من صفاء الواقع، و ذكريات الروح، تتجلى صورها كل حين، وفي كل صباح وليد، مع عبق السحر، وجمال الشمس ودفئها، في اشراقة جميله، وروح طيبة، تضئ صباح المخضبة، المكان والزمان بهاء ، فتطيب لها القلوب، في تراتيل صوتها العذب ،حين تشدو بها ربابة ثغرها الباسم ،من الحكايات والعبر. في كل مرة، تأتي إلى البيت، كمطر يبل الأرض حنانا وسعادة، مثل رياحين الفل والياسمين،فكنت اطرب واستمتع لحديثها، وهي تتحدث بلكنتها الريفية المميزة الجميلة، وطريقة وصفها في الكلام.. وأمثالها الشعبية، وهي تقذف بها أثناء حديثها معنا.. مثل تلك الهدايا التى عودتنا عليها، عند زيارة أقاربها في ( لحج) الكعك القرمش ..والحلوى المضروب..
صباح..هي امرأة عاديه .. لكنها تختلف عن نساء اهل الحارة ،عندها من قوة الشخصية وخفة الظل ،والروح المرحة، فهي تضفي جو من المرح والبهجة ، قلب طيب فيه من الحب والصفاء، فهي مثل السهم يخرق كل من حولها... وفي احيان كثيرة، كنت أجدها في بيتنا وان كانت، هي دائما حاضرها ،في كل بيت في الحارة، مثل النحلة التى تنساب من زهرة إلى أخرى فيطيب لنا رحيق عسلها ... فهي انسانة متواضعة، وطيبة،ورقيقة القلب والمشاعر، اختارت لنفسها مهنة (المخضبة ) وهي مهنة مشهورة في عدن وكثير من النساء في عدن من يمتهن ذلك وهي مهنة نسوية قديمة اشتهرت في عدن وضواحيها، وصباح تسعى في هذه المهنة لسد حاجتها، في ظل حياة صعبة وقاسية، بعد ان مات زوجها، وتركها وحيدة مع طفلين صغيرين، في بيت صغير يكاد يأويها ،في كنف حارة الصباغين المتفرع من احياء مدينة الشيخ عثمان .. والخضاب ،فهو مكون طبيعي، من الحجر الاسود الجير، يضاف إليه قليل من الماء، فيصبح مثل الحبر الأسود يرسم على الجسد ،خاصة أيادي وانامل الفتيات ،فيظهر جمال وانوثة المرأة..، كنت أشاهدها جالسة على متكئ صغير، في زاوية الغرفة، وهي تنقش الخضاب الأسود، والبنات يلتفن حولها، بجو من البهجة والفرح، غيد حسان يتمايلن غنج ودلال ، وزهور بيضاء تلبس ألوان زاهية في بداية اشراقتها، وكل واحده منهن ،تختار الرسم الذي سينقش، على اناملهن وايديهن البيضاء الناعمة.. فتقذق صباح كعادتها بطرفة او حكاية، قد تكون مررره على مسامعنا كثيرا، الا ان حين نسمعها من صباح لها وقع اخر، كسجع قصيدة تتلوه أول مرة .. فتلهب بها قلوب العذارى من حولها.. فتلألأ صباح وتضئ المكان، وهي تمطر الكلمات، بالاحداث والصور الجميلة.. حتى تندى لها العواطف،فتخشع لها قلوب، قبل الأذان، فتصيغ الجمل والعبارات بلغتها الريفية الجميلة، انها مثل ذلك الوميض الذي يوقد في السبات ... ولان السنوات تمضي كعقارب الساعة، لا تتوقف، لمن عاتى في هذا الدهر صبابة ،وغرد فاها الباسم نشيد الحب زمان، فعلى الشيب رأسها، واحدودب ضهرها وبح صوتها،وملى التجاعيد جبينها،وبان بياض عينيها حتى ضعف بصرها.. فكنت كلما دخلت عليها زيارة، ترنو الي بنظرة المودع، ثم تتوارى خلف حديث الذكريات وخبايا الجيران واهل الحارة،بعد ان ملئ الهموم قلبها،وهي تنتظر مصيرها المجهول بعد أن أدارت لها الدنيا ظهرها. كان يوم عابس حين أتى النهار بغمام هائم فتوقفت حركة الزمن ونبضات الحي في الحارة ، فجثم الليل ظلام اسود كغراب ينعق خراب تهادئ ،فأختفت،كما اختفى زهاء الشمس معها، عن حارتنا، فتاهت البسمة معها وجف رحيقها العطر،وحديثها البلسم الناعم وندبت العذارى حظها ، وندت العيون حزنا.. ودموع جاثمة،على صباح المخضبة..