هذه المدينة الوادعة والهانئة، الفقيرة رغم ثرواتها الطائلة.. الحديدة، المشهورة بطيبة أهلها وبساطتهم وكرمهم، الذين عناهم النبي الأعظم في قوله "أرق قلوباً وألين أفئدة".. تناضل الحديدة في جبهات عديدة، تناضل في الحر الشديد لانقطاع الكهرباء، وتناضل رغم المجاري الطافحة، وتناضل رغم الحركات التي وُلدت فيها من رحم سواها، وتناضل في طوابير الغاز والبترول، وترى كل شيء يبتسم لك رغم كل هذا. منذ أن تصل إلى المراوعة تبدأ بتنفُّس الفل، وترى الأطفال والكبار يبيعونه ويلوِّحون به، كأنهم يحيُّونك بتحية لا أجمل منها.. وتدخل مدينة الحديدة فتتعثّر بالفل في كل مكان، وتوقن في قرارة نفسك أن البحر والفل هو ما جعل قلوب أهل الحديدة بتلك الطيبة والمحبة، فمن يُعلِّق على صدره عقداً من الفل لا يمكن أن يعلِّق مكانه بندقية. كان هذا قبل سنوات، حين كنا نعيش بهناء، حتى انقلبت كل الأمور رأساً على عقب.. كانت كل المحافظات تنتظر ما تجود به مدينة الحديدة من أرضها وبحرها ومينائها ووديانها.. كانت تمنحنا هذه المدينة كل شيء ولا تحتفظ لنفسها بشيء، كأنها تؤثر اليمن بأكملها على نفسها، رغم خصاصتها.. اليوم تغيرت بعض ملامح هذه المدينة، وصار بإمكانك أن ترى رجلاً أسمر يحمل بندقية، رغم الطيبة التي تشعُّ من وجهه، وكأنه يحملها مضطراً، إذ لا أحد يريد أن يتحول عقد الفل إلى حزام بندقية.. وكأن الاضطرار هو الذي يسيِّر حياتنا رغماً عنا؟ هذه المدينة بالذات لم أتوقع أن أدخلها ولا أجد الفل في استقبالي.. ولم أتوقع أن أجد أطفالاً في سن المراهقة يحملون بنادق ويتجوَّلون بها، بعد أن كان الفل بضاعتهم التي تجمِّل وجه الحياة..