"لا يبلغ الإنسان مرحلة التوافق الحقيقي مع ذاته إلا في تلك اللحظة التي لا يعود فيها مهتماً بآراء الآخرين تجاهه".. قد تكون هذه المقولة صائبة، إن قمنا باحتسابها على وصول الإنسان مرحلة متقدمة من الوعي بالذات، أو إن قمنا باحتسابها على وصوله مرحلة متقدمة من عدم الوعي بالذات أيضاً. الجنون واحد من هذه اللحظات التصالحية.. يتصرَّف المجانين بكل حرية، دون أن يلتفتوا إلى أحد، وكأنهم يريدون كسر القيود التي يحاصرهم بها المجتمع، ولا يهتمون بآراء الآخرين لأنهم لا يرون أحداً سواهم.. وحين يفعلون ما يريدون، لا ينزعج المجتمع تجاههم، لأنه يراهم مجانين، فيما هم الأقلية العاقلة، كما تصفهم غادة السمان. تحدثت غادة السمان في كتابها "السباحة في بحيرة الشيطان" عن محاسن المجانين، وتحدثت أيضاً عن الضابط الذي ألقى القنبلة فوق مدينة هيروشيما.. وذكَرت أن الصحف كتبت عن إصابة هذا الضابط بالجنون بعد شهر من الحادثة، حينما رأى الكوارث التي سبَّبها بإلقائه لتلك القنبلة، فتساءلت غادة: متى كان مجنوناً!! بالتأكيد كان مجنوناً حين قام بإلقاء القنبلة، وحين أصيب بالجنون بعد شهر من فعلته، فإن غادة السمان تفلسف ذلك بأنه عاد إلى عقله فقط، ولذلك وضعت لك التساؤل المحيِّر: متى كان مجنوناً!! الجنون هو اكتمال العقل، ولا يصاب به إلا أناس ذوو حساسية شديدة تجاه الواقع، وتجاه المجتمع، وتجاه الكون بشكل عام.. يتألمون لكل ما حولهم، ويبكون نيابة عن العالم بأكمله، لأنهم وصلوا إلى معارف فتحت لهم أبواباً واسعة نحو الحياة، فاختلف تعاملهم مع كل ما حولهم، وأصبحوا ينظرون إلى الأشياء بطريقة أخرى، نظراً لامتلاكهم المعرفة التي يتجاوزون بها كل الحُجُب.