في هذا المقام سنعرج على هذه الأبيات الشعرية في أغنية (عن ساكني صنعاء) ذات القصيدة الحمينية كلمات الشاعر والقاضي العلامة / عبد الرحمن بن يحيى الآنسي لنستخلص من هذا العمل الفني و اللحن البديع والرشيق (أهم خصائص ومميزات الفنان القمة المرشدي الملحن المتجدد والمتطور) منذ بدايته الأولى مروراً بمشواره الغنائي الزاخر والحافل بالعطاءات الإبداعية وبالتألق والمفاجآت.. البداية / المقدمة الموسيقية .. والإشتغال على خلق جمل لحنية نغمية مقامية وإيقاعية جديدة مبتكرة مغايرة عن ما كان سائداً حينها في ذلك الوقت فإذا أستمعنا للمقدمة الموسيقية جيداً وقمنا بتحليلها علمياً سندرك أنها لحنت على (مقام البيات على درجة الدوكاه) وأستخدم فيها إيقاع الشرح العدني (الثقيل 8/6) وكانت المفاجأة في (تراكيب جمل موسيقى صولوا العود) ، حيث أستخدم المرشدي (تكنيكاً عالي المستوى ورفيعاً) بطريقة (مضاعفة سرعة الريشة وزيادة الوحدات) إذ أن العود كان متناغماً بإنسجام بديع مع (الكمانات وبقية الآلات الوترية) في قوام الفرقة الموسيقية فأستطاع أن يخلق ويبتكر مقطوعة موسيقية فائقة الروعة والجمال ..
ثم يبدأ بعد ذلك التمهيد الموسيقي والغناء بطريقة حديثة جديدة نجد فيها (زخرفات ونمنمات هندسية معمارية مقامية نغمية وإيقاعية تتماهى وتتوحد مع روح وإحساس مدرسة (المرشدي) فلم يخضع لخصوصية وطبيعة النص الحميني المعروف والتقليدي الذي عادة ما كان يكتبه شاعر القصيدة الحمينية وعُرفت قصائده ملازمة ولصيقة بأهم الموشحات الصنعانية اليمنية ، لكن قدرة المرشدي الموسيقية الهائلة مكنته من الخروج من دائرة الصياغات الغنائية الموسيقية (الإحيائية) بإشتغال جاد مبتكر تمرد به من (تبعية) النص الغنائي الحميني وهيمنته على فرض أسلوب محدد ومعروف بصياغات لحنية وإيقاعية على النمط الغنائي التقليدي المتداول والسائد. فقد تجسد نجاح (مرشدنا) بتلك المقدمة الموسيقية الرائعة وفي الخروج والتمرد من قوالب التلحين بطريقة (الموشح اليمني الصنعاني التقليدي) التي فرضته وهيمنت عليه القصيدة الحمينية منذ زمن طويل جداً، والواقع أن رغبة ونزعة المرشدي بتطوير الغناء اليمني إلى أسلوب آخر جديد مكنه من التفوق والإجادة والإبداع بمهارة في تخطي تلك (المخاطرة الفنية الصعبة) وتألقه بنجاح هذا اللحن وأدائه العظيم في إحدى (تجلياته المدهشات) المتكئة على إشتغالاته الواعية، وبناءاته المعمارية اللحنية الموسيقية المترفة الثرية ،فإلى مذهب الأغنية التي صاغها من (مقام البيات على نغمة الدوكاه): عن ساكني صنعاء حديثك هات/ وافوج النسيم/ وخفف المسعى وقف/ كي يفهم القلب الكليم/ هل عهدنا يُرعى وما يرعى/ يرعى العهود إلا الكريم ..
ثم يزداد إبداعه تألقاً وروعة في الكوبليهات التي يقول فيها: تبدلوا عنا ؟! / وقالوا عندنا منهم بديل/ والله ما حلنا / ولا ملنا على العهد الأصيل/ ما بعدهم عنا يغيرنا / ولو طال الطويل/ بالله عليك يا ريح / أمانه أن تيسر لك رجوع / لمح لهم تلميح / بما شاهدت من فيض الدموع/ والشوق والتبريح/ والوجد الذي بين الضلوع ..
إن المرشدي حينما نسمعه يردد هذه الأبيات الشعرية مموسقة ملحنة بتنويعاته النغمية التعبيرية والتطريبية وبصوته الدافئ والشجي نشعر وكأنه يحترق لوعة وعشقاً وهياماً للوصول لمحبوبه الغائب، وفي الحقيقة نجح (أبوعلي) ببراعة وإقتدار في ترجمة أبيات ومفردات ومعاني قصيدة شاعرنا الكبير القاضي العلامة (عبد الرحمن بن يحيى الآنسي) وفي التعبير عن (مكنوناته ودواخله الشعورية) من خلال اللحن الجميل الذي أتحفنا به وبكثافة الأحاسيس والشوق والشجن الذي أمتزجت لتشكل مع صوته وحدة فنية متماسكة ونسيجاً رومانسياً عاطفياً عكس صورة ذلك الزمان الجميل بكل صدق وأمانة، ونحن لا نملك إلا تسليط الضوء صوب هذه الأغنية التي تعتبر نموذجاً ومثالاً لروائع أستاذنا الجليل الفنان محمد مرشد ناجي رحمه الله عليه ودوره الريادي وخدمته لتطوير الغناء اليمني ..
فهي بقيمتها الموسيقية والغنائية من وجهة نظري علامة بارزة وبصمة هامة أضيفت إلى رصيده الغنائي الموسيقي المشرق والمشرف ورفدت مع عطاءاته الغنائية الموسيقية بثراء دافق مسار الغناء اليمني وإستمراريته وتألقه نحو الأفضل والأجمل.