الرازحي هذا الإنسانوي المهووس.. البارحة أخذنا إلى جروفه النفسية العميقة كإنسان وكمبدع وكصاحب رأي. أشعر بحسرة أن مثل هذه الجلسة الحميمة تأخرت مع شخص أكن له وداً وتقديراً كبيرين مثل شاعر وقاص وكاتب متفرد صاحب ريادة نوعية كعبدالكريم الرازحي. كان مقيلاً استثنائياً مفرطاً في جمالية مكاشفات اللحظة الرائعة وتلقائيتها وسط أصدقاء يحترمون خياراتك الفكرية والسياسية والأدبية مهما كانت مغايرة لخياراتهم مثلاً، أصدقاء غير مأزومين بتلك التصورات الإلغائية أو الادعائية المسبقة مانحة الصكوك التي أفسدت المشترك الإنساني بصفتها تصورات شديدة الإجحاف والشمولية والمصادرة والقمع وعدم الإنصاف، أصدقاء يستوعبون قيمة الاختلاف الموضوعي المتسم بالوعي المتعدد ديمقراطياً ومعرفياً خلافاً للوعي الأحادي الغاشم، كما يكافحون من أجل تثبيت السماحة في المجتمع، مدركين معنى أهمية تكريس حق التعبير والتصور..إلخ . ولقد كان الرازحي البارحة أكثر اتساقاً مع ذاته كما أيقنت - أي وفقاً لراحته الوجدانية تحديداً في الحكي الطليق غير المقيد - مشحوناً بمفارقات تداعياته الفكرية والسياسية الفاتنة - ضحكاً ودموعاً وعذاباً وعذوبة - وهو يستجر مختلف صنوف الذكريات العامة والخاصة التي أثرت بمشواره ككاتب لاذع السخرية وواسع الانتشار، ليكون على رأس الكتاب المعروفين شعبياً في البلد، وصولاً إلى مشاركته لنا في بعث جزء مهم من تداعيات هموم وعيه الأدبي الذي كنا عرفناه كوعي متجدد ومتجاوز منذ ديوانه الفذ “البحث عن سماء ثانية وجحيم إضافي”. ومع ذلك فإنه الرازحي الذي لا يهدأ جمالياً على الإطلاق؛ إذ لايزال أكثر تغلغلاً في مختلف مشاغل القصيدة والسرد، حتى إنه متعدد التجريب وتام الإدهاش بامتياز، رغم كل التنويعات، بحيث إنه خاض على مدى أكثر من ثلاثة عقود تحولات ملفتة ومفاجئة ومبهرة تستحق الدراسة الجادة بين قصيدة النثر والقصيدة الشعبية والمسرح والقصة والرواية القصيرة والمقالة..إلخ . المهم كان المقيل على عكس “مقايل” سابقة كنت ألتقي فيها بالرازحي صدفة كذلك. على أنها تمتاز بنسقها الاعتيادي المعهود غير المبهج لتكون بلا طعم، وفيها بالضرورة – نكون كما في أغلب مقايل اليمنيين التي تدور في مكانها - مجرد غرباء وسط حشد منغلق بجدارة داخل عدم منطق وهم السرديات الكبرى سياسياً وفكرياً، متوحدين شئنا أم أبينا حينها في هذر الاهتياجات غير الموضوعية لنقاشات ملفعة بصرامة الجدية العجيبة وارتداء الأقنعة التي تفضي بكائنات المزاج اليمني الغالب عموماً إلى إقرار حلول لكل مشاكل العالم يومياً، بينما يثبتون عدم استطاعتهم إيجاد حلول حقيقية لمشاكل بلدهم على الأقل. وهكذا: في مفارقة لامعقولة حصرية بهذا الصنف الذي لا يضجر للأسف، كما لا يتكرر في مكان آخر سوى يمني. لكن حقاً: ما أروع الرازحي حين يتشبث بقرارة ذاته كمثقف عنيد له نزعته التي يريد، فقط عبر انحيازه للحقائق غير راضخ أبداً لمشيئة القطيع المخادعة..! ما أروع الرازحي وهو يحكي بشفافية روحه الرقراقة المنفتحة عن عدة أحداث ومواقف وتواريخ وأفكار وأصدقاء وميتات وأمكنة وقصائد وقصص عشق وقلق..إلخ منذ أيام اعتقالات محمد خميس إلى اللحظات التي يعيشها هذه الأيام مفتوناً بجماليات الحضارات الشرقية وفلسفتها العميقة في اللاعنف بالذات ونبذ التطرف والإرهاب والأصوليات. على أنه الرازحي ك”فنان بكل ما تعنيه الكلمة” مهما اختلفنا أو اتفقنا معه. وبالتأكيد: “ليس له وجهة غير فوضاه الجميلة” كصعلوك أصيل أيضاً. ثم إنه “لا ينحاز إلا لنفسه وحتى انحيازه لنفسه ليس كاملاً” بل “غالباً ما يظهر متذمراً حتى من نفسه”!. لذلك قلّ أن تجد في اليمن ما يشبه هذا الفنان الإشكالي.. الفنان الذي سيبقى الأكثر جرأة في التعبير عن آرائه، إضافة إلى أنه الأكثر سخرية وحزناً وشغفاً.. مغني الحرية الدؤوب ومكافح الرداءة والزيف وطفل المشاكسات الذي لا يكبر. عبد الكريم الرازحي الذي يبذل كل جموحاته قوية الإرادة لتنمية الإنسانوية في الإنسان، كما لتحفيز التشبث الحيوي بالنبالات الإنسانية.. تلك النبالات التي صارت تضمحل من حولنا ومن داخل أرواحنا على نحو مريع منذ زمن، لكننا لا نهتم لفساد أرواحنا بسبب انحسارها وفق ما يبدو!. رابط المقال على الفيس بوك