لم يجمع اليمنيون على شيء مثلما أجمعوا على خيار الوحدة في تسعين ومثلما أجمعوا اليوم على خيار إسقاط النظام تجلى ذلك بشكل واضح من جمعهم واحتشادهم في تعز يوم 11 فبراير الماضي. من حضر يدرك أنه من الصعب, لا بل من المستحيل أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء, ومن يفكر باعتلاء كرسي العرش يحتاج للتفكير مليون مرة في هذا الأمر، تماماً كما احتاج النظام للندم ولعن الذات مليون مرة على سوء تدبيره وتفريطه بشئون البلاد والعباد. يبكي المرء أو يكاد وهو يرى تلك الكتل البشرية الضخمة, وهي تشق طريق الفجر القادم، وترسم مشاريع الغد الآتي، مخلفة وراءها ماضياً من التخلف والاستبداد، ومسدلة الستار على أسوأ مراحل التاريخ اليمني المعاصر وربما القديم. كان العدد يفوق الخيال، وفوق منتهى الحدود والتصور، وككرة الثلج الكبيرة تزايد العدد حتى قدرته وسائل إعلام معروفة بحياديتها وموضوعيتها بنحو مليوني متظاهر هذا الحشد أشبه ما يكون باستفتاء شعبي معلن بانتهاء عهد غير مأسوف عليه، وبداية عهد جديد، نكاد نلامسه.. لقد عانق الجميع هنا المجد أو عانقهم وقبلوا خيوط الشمس أو قبّلتهم. انتفضت تعز إذاً انتفضت عن بكرة أبيها، معلنة انتهاء حكم العائلة إلى الأبد، وكيف لها ألّا تنتفض وتخرج عن زوايا صمتها المريع، وقد رماها نظام الحكم في مكان قصيّ من الإهمال والتهميش، بعد أن كانت قبلة الثقافة والمدنية والحب والسلام!؟ حقاً تعز كانت ومازالت أيقونة الثورة وملهمة الجماهير، ولقد حرّضت، فيما مضى من أيامها الثورية ومشاهدها الإبداعية، كل ما فينا من شجن نحو الدولة المدنية الحديثة، دولة المؤسسات والقانون الذي يتساوى أمامه الجميع. يوم الحادي عشر من فبراير الماضي وددت لو كانت الإنسانية جمعاء في حضن شارع جمال يقبسون نوراً من إلهامه ويذوقون طعماً للحرية بذوق يمني فريد، ويأخذون درساً بالتأكيد لن ينسوه في الحرية والإباء. لقد كسرت هذه الثورة أول ما كسرت حاجز الخوف الذي لُفّت خيوطه المهترئة والمتوهمة على الأعناق زمناً غير يسير، وتلك إيجابية لو لم يكن غيرها لكفتنا إنجازاً ومؤنة في درب السنا والنور! شرعت تعز اليوم، تنفض عن جسدها الطاهر النقي غبار سني التجاهل والحرمان والبؤس والشقاء، لتبدي لكل العشاق كل ألقها ومفاتنها الغائبة قهراً تحت سني حنظل سلطوي غاشم، حتى من أولئك الذين غذتهم بلبنها كؤوساً مترعة بالحب والدلال، وكان عليهم أن يردوا الجميل بالجميل، لكنهم أبوا إلا أن يكونوا بوماً مشئومة، تقف بلا خجل فوق أطلال مدينتهم الحزينة، يشاهدون ما حل بها من دمار وما لحقها من خراب! واليوم، غير خجلين، يتحدثون عن مجد أو شرف لم يكونوا صانعيه، أو لم يفكروا به.. قدروا الأمر فأخطأوا التقدير أو لم يكتب لهم القدر الصواب وقد علم سوء مقصدهم ودناءة هدفهم. وماذاعليهم، يوم أن كانت مدينتهم المسالمة تحت مرمى الحقد الأسود يدك عروشها ويقذف بحممه الملتهبة، يصيب بها الطفل والعجوز، ماذا عليهم لو قالوا حينها لا وأعلنوا موقفهم بوضوح!؟ لو فعلوا ذلك لكان كافياً لغسل كل خطيئاتهم تجاه مدينتهم، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً ولو يسيراً من ذلك، بل راحوا بدون تأنيب من دين أو ضمير يبررون كل ما حلّ بالمدينة؛ والله لا يصلح عمل المفسدين! هذه الأرض الطيبة تعز، امرأة في الجمال واللين لمن سالمها ورام حضنها، وهي الموت الزؤام أو النار الملتهبة لمن بغى واعتدى عليها وحسب أ هلها كما قيل أصحاب بنطلونات؛ لذا جاءوا إليها مقهقهين فرحين؛ وإذ يحسب التتر الجدد هذا الحساب جاءهم الخبر اليقين في صورة خارجة عن مساحة التوقع والمألوف.. انهزموا هنا رجعوا القهقرى وقد أرادوها مادة سخية للضحك والتركيع ودليلاً يتقربون به زلفى إلى ولي نعتمهم وسابغ نعمه عليهم. تغادر المدينة قدرها ومحنتها بعد منازلة غير متكافئة بين سلميتها وعنفهم لتقرر خوض الانتخابات لاختيار رئيس جديد للبلد، بعد سجل حافل من النضال والعطاء لتطوي إلى الأبد آخر صفحة من صفحات تاريخ اليمن المعاصر، على أمل ألا يكرر اللاحقون حماقات السابقين!!