغاني قرضاي، والرئيس الجزائري بوتفليقة، وملك البحرين، والملك الأردني عبدالله، ورئيس الوزراء التركي أردوغان، والرئيس اليمني علي صالح . في حين أن الملكين المغربي والسعودي ورئيسي مصر وتونس لم يلبوا الدعوة . . .” .
وجاءت فترة مصالحة بين الرئيسين بوش وشيراك، في 5 حزيران/يونيو ،2004 حين حضر الرئيس بوش احتفالات مرور ستين سنة على الإنزال الأمريكي في النورماندي . صحيح أن الخلافات بين الطرفين كثيرة، ولكنهما استطاعا في النهاية أن يتفقا على موضوع واحد: “هذا العشاء للمصالحة انتهى بثيمة وحّدت الطرفين وشكلت إنذاراً لبوش ولشيراك: الهيمنة السورية على لبنان” .
الوجود السوري في لبنان
ويكشف الكاتب أنه “اشتغل التعاون الأمريكي الفرنسي، بصفة سرية، حول هذا الملف” . واستعان الرئيس الفرنسي بصداقته الحميمة مع رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، “الذي كان يلتقيه بانتظام مع زوجته، نازك”، ويرى المؤلف ان “الحريري راهن على ورقة التعاون مع القوة السورية المجاورة، باحثاً عن دعم وحماية . ولكن الحضور الدائم للقوات السورية وممارسات الاستخبارات السورية والضغوط تسبب في حدوث طلاق بين الحريري والسوريين”، ومن هذه اللحظة “وضع نفسه في موضع المدافع الشرس عن استقلالية لبنان . وكان “صديقه جاك” يساعده بكل الوسائل” .
ويضيف الكاتب، لقد تصوّر شيراك بعيد وفاة الرئيس حافظ الأسد أن الرئيس الشاب بشار، الذي التقى به قُبَيل وصوله إلى الرئاسية السورية، “من أنصار الإصلاحات، التي لم يَقُم بها أبوه حافظ، الذي كان معروفاً عنه بأنه لا يتزحزح حتى وفاته يونيو/ حزيران 2000” .
لا شيء ثابتاً في السياسة، فنحن نعلم أن الرئيس الفرنسي زار سوريا ثلاث مرات، أكتوبر/ تشرين الأول 1996 ويونيو/ حزيران 2000 وأكتوبر/ تشرين الأول ،2002 وأنه بذل قصارى جهوده من أجل التقرب من الرئيس السوري . وهنا يقول أحد المستشارين السابقين في الإليزيه: “حين تولى بشار السلطة، تصور الرئيس الفرنسي أن بإمكانه أن يضعه تحت سيطرته . بذل كثيراً من الجهد من أجل مساعدته وتدليله وحاول إقناعه بتليين مواقفه . وقد نجح في الحصول من سوريا على الموافقة على التصويت على القرار الأممي حول عودة المفتشين إلى العراق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004” .
ويقول المؤلف “حاول الفرنسيون والألمان والروس تغيير المواقف السورية، ولكنهم لم يحصلوا منه على ما يريدون . وأدت هذه الخيبة الفرنسية، إضافة إلى شعور الحريري المتكرر بالإهانة في دمشق، وأن الوزراء اللبنانيين المقرّبين من سوريا يهيمنون على الحكومة اللبنانية، إلى اقتناع الرئيس شيراك بأن نظام الأسد غير قابل للانثناء، اللهم إلا إذا مورست عليه الضغوط” .
ويستطرد الكاتب، عوامل التوتر الأمريكية - السورية عديدة، ولعل أهمها اعتبارها منذ سنة 2002 عضواً في “محور الشرّ”، وزاد الغضب الأمريكي مما تعتبره تهاوناً من سوريا في مراقبة حدودها مع العراق، حيث تتسلل خلايا القاعدة . إضافة إلى استيلاء سوريا على حسابات مالية عراقية . وإلى ما ذكر يأتي دعم سوريا لحزب الله اللبناني وللحركات الفلسطينية الراديكالية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، عدوّتي “إسرائيل” اللدودتين ليُعقِّدَ الأمر . وقد كانت الوقاحة الأمريكية واضحة في الرسائل المُوجَّهَة للقيادة السورية . “أرسل البيت الأبيض عدة رسائل إلى الرئيس السوري للتعبير عن غضبه في ما يخص هذه المواضيع جميعاً . لكن من دون نتيجة . وقد أسرّ بوش، غاضباً، للرئيس الفرنسي في سبتمبر/ أيلول ،2003 أثناء لقاء على هامش الاجتماع العام للأمم المتحدة، “قُلْ لبشار الأسد إني شرير أحادي الجانب”” .
ووسط هذا العداء المتصاعد للقيادة السورية من قبل الفرنسيين والأمريكيين انضاف الكونغرس الأمريكي إلى قائمة الأعداء الجدد، وذلك من خلال تبني عقوبات اقتصادية ضد النظام السوري، المُتَّهَم بدعم الإرهاب وبالحفاظ على وجوده العسكري في لبنان . وقد أبدى بعض الدبلوماسيين الفرنسيين قلقهم من العقوبات الأمريكية . ورأى البعض منهم في الأمر: “أن مشكل الإدارة الأمريكية يكمُنُ في شيطنتها للنظام السوري القائم، وإذاً فهي عاجزةٌ عن تصور سياسة أكثر شمولاً ودينامية، تجمع ما بين العصا والجزرة، وهي بسبب عدم اقتراحها أي شيء على مُحاوَريها، فإنها تَدُلُّ من تفاعليّتهم” .
بعد أفغانستان والعراق، أصبحت سوريا تحت العين الأمريكية، وبالتالي جاء وقت المصالحة الفرنسية - الأمريكية . ونقرأ تصريحات لشيراك تذهب في هذا الاتجاه، خصوصاً حين يُصرّح أمام وفد من مجلس الشيوخ الأمريكي: “لنكن واقعيين، إننا لن نُسهِم في تقدّم الديمقراطية إلاّ بتعزيزها حيث توجد أصلاً، حتى وإن كانت بطريقة غير كاملة، كما هو الشأن في لبنان . يجب مساعدة هذا البلد على التحرر من الوصاية السورية” . ويضيف في هجوم كاسح على السوريين لا يمكن سوى أن يعجب الأمريكيين: “سيبحث السوريون، ربما، في التمديد للرئيس الحالي إميل لحود، من خلال تغيير الدستور . « . . . » لنعمل سويّة” .
يصف هوارد ليتش، السفير الأمريكي السابق في باريس، الوضعية المستجدة من العلاقات الفرنسية - الأمريكية، بالقول: “لا يريد شيراك أن يصرخ فوق الأسطح بأنه يبحث، بأي ثمن، أن يتصالح مع جورج بوش، الذي نزلت شعبيته في فرنسا إلى الحضيض، ولكن بسبب عدم الإنصات إليه في ما يخص العراق والصراع “الإسرائيلي” العربي، وجد في لبنان ثيمة للمصالحة التي ستعيده إلى الحلبة . صديقه رفيق الحريري مبتهج”، والثمرة من هذه الاتصالات ومن هذا التوافق الفرنسي - الأمريكي مع رفيق الحريري هو قرار أممي جديد . ويكشف المؤلف أن هذا القرار تمت قراءته وإعادة قراءته في يخت الحريري بحضور موفد شيراك الذي التقى كوندوليزا رايس ومسؤولين آخرين في 19 و20 أغسطس/ آب ،2004 قبل أن يتجه إلى سردينيا، المقر الصيفي لرفيق الحريري، في الوقت الذي لم يتوقف فيه غضب شيراك الشديد على السوريين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.