مع بدء أعمال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، لا مفرّ من الاعتراف قبل كلّ شيء بأنّ مجرد انعقاد المؤتمر انجاز بحد ذاته. فقد راهن كثيرون، كلّ لأسبابه، على ان افتتاح المؤتمر سينتقل من تأجيل إلى آخر وأن الأمور ستُميّع فيما البلد يغرق أكثر فاكثر في أزماته ومشاكله العديدة. ولا شكّ أن الرئيس عبدربه منصور هادي لعب دورا حاسما في جعل المؤتمر ينعقد في الموعد المحدد له. كان إصرار الرجل على الموعد في غاية الاهمية، نظرا إلى إدراكه أنّ أي تأجيل سيؤدي إلى تأجيل آخر وإلى متاهات لا يمكن التكهن بما تخبئه لليمن. ولا شكّ ايضا ان جهود الدكتور عبدالكريم الارياني، رئيس لجنة الحوار الوطني، ساعدت كثيرا في جعل المؤتمر ينعقد. فالارياني بما يمتلك من خبرة سياسية تتجاوز حدود اليمن يعرف اكثر من غيره ان هناك اصرارا دوليا واقليميا على بدء الحوار نظرا ان ليس في استطاعة اي طرف دولي او اقليمي، خصوصا دول الخليج العربية، السماح بانفلات الوضع اليمني وخروجه من تحت حد ادنى من السيطرة. ومن هذا المنطلق، كان افتتاح المؤتمر رسالة في اكثر من اتجاه بعدما تبيّن أنّ الحوار اليمني-اليمني رغبة دولية واقليمية. تبيّن خصوصا أنّ لا خيار آخر امام اليمنيين سوى السعي الى اخراج بلدهم من ازماته عن طريق تبادل الافكار في قاعات مغلقة والتوصل الى حلول وسط تأخذ في الاعتبار الحاجة الى صيغة جديدة تحافظ على اليمن. وربما كان اهم ما في المؤتمر أنه لا سقف للنقاش الدائر في اطاره. يمكن لايّ طرف طرح ما يشاء، بما في ذلك الانفصال. كما يمكن لايّ طرف الدفاع عن الدولة المركزية التي تدار من صنعاء، علما بأنّ الاحداث الاخيرة والتطورات على الارض جعلت هذه الصيغة من الماضي. بين العودة الى صيغة الشطرين، اي الدولتين المستقلتين، والانفصال، هناك صيغ اخرى تصلح لليمن. المهمّ ان تستفيد اي صيغة من الصيغ التي تخضع للمناقشة من الاخطاء التي حصلت في الماضي، اكان ذلك في مرحلة ما بعد اعلان الوحدة اوفي تلك التي سبقتها، او على الاصحّ التي ادت اليها. ولا يمكن تجاهل أنّ ظلما لحق بالجنوبيين في مرحلة ما بعد الوحدة، خصوصا بعد حرب صيف العام 1994 التي اخرجت الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكم الجنوب من السلطة كلّيا. حصلت تجاوزات لا يمكن تبريرها بأي شكل وذلك على الرغم من المساعي التي بذلها الرئيس، وقتذاك، علي عبدالله صالح والتي استهدفت اصلاح ما يمكن اصلاحه عن طريق المكوث لفترات طويلة في عدن وغير عدن. لم تؤد جهوده سوى الى نتائج محدودة في ضوء اصرار مراكز القوى، من اسلاميين وضباط كبار وبعض المحيطين به، على الذهاب بعيدا في نهب الجنوب واستباحته والاستيلاء على اراض في مناطق معينة، خصوصا عدن وحضرموت. وكانت تصرفات بعض الجهات المحسوبة بطريقة او باخرى على علي عبدالله صالح او حزب الاصلاح كفيلة باثارة كلّ انواع المخاوف في المحافظات الجنوبية والشرقية. الا أنّه يفترض بذلك الاّ يمنع المنادين بالانفصال من التمتع بحدّ ادنى من العقلانية والعودة بالذاكرة الى خلف والاعتراف بان دولة الجنوب التي استقلت في العام 1967، كانت مسرحا لسلسلة من الحروب الاهلية قضت على مئات الشخصيات الوطنية وآلاف المواطنين. لم تتوقف هذه الحروب التي توجت باحداث 13 يناير 1986، الا مع اعلان الوحدة في مايو 1990. فليس صحيحا ان الجنوب كان دولة مثالية، خصوصا بعدما اضاع الذين حكموه كلّ فرصة كان يمكن ان تسمح بالبناء على البنية التحتية والقوانين العصرية الموروثة عن الاستعمار البريطاني الذي حول عدن وميناءها الى ما يشبه الجنة. وثمة حاجة الى الاستفادة من درس الجنوب والتوقف عن كلام لا معنى له عن انه كانت هناك دولة قانون في "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية". كانت هناك سلطة تسمح لنفسها باسم القانون بارتكاب كلّ انواع الفظاعات، بما في ذلك تنفيذ اعدامات في حق شخصيات سياسية معينة باسم القانون! وهذا ليس وقت اعادة فتح ملفات دولة الجنوب والدور التخريبي الذي لعبه الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، الذي اراد ايجاد موطئ قدم له في شبه الجزيرة العربية غير بعيد عن حقول النفط. ولكن ما لا بدّ من الاشارة اليه اوّلا ان طبيعة المجتمع في المحافظات الجنوبية تغيرّت. عدن اليوم لا علاقة لها بعدن الماضي حين كانت المدينة منفتحة على العالم وكانت مثلا يحتذى به من ناحية الرقيّ والحياة المدنية. مشكلة اليمن الآن تتجاوز الجنوب. هناك الازمة الاقتصادية المستشرية وهناك ازمة المياه والمجاري وهناك ازمة الحوثيين الذين باتوا يسيطرون على جزء من الشمال وهناك مشاكل مرتبطة بتعز والمنطقة الوسطى عموما. وهناك، اخيرا وليس آخرا، مشكلة الارهاب و"القاعدة"... والقات! وباختصار، هناك مشاكل لا تنتهي، من بينها الصراع الدائر داخل اسوار صنعاء وطموحات الاخوان المسلمين وتغييب "شباب الثورة" عن القرار. والحوار الوطني مناسبة للبحث في هذه المشاكل التي يحتاج كلّ منها الى مؤتمر. الحوار الوطني يمكن ان يرسم الطريق الى مخارج تصبّ في البحث عن صيغة جديدة للبلد، صيغة بديلة من التفتيت الذي يمكن ان يطال الشمال مثلما يمكن ان يبلغ الجنوب...مرورا بالوسط. ويظل السؤال في النهاية: هل هناك بديل من الحوار، خصوصا انه يمثل الفرصة الوحيدة لهبوط درجة التوتر السائد في كل الاوساط اليمنية، وهو توتر لا يمكن ان يقود سوى الى انفجار؟