تبدو كأنها أزمة انتماء متفشية ، افتقار حاد في الحس الوطني ، أو غيبوبة وعي عام تسوقنا إلى اللاشيء ، وربما هي أكثر من ذلك بكثير !! باختصار ثمة تواطؤً رسمًي ( نخبوياً – حكومياً ) مريب يفقدنا ما تبقّى لنا من رصيد تاريخي ، وحضور إنساني ، يقابله تبلد حضاري شمل قطاعا ًمجتمعياً واسعاً ، ساهم الفقر والجهل والاستبداد في إذكائه وتنميته . للمرة الثانية صنعاء في الخانة ( الحمراء ) حسب معايير منظمة التربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو) ، وهو أمر يستدعي شطبها من قائمة التراث العالمي ،إذا لم تتخذ الجهات المعنية في اليمن إجراءات سريعة وحاسمة، للحد من التشوهات والاعتداءات التي تطال طرازها الفني والمعماري الأصيل ولنضع تحت كلمة سريعة ألف خط خاصةً بعد تصريح عوبل ( وزير الثقافة اليمني ) أن اليونسكو لم ترفض المذكرة التي بعثت بها الحكومة لكن المذكرة جاءت متأخرة بعد أن رفعت المنظمة أدبياتها إلى مجلس التراث العالمي !! يا رجل بعد شهور من التحذير الذي بعثت به المنظمة الدولية تأتي لتقول: إن المذكرة تأخرت إذن فأين عنصر السرعة ؟. بيان المنظمة كان حادا،ً شديد اللهجة ، يدق ناقوس الخطر ليس على ( مستقبل التاريخ ) في صنعاء فحسب ، بل على مصير العديد من المدن والمواقع الأثرية في اليمن المدرجة ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي ، التي ينسحب عليها بالضرورة ذات الإهمال والعبث وليست مدينة زبيد ومدينة شبام حضرموت التاريخيتين بأفضل حالاً إن لم تكونا أسوأ . تتعاظم المشكلة في ظل غياب قاعدة بيانات حقيقي يؤرشف بدقة للآثار والمدن التاريخية المنتشرة في طول البلاد وعرضها يمكن العودة إليه عند الحاجة ، أضف إلى ذلك تشعب الاختصاصات وتضاربها بين الجهات المعنية المختلفة ممثلةً بوزارة الثقافة والهيئة العامة للآثار والحفاظ على المدن التاريخية ، وصندوق الحفاظ على صنعاء القديمة مع الجهات التنفيذية في أمانة العاصمة وعموم المحافظات ، هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار حالة المخاض السياسي والاقتصادي ( العسير ) الذي تعيشه اليمن منذ اندلاع ثورة فبراير 20011 م . مبدئياً كان لابد أن تظل صنعاء حاضرة على الدوام في قائمة قلوبنا – حكومةً وشعباً - قبل أن تكون في قائمة اليونسكو، ليس لكونها واحدة من أجمل وأعرق مدن الشرق الممهورة بدهشة الاستكشاف ، والمشغولة بدقة الصنعة وبديع التفصيل فحسب ، بل لكونها إضافة إنسانية ، قيمة حضارية ، معجز بشري يشارك البشرية فضاءات الحياة لمئات العصور المتعاقبة ، إضافةً إلى أنها خير من يقدمنا للعالم . ففي صنعاء لا تتجلّى عبقرية العمارة في تخطيط المكان ، وهندسة التوسع الأفقي والامتداد الرأسي حتي مجاورة السحب لأكثر من 8000 منزل متراص جنباً إلى جنب بصورة تعكس الطبيعة التكافلية للإنسان اليمني ، ولا حتى في ذكاء التحصين الذي يتصدره سور بأبوابٍ سبعة ، بل في مدى استغلال الفنان اليمني للمواد المحلية البسيطة ( الطوب- الياجور- الجص )المشهورة بقدرتها على مقاومة قسوة الطقس وتقلبات المناخ في صياغة مدينة أسطورية تعود جذورها إلى (سام بن نوح ) وسُميت باسمه . في صنعاء ليست ( السائلة ) المجرى الذي تنداح إليه مياه الأمطار حين تسقط على المدينة صيفاً ، ولا الحمامات البخارية المنتشرة كلازمة تخطيطية هامة في كل حاراتها ، ولا ( المقاشم ) حدائق خلفية تؤدي وظيفتين مزدوجتين ، الأولى توفير الخضروات لأهل الحي ، والثانية إتاحة متنفس للأحياء ، وهي ( المقاشم ) بالمناسبة أول من طبق نظام الاستثمار الأمثل للمياه المستخدمة للوضوء في أكثر من 3000 مسجد في المدينة ، ولا الأسواق الشعبية التي كانت تسمى باسم المنتج الذي يُباع فيها كسوق الملح ، سوق الزبيب ، سوق الحبوب ، سوق الفضة ..إلخ ، هي كل الحكاية !! في صنعاء لكل شيء قصة وحكاية : ( الجامع الكبير ) ثاني مسجد في الإسلام بعد المسجد النبوي أمر ببنائه وحدد موقعه الرسول الأكرم صلوات الله عليه، (غرقة القُليس ) المكان الذي بناه إبرهة الأشرم لنقل الحجر الأسود من مكةالمكرمة إلى صنعاء وهو حدث موثق في محكم التنزيل في سورة الفيل ، ( قصر غُمدان ) البناء العظيم الذي نُسجت حوله آلاف الحكايا والأساطير وتغنّت به آلاف القصائد . ولأنها ( عاصمة الروح ) حسب توصيف الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح فقد رفدت الساحة العربية والإسلامية بالعديد من الفقهاء ، المحدثين ، المؤرخين ، الشعراء ، والمغنين ممن كانت لهم عصا السبق في إرساء مناهج الفقه والشريعة وعلوم الدين والتاريخ والجغرافيا ، وإثراء المكتبة العربية والإسلامية بروائع الدواوين الشعرية والمدائح النبوية ( كان التصوف فناً أيضاَ ) والألحان والأغاني الخالدة . في صنعاء حيث الإبداع أسلوب حياة قائم في المأكل والمشرب ، في الأفراح والأتراح يمارسه السكان في عاداتهم وتقاليدهم المختلفة ، يقف الزائر والمتجوّل حائراً مبهوراً أمام بهاء هذه المدينة التي تكفر بكل إغراءات العولمة على الرغم من أنها فتحت ذراعيها لكل من جاءها مسلماً أو كافراً، استقبلت الفرس والروم ، احتضنت الأحباش والأتراك ، الذين عشقوا الحياة بشروطها ، ولا تزال حتى اللحظة مهوى الباحثين ، وغاية السائحين ، ومنتهى حلم كل باحث عن المتعة والجمال والغوص في عمق الماضي إذ “ لابد من صنعاء وإنْ طال السفر ».