تعز أقدم مدينة احتفظت بها ذاكرتي، وتحديداً حارة الضبوعة، معقل الإخوان المسلمين الذين كانوا يلاحقوننا أثناء كل صلاة ونحن مازلنا أطفالاً لم نبلغ الحلم, كنا نتلقّى الضرب حينما تُنصب لنا الكمائن من قبل هؤلاء الذين يحرموننا من لعب الكرة, وفي المقابل كنا نرى الشباب المنفتح على الموضة القادم من كثير من المحافظات بما فيها العاصمة صنعاء، كنا نحلم أن نكبر غداً فنلبس كما يلبسون، كانت تعز تقاوم الروح الإخوانية وتزرع في أبنائها والقادمين إليها معنى الإنسانية ومعنى الوحدة, لقد كانت أرض الثقافة والحداثة, كنّا نجد الكتب القومية واليسارية والدينية جنباً إلى جنب، وكان المثقفون يهبطون على تعز كما تهبط الشمس ساعة شروقها؛ يتأثرون ويؤثرون، ثم يرحلون عنها كما ترحل الشمس ساعة غروبها, كان اليسار يتسابق على استقطاب أبناء تعز وخاصة الشباب ويغذيهم بالأفكار الناصرية والبعثية والماركسية ويزرع فيهم طموح المستقبل وأحلام الوحدة العربية والأممية الإنسانية؛ بينما كان الإخوان ينشدون الوحدة الإسلامية، كثير من هؤلاء الشباب كانوا مبهورين بل مدهوشين دهشة الاكتشاف الأول لهذه الأفكار التي ربما تشبه دهشة الإنسان القديم وهو يكتشف آلهته من الطواطم والكواكب والمخلوقات الأخرى. أما مستشفى الثورة العام فقد كان ملتقى الطلاب الفارين من مدارسهم ليكتشفوا معنى الجمال الأنثوي وجمال الطبيعة الخلابة المحيطة بالمستشفى وكأنه حديقة غنّاء تملأه الأزهار الملوّنة، كانت ممراته الخارجية من السراميك الأبيض وعلى جوانبه الأزهار، ترى الحركة تسري وكأنك في منتجع سياحي، كانت الصبايا يلبسن الجيبة والجاكت، ولم تكن الثقافة الإخوانية الممزوجة بالسلفية الوهابية قد سيطرت بعد، أهم ما في تعز ناسها المقيمون فيها الذين يجمعون داخلهم الزمان المنقضي والمكان المقيم. يتوافد الشباب عصراً إلى شارع 26 سبتمبر، البعض يحتسي الشاي في قهوة الصبري مكتفياً بالاستمتاع بالجمال المتحرك خلال الشارع، والبعض الآخر يرافق الفتيات حتى آخر الشارع، كان عمال النظافة يكنسون شوارع تعز، ويزيلون عنها الأوساخ؛ فتعز لابد أن تكون نظيفة، كانت المدينة تعمل بلا توقف، يخرج سائقو النقل الصغيرة مع أذان الفجر يتناولون القهوة بالحليب، ثم ينقلون العمّال إلى أماكن عملهم؛ تتهيأ المقاهي لاستقبال الزبائن منذ الصباح الباكر، تسري الحركة بهدوء، يتبادل الناس الابتسامات، وكل شيء يجب أن يكون بعيداً عن الحدّة أو نوازع الكراهية، تُعقد الصفقات في هذه المقاهي بين كثير من المقاولين وأصحاب الأعمال الصغار الذين لا توجد لديهم مكاتب، يلتقون في الصباح الباكر لتوزيع الأعمال وعند المساء يراجعون ما تم الاتفاق حوله، كان المقهى يمثل محطة تتوسط بين البيت ومقر العمل، غالبية العمال يخرجون مع الصباح الباكر وهم يجهلون ما إذا كانوا سيحصلون على عمل أم لا، في هذه المقاهي يجلس المثقفون ولاعبو كرة القدم الذين ينتمون إلى أقوى ناديين في تلك المرحلة «أهلي تعز والطليعة» ولا تخلو هذه المقاهي من نشاط التنظيمات اليسارية؛ بينما كان نشاط الإخوان في المساجد. اليوم تعز تئن وتتوجّع، وتحديداً منذ بداية الفوضى التي ضربت هذه المدينة والتي فرّخت مليشيات مسلّحة تجوب شوارع المدينة؛ بعضها بالزي المدني والبعض الآخر أضفيت عليها شرعية الزي العسكري. كانت تعز تتزين بالصبريات المزّينات بالمشاقر من بائعات البلس والرمان والقات، أما اليوم فتعز تتزّين بالمسلحين، وأصبح نهارها يشبه ليلها الحالك، حيث ظلمة الحارات وغرابة الوجوه والرغبة الجامحة بالعنف والعنف فقط، أصبحت تعز منكوبة مائياً وبيئياً واجتماعياً وسياسياً، فحسب تقارير حكومية ومدنية هناك شحة في المياه وأغلبها ملوثة، كما أن نسبة تعاطي المخدرات ارتفعت بنسبة عالية جداً في هذه المدينة، وكذا الجريمة ونهب الأراضي والسطو عليها والبناء العشوائي، وهناك شريحة كبيرة من الشباب المراهقين يجدون أنفسهم ضحايا المخدرات والجريمة، أصبحت عاصمة الثقافة تحت وطأة الضبح وتراكم الجريمة، أضحت ملاذاً آمناً لأصحاب الدرّاجات النارية التي أصبحت مصدراً من مصادر التلوث السمعي والبيئي؛ تعز اليوم تشكو غياب القانون، وأصبحت تعيش زمن المليشيات وغياب تام للدولة، ولست بحاجة إلى القول إن أبناء تعز خاطروا بأرواحهم في مختلف الساحات مطالبين بالعدل، لكن آمالهم اليوم أضحت مهدّدة من قبل العصابات والمليشيات المسلّحة الخارجة عن القانون؛ والعجيب في الأمر أن أجهزة الأمن لم تقدّم أحداً حتى هذه اللحظة إلى العدالة، ولم يتم التحقيق في كثير من حالات العنف.. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل توجد خطة لدى الأخ محافظ المحافظة لإنقاذها وإعادتها إلى دائرة المدنية..؟!. رابط المقال على الفيس بوك