أتى العيد ومرت أيامه بصمت كما تمر أيام الحياة التي تنفرط كحبات العقد الثمين واحدة تلو الأخرى وغاصت النفوس بأيامه بين بهجة العيد وهموم ما بعد العيد ودارت الأيام وغادرنا العيد ملوحاً بيديه ساكباً بفناجين الزمن القادم حياة أخرى اعتدنا عليها مسبقاً وفارقناها مؤقتاً ثم عادت المياه إلى مجاريها. فعاد الرجل لعمله يشكو (طَفَر) جيبه، يُقلّب همومه على نار الحياة الهادئة وينتظر آخر الشهر حتى يبسط يده لأمين الصندوق. أما المرأة فقد تكون كما يقولون الرابح الوحيد بالعيد؛ كونها تحصل على (عسب) العيد وتهرول إلى السوق لصرفها أو قد تكون كما كانت قبل العيد ولاشيء جديد، فهي إما بالمطبخ أو منهمكة في القيام بواجبات البيت والأسرة. وأما الأطفال الأكثر فرحاً بالعيد وحزناً على فراقه فهم ذو قلوب تُشرق ببهجة العيد وتغرب برحيله وعودتهم إلى فصول الدراسة بعد غياب. هكذا نحن وهكذا عجلة الحياة تدور، يأتي العيد بعد طول انتظار وحساب ثم يغادرنا راحلاً ونحن غافلون عن معاقل الفرحة الحقيقية، ننظر إلى جوانب الدنيا الفانية بعيداً عن جوانب الدنيا الباقية. لا نتذكر من العيد إلا (طعم اللحم) و(سعر القات) ومصاريف السفر إن سافر البعض لأماكن أخرى وننسى أننا نزرع البسمة في وجه أطفالنا ونصل الأرحام ونطوي صفحات كانت مسودة إلى ما قبل العيد وجاء العيد ليغسلها بماء التسامح فتذوب كل ثلوج البغضاء بين الأهل والخلان. العيد هو اجتماع البشر على موائد الحب, ورضا الرحمن لن نلمسه إلا عندما نشعر بأننا جميعاً من أب وأم واحدة نتقاسم الفرح والترح معاً. وهذه هي مكاسبه تغرس في حياتنا أروع صور الإخاء والمحبة بعدما وجدنا حجاج بيت الله مجتمعين على صعيد عرفة الطاهر يرفعون الأيادي بأصوات الدعاء لأهليهم وذويهم، ثم وجدنا أهالينا تحتفي بهم جدران القلوب حينما يصلون الرحم فتنطق بعد صمت «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» رواه البخاري. ورغم وجود الأسى والحزن في بعض الحالات إلا أن للعيد وجهه المألوف الذي لن يتبدل ولن يتغير فصديقتي سمر رغم وفاة والدها رحمه الله قبل العيد بأيام إلا أنها أصرت على تلوين بسمات أفراد أسرتها بألوان زاهية وأشعرتهم أن من رحل عنهم جسداً لن يرحل روحاً وستحتفي روحه معهم بالعيد فنقشت على جبين الحَزَن فرحة العيد رغم الحزَن، ولم يمنع أفراد أسرتها الحزن على فراق رب الأسرة عن صلة أرحامهم ونشر فراشات العيد بأروقة الحياة، وانتهى العيد وعادت الحياة كما كانت ولكن بفرق واحد هو رحيل والدها ولامستها محبة ورضا الله التي ترجمتها برضا الأهل وحُب الناس لها. هذه هي المكاسب الحقيقية للعيد والتي يغفل عنها الجميع ويهتمون بمكاسب أخرى وهموم مؤجلة. ويبقى في الأخير وبعد كل شيء أن نتذكر أن الحياة عجلة تدور بأيام من عمرنا, وسنعود يوماً ما لنفس النقطة، فهل يأتي العيد مرة أخرى ونحن نعي أكثر ماهية العيد؟! أم سيكون وكما يقول المثل الشعبي «وعادت حليمة لعادتها القديمة»؟!.