للكتابة شأن آخر حال ما تكون الحروف قد التصقت والكلمات قد تجمعت والجمل قد اكتملت ,بل إنها تعطي أكثر مما تأخذ وتجود بما لا يقدر. عظيم هو القلم الذي لا يجف ولا يقف حين يتحرك ليزرع بذوراً يجني ثمارها الكل الجاهل والعارف، يجني ثمارها من اقترب، منها ويشعر بنعومتها من لامسها ذلك كله شأن الكتابة , والقلم ملك يقود صاحبه إلى حياة لا ملل فيها ولا سأم بل يشعر صاحبه بالدفء والحنان ويملأه بالصفاء والنقاء لأنه يترجم كل جوانبه , والإنسان سيد فكره , وسيد الفكر ما خاط القلم وليست سيادة جهلاء بل سيادة معبرة ومنظمة. القلم شاشة ملونة تشاهد فيها عالم الفكر بكل نسماته وريحانه ونقرأ فيها لوحات المعنى وسحائب الفكر التي تمطر على ذلك العالم وتوزع الخصب والنماء فيه , وجليل هو القلم وجلالته كلما حاول الإنسان أن يستلهم من تجلياتها ويستقطب من آثارها ويصل إليها بجد وعناء لا بادعاء وزور. التأريخ يحكي لنا عن رموز يفخر بهم ويفاخر ومكانتهم صالحة جلية في كل الأزمنة كأفلاطون وأرسطو، لأنهم قد استأثروا البقاء والثبات بنفحات الفكر وروائع القلم، بل إن الزمن ليظل يترقب في حالة وهنه وعجزه من يأخذ بيده ويزيل عنه غباره , ونحن نلحظ أنه في كل مرحلة عجز يطلع من ثنايا الخراب وبقايا المكان رجل يعيد لهذا الزمن شرفه ويضفي عليه مكانته مع أن المراحل تختلف من حين لآخر. ديكارت وشكسبير وجوته وماركيز والعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ندين لهم بحق عظيم لا ينكره أحد من قريب ولا من بعيد , ولا نملك ونحن نرتع وننعم في بساتينهم إلا الاعتراف بذلك الحق حق الفكر والوعي والعظمة , ولا تزال نفحات روحية تجود بها أعمالهم. وكم كانت شخصيات أخرى مليئة بالذكاء والدهاء إلا أن غياب القلم عنها أفقدها الكثير فذهب ريحها وضاع بريقها وجمد ماؤها فتلاشت حتى حد الغياب وأنا لا أرهب ولا أجل من تفتقد أنامله سن القلم وأسار الكتابة، ففكره مظلم ووعيه جامد مليء بالصدى والعتمة. وفي زمن كهذا الذي نخطو على أسواره وكأن شيئاً يتزعزع من تحت الأقدام ويتطاير كالأوهام ندر الكتاب والمفكرون كندرة الكبريت الأحمر وندر العظماء والنبلاء وكله عائد إلى طبيعة الحياة التي يزداد اللوم عليها لا علينا ،إذ خيم الجدب على فكرنا وجف ماء وعينا وسكن تدفق شعورنا وكم نسعى جاهدين لنتحرر من وضع كهذا حتى لا نكون لعنة الدهر لقطاء فيه.