على مشارف العشرين من عمره كان "وسيم فيصل" ينزف دما، ولا يزال قلبه ينبض، عندما عثر عليه أباه مصابا بطلق ناري في رأسه، أطلقه قناص تابع لجماعة الحوثي يتمركز على قصر صالة بمدينة تعز.. ظهراً نفذ جريمته بالشاب الغض ذو التسعة عشر ربيعا، ساعة تناول وجبة الغداء.. حاولوا إسعافه فشلت كل مساعي إنقاذه.. تسع ساعات ظلت الجثة في غرفة ينتحب الجميع حولها، عجزوا حتى عن دفنها.. في المساء تحت جنح الظلام نقلوا جميعهم الجثة خلسة من القناص، دفنوها على عجل في مقبرة قريبة.. سيكون جميع أفراد الأسرة هنا ما عدا "وسيم" شعروا باختفائه، بحثوا عنه، وبعد فترة ليست طويلة وجدوه ملقيا في أطراف الحي.. رصاصة قناص اخترقت صدغه الأيسر ظل ينزف طويلا، حاولوا إسعافه فشلت كل مساعي إنقاذه.. بينما كان الجميع يغسلون أيديهم لتناول وجبتهم، كان القناص يجفف يده من انجاز مهمته بعناية فائقة؛ اشبع جوعه للقتل، أجهز على ضحية جديدة لصالح مشروعة اللاإنساني، اللاحياتي، اللاوجودي، لقد أغرق ضحيته ببركة دم.. القلب المكسور يد أخي الطبيب الذي ظل يعمل نحو ثلاثة عقود في إنقاذ وتطبيب المرضى ارتعشت طويلا، وهو يراقب ابنه يفارق الحياة تدريجيا بين يديه، وفي عينيه نظرة مميتة، صار في قبضة إحساس الأب الطيب لكنه الطبيب المهمل، مكسور القلب.. أمام أمه وأخواته انتزعت روح "وسيم" كما تنزع الخواتم من أصابع القتلى، تحولت اللحظة إلي معجماً إنسانياً كاملاً من الحزن.. يضفي الحزن إحساسا دائما بالعبور إلي المجهول والأسرة تتحلق حول جثة ابنها يطفو جسده كقطعة فلين؛ لكنه في قلوبهم كجمر.. معادلة الوجع تقريبا تعادلت كل المشاعر في هذه اللحظة لشدة الوجع، يصرخون يصعب عليهم إيجاد طريق إلي أقرب المشافي، أغلب مستشفيات المدينة أغلقتها الحرب.. الطرق مجزئه بفعل ألغام زرعتها المليشيا، انتشار القناصة في أرجاء حي صالة والأحياء المجاورة يشكل رعب مضاعف.. تسع ساعات ظلت الجثة في غرفة ينتحب الجميع حولها، عجزوا حتى عن دفنها.. في المساء تحت جنح الظلام نقلوا جميعهم الجثة خلسة من القناص، دفنوها على عجل في مقبرة قريبة.. تشتت العائلة بقاء أخي وأسرته في هذا الحي هو ما يثير التساؤل وفي هذه اللحظات من الحرب، في الحقيقة تشتت عائلتنا كل مشتت.. وبعد أن كانت أربعة منازل تضمهم جميعا في حارة واحدة، ولا أحد يتوقع أن يطالهم الحرب، تفرقوا بفعل القتال الذي طال الحي وبين كل منهم ساحات من المعارك والقذائف التي لا تتوقف.. ذهب اثنان من إخوتي إلي مديرية خدير ترافقهم أختي الصغرى وأطفالها هناك شرق المحافظة، أختي الأخرى في شمال المدينة مع زوجها وأسرتها.. خسارة فادحة بعيدا عن تقدير المخاطر، وحيدا ظل أخي الأكبر الطبيب المسالم "فيصل" وأبنائه وبناته في منزل عمه والد زوجته في مكان اعتقدوا انه آمن، لم يفكر بالنقل أو السفر خوفا من وطأة أعباء الحياة المتوحشة على كاهله.. مع فقدان أحد أبنائه بدأ يبحث عن وجهة جديدة لرحلة لطالما أنهكت مئات الآلاف من الأسر في مدينة منكوبة، توزعت أهلها الحرب وصار كل في طريق واتجاه، بعد أن سحبتهم الحرب الملعونة إلي جوفها الملتهب من انخرطوا في الأعمال العسكرية أو من ظلوا مدنيين، تدريجيا شكلت خسارتنا الفادحة، أسرة، ومدينة، ووطن.