أية قوات مسلحة تتعدد في صفوفها الولاءات الضيقة لمناصرة اشخاص أو جهات حاكمة لا تستطيع أن تحمي وطنها ولا تصون سيادته مهما كانت قوتها، وإنما تكون النتيجة تدمير الوطن بكامله، وهذا ما يحدث في كثير من الدول المتخلفة بعكس الدول المتحضرة التي تبنى فيها الجيوش العسكرية على أسس استراتيجية وطنية خالصة يتم من خلالها الولاء للوطن أولاً وأخيراً ولا تتدخل في شؤون الحكم، لأن ذلك مناط بالسياسيين وحتى لو حدثت بينهم خلافات فإن القوات المسلحة تبقى محايدة ولا تقحم نفسها في الصراع السياسي.. لكن في الدول المتخلفة وفي مقدمتها الدول العربية الجيوش فيها تبنى على أساس الولاء الشخصي للحاكم، وعقيدتها تتمثل في الدفاع عن النظام مهما كان سيئاً.. وحينما تحدث الخلافات بين أقطاب النظام ينشق الجيش على نفسه ويحترب فيما بينه مناصرة لتلك الجهة أو تلك، وينعكس هذا الموقف سلباً على الشعب الذي يقوم هو الآخر بدور يساعد على تغذية هذا الانقسام من خلال تعدد مواقفه المناصرة بحسب الجهة السياسية التي يميل إليها فينتج عن ذلك تفتت البلد أرضاً وإنساناً ويندلع الاقتتال كما هو حادث حالياً في الصومال، حيث اختفت الدولة نهائياً منذ عشرين عاماً، وحلّت محلها دويلات تكتسب أنصارها من الجيش والشعب يقودها أمراء الحرب ولا يهمهم إلا كيف ينتصرون لأنفسهم وخدمة مصالحهم الذاتية على حساب شعب ووطن بأكمله. ربما قد نجد حالات نادرة جداً في الدول العربية التي لا تزال الجيوش فيها تؤمن بعقيدتها القتالية الوطنية وتأبى أن تقحم نفسها في الصراع السياسي بين الحكام وترفض استغلالها لمناصرتهم إدراكاً منها بأنها بنيت للدفاع عن سيادة الوطن وحمايته من أعدائه لا سيما تلك الجيوش العريقة التي تشبعت أفكارها وتجاربها الماضية من شعورها بانتمائها الوطني لا الأسري.. وما حدث بداية العام الماضي 2011م في تونس ومصر أكبر دليل على انحياز الجيش التونسي والمصري إلى الشعب والوطن فسرّع موقفهما الوطني بحسم الثورة الشبابية في هذين البلدين التي أسقطت نظامين عتيدين حاول كل منهما أن يعد مشروعاً لتوريث الحكم فيهما ومصادرة وإلغاء إرادة الشعب صاحب الحق في السلطة ومصدرها. وبفضل انحياز الجيشين في تونس ومصر إلى الوطن استطاع الشعبان فيهما أن يرسيا حجر الأساس لبناء دولة مدنية حديثة يعيش في ظل رايتها المواطنون متساوين يسودها العدل والحكم الرشيد، ويظل الشعب فيها هو السيد ورقيباً على حكامه بعد أن توضع دساتير يتم من خلالها تحديد فترة الرئاسة وإرساء مبدأ التداول السلمي للسلطة أسوة بالدول المتقدمة.. وبهذا الموقف الوطني من قبل الجيشين في تونس ومصر جنبا بلديهما إراقة الدماء والاقتتال الذي كان سيحدث لوا أنهما وقفا يناصران الحكام ويدافعان عن نظاميهما الفاسدين، وهو ما يؤكد قمة الوعي الذي وصلت إليه العقلية العسكرية في تونس ومصر.. لكن ما حدث في ليبيا ويحدث حالياً في سورية واليمن كون الجيوش في هذه البلدان قد بنيت على أساس أسري للدفاع عن النظام، وجردت من عقيدتها القتالية الوطنية فقد طال حسم الثورة في هذه البلدان الثلاثة وأريقت فيها الدماء المحرمة، ودفع الشعب الليبي الثمن الأكبر، حيث تؤكد التقارير أن الشهداء في ليبيا قد ارتفع عددهم إلى أكثر من خمسين ألف شهيد حتى لحظة إسقاط نظام القذافي، أما الجرحى فحدث ولا حرج.. وفي سورية لا تزال الدماء المحرمة تنزف يومياً على أيدي أزلام النظام ووصل الشهداء والجرحى والمعتقلون بالآلاف لأن الجيش السوري إذا ما استثنينا منه بعض المنشقين لمناصرة الثورة ولاؤه للنظام وليس للوطن، بدليل أن مرتفعات الجولان المحتلة من قبل العدو الصهيوني لم يحرر منها شبر واحد منذ احتلالها في 5 يونيو عام 1967م في وقت يدعي فيه نظام بشار الأسد أنه نظام ممانعة ومقاومة، وربما قد انطلت على الجيش العربي السوري خدعة نظرية المؤامرة التي يشيعها إعلام النظام السوري والإعلام المناصر له. أيضاً ما يحدث في اليمن من انقسام وإطالة في حسم الأمور من قبل الثوار، وتدخل الخارج نيابة عن اليمنيين ليفرض عليهم الحلول.. كل ذلك سبب تعدد الولاءات داخل الجيش اليمني الذي لم نعهده في حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلا أنه كان جيشاً وطنياً حراً ولاؤه لله والوطن والدفاع عن قضاياه، لكن مع الأسف جاء بعد ذلك من غيّر في عقيدة الجيش اليمني الوطنية لتتحول إلى عقيدة للدفاع عن النظام، فغلب الولاء الأسري على الولاء الوطني، وكانت النتيجة ما يعانيه الشعب اليمني اليوم ولكن فرج الله قريب.