بغداد يا طاهرتي يا جرح الزمان، ويا وجع القلب، ويا نشيج الصدر، ويا غصة الحلق.. ويا دمع المآقي أجل يا أنت يا بغداد .. لله حزنك يا ابنة العم، ولله أنت من ماجدة .. أعجزْتِ الصبر وأتعبْتِ الرحيل.. يا ابنة المنصور.. يشجيني حزنك يا غاليتي.. ويعذبني عناؤك.. وأكاد أسمع دمع القلب ينطف دماً وأنت مكابرة ومصابرة .. تنكّر لك الأقارب والأباعد ولم تتطلبين إشفاق أحد منهم.. ولا تلفّتّ يمنة ولا يسرة بل رفعت كفيك إلى رب السموات والأرض وقلت بلسان الحال والمقال معاً: اللهم اكفني شر وظلم أولي القربى، أما الأباعد من أعدائي فأنا كفيل بهم، بعونك يا ناصر المستضعفين!!. ولأن الله قد كتب في لوحه المحفوظ منذ الأزل أن مقامك الأسنى يستوجب تصبرك على بلاء الأقارب والأباعد معاً وتحمل أذاهم؛ ولأنك قد علمت ذلك من حضرة الحق، حق العلم ومن تجارب الزمان يا ابنة المنصور فلم يرُعْك الرّوع، ولا هالك ما حشد أعراب كاظمة ونجد والحجاز لك ذات يوم ولا انتابك القنوط والدنيا كلها تجتمع لتجهز عليك. كنتِ شامخة بالله صامدة بالله قوية مصابرة.. وانتحر على أسوارك المغول كما حدّث سيدك المنصور.. يا ابنة المنصور حشدت الدنيا مددها ذات يوم لجيش تحرير فيتنام خمسة عشر عاماً، ووقف معهم الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلم يبق في المواجهة إلا أمريكا وربيبتها اسرائيل، ونظام الحكم العنصري في جنوب إفريقيا حينذاك، وما لا يذكر من تابعي أمريكا الأذلاء في أمريكا اللاتينية. وخمسة عشر عاماً كاملة مرت قبل أن يطلق هذا الجيش الفيتنامي الذي اجتمع لنصرته العالم كله أول طلقة في وجه الغزو الأمريكي على أرض فيتنام. أما أنت يا ابنة العروبة والإسلام فلم تمهلين الغزو ساعة واحدة، ولم تتركيه يحط رحاله على ثراك حتى أفرغت في جوفه غضبك، وكان الأشقياء من بني العمومة ومن غيرهم يتملون المشهد عبر شاشاتهم المصورة.. ينتظرون صرخة استسلام تعلن نهاية المقاومة وبداية الإذعان والرضوخ فلم يسمعوا إلا صرخات استغاثة سادتهم المغول وبكاءهم وظللت يا غاليتي.. أكبر من الحزن وأعظم من الجرح وأجلّ من ترقرق الدمع من مقلتيك اللامعتين كالأنجم الزهر. أجل وقف الشرق والغرب والشمال والجنوب مع فيتنام وفقط بعد خمسة عشر عاماً فجر جيشها أول طلقة.. ووقف العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه في صف المواجهة لك، وكنت وحدك يا ابنة العم فلم تمهلي الغزاة ومن فرح بهم وواساهم وسكت عنهم عشية ولا ضحاها.. كنت بغداد المنصورة وابنة المنصور. واتسع الجرح وتعاظم الألم.. وتعملقتِ للخطوب يا ابنة المنصور، وارتفع ثمن العز فلم تترددي في دفعه.. تساقط ويتساقط بنوك بين يديك.. وأنت ثابتة الجنان لم تذرفي دمعة ولا بعض دمعة.. حاصرك الجار والقريب، منعوك حتى كسرة الخبز، فلم تأبهي ولم تحقدي ولم تعتبي كأنك يا جبل الكبرياء قد أوجبت أنت عليهم حرمانك كي تكافئيهم بالإحسان مع كل إساءة وتقصير وحرمان، فما أعظمك يا تاج الفخار الذي لا يزول.. وسبحان خالقك يا ابنة المنصور. حتى نحن محبوك منعونا يا ابنة العم من أن نشاطرك صيحة فرح بنصر أو نواسيك بدمعة نذرفها على رؤوس الأشهاد لنعلن بها براءتنا منهم ولتسيل هذه العبرات شلالات حزن تلعنهم حيث وقعت .. وتصفع وجوههم الكالحة المستعبدة الخانعة الذليلة لجنود هولاكو ومجوس كسرى. يا ابنة المنصور.. نبيلٌ حزنِك يا غاليتي، وأعلم أن الصبر قد شبع صبراً من صبرك، وأعلم أنك تغالبين الدمع ولو تفجر دمعك لسال أنهاراً يغرق فيها نهراك العظيمان فيصبح فراتيهما ملحاً أجاجا.. ولكنك تكابرين. يا ابنة المنصور.. يمزقني الأسى حزناً عليك يا ابنة العم.. ويا رمز عزي ومجدي وكبريائي.. يا مهرة العشق الخالد لموروث القيم التي حفظها أجدادي وأجدادك وحملوها للعالم ذات يوم فأشرقت بها الدنيا وكانت قبلها ظلاما. لست أدري يا غاليتي كيف أواسيك، أم كيف أقاسمك الحزن، وأي حزن هو حزنك الذي حمِّلتِ يا بغداد.؟!. ويحك أيها الزمان، وهل أبقيت من أسفار الحزن شيئاً يمكن أن يحمله سواها بعد..؟!. يا مهرة الأحزان والأشجان، ويا شجرة الكرامة الباسقة.. أين أنت مني..؟ وأين أنا من بغداد؟!. بعد أن منعني المجوس وعبّاد الصليب من العبور إليها. إيه يا بغداد الحبيبة..!!. الذين جاءوا من أبناء العمومة متأخرين قليلاً، وبعد أن رأوك تقاومين بغير توانٍ ولا قنوط ولا خور.. وكانوا يتمنونك غير ذلك، ويخيلون لأنفسهم أنك ساقطة لا محالة، وكلفوا أنفسهم يوم رؤياهم سقوطك أن يهيلوا عليك الثرى ويفرقعون؛ معلنين عرس البداية.. حينما الأمر سار على نحو آخر.. كان لابد أن يهرعوا كي يضعوا أيديهم على الزناد الذي تطلقينه على الأعداء، وحتى لا تكتبين البدايات والنهايات معاً لوحدك كما أرادها الله لك.. وأرادوا أن ينازعوك الشرف ويقاسموك المجد والثبات. وحين جاءوا حملوا معهم آلات تصوير حديثة، وأتوك ليلتقطون لأنفسهم صوراً تذكارية تخلدهم في ربوعك.. وكتبوا بجانبهم أسماءهم الكبيرة، معلنين للدنيا أنهم مروا من هنا وفجروا هنا مركبة وهناك جسراً وتفجروا هناك، فماتوا!!. وكعادتك كنت الكبيرة يا بغداد.. تنظرين إليهم بإشفاق وبتسامٍ كأنك تقولين لهم: أين كنتم يا صغاري منذ عقود، ما الذي حفظتموه لي أو لأنفسكم من تاريخ الجهاد والمقاومة والصبر.. ؟!. أين كنتم في حرب المجوس وحروب الردة.. أين غبتم يوم جاءت جيوش الثلاثين دولة أو يزيدون؛ يرفدهم كل العالم المسلوب الإرادة الفاقد القدرة على الفعل الكريم؟!. أين أنتم من جهد وصبر ومعاناة مرت بي ولم تكن تعلم فيه يميني ما تفعله شمالي، وهكذا أنا الآن أيها الصغار القادمون، ولا استقرت عيني في موضع نبلي ولا حيث أفرغت طلقاتي ولا علمْتُ ولا أعلمتُ غيري من أنا وماذا فعلتُ أو ماذا يُفْعل بي؟. أين أنتم من كل هذا حتى تملأون الأرض بصراخكم مع كل طلقة أو مقذوفة.. أترون أن عملكم هذا يا صغاري عمل من آمن بالله واليوم الآخر، أم عمل مراءٍِ لا يؤمن بيوم الحساب؟. أجل قلتِ لهم ذلك يا بغداد.. وقلتِ لهم مهلاً أيها الصغار ولكنهم لايزالون يلتقطون الصور ويكتبون الأسماء ويقتلون من ينازعهم الأمر، فسبحان الله الذي منحك كل هذا العلم والحلم. بغداد يا غاليتي نصرُك ِقريب، فلا تأسي ولا تحزني.. واستبقي لنا من صبرك بعض الصبر كي ننتظر النصر معك يا ابنة المنصور فنكون معك يوم فرحتك الكبرى أحبابك.. يا كل الحب والشوق والوداد.. يا حبيبة الله وحبيبة أوليائه.. وصالحي المؤمنين.