حينما بدأ ما سمي بالربيع العربي خرجت جموع غفيرة من الشعب اليمني إلى الشارع متمسكة بالشرعية الدستورية ورافضة الشرعية الثورية المنطلقة من الخيمة التي قطعت الشارع. كانت هذه الجموع تدرك أن الحرية والعدالة والكرامة لا تنطلق من الشارع بل من حوار شعبي يجمع كل شرائح المجتمع ويفضي إلى توافق حول المشترك بين الناس من قيم ومبادئ، لقد أدركت هذه الجموع أن الحوار هو القاعدة الجوهرية التي لا مناص من الاحتكام إليها، وخاصة في مراحل الانتقال. ليس من شك أن القوى المدفوعة بالمصلحة قد استخدمت الشعارات الثورية، ولذلك أمعنت في التوسل بالمغالبة مستفيدة من الوضع الدولي الذي أراد تحقيق ما سمي “بالفوضى الخلاقة”، ولست بحاجة إلى القول إن الجدل لا يجدي اليوم حول الأسباب التي أضرت بالمصلحة الوطنية، وأخرجت المواطن البسيط من اللعبة السياسية والديمقراطية وانتزعت منه حق إعطاء السلطة ومنحها لتضفي عناصر جديدة من القوة على مراكز القوى التي مازالت حتى هذه اللحظة ترفض صياغة عقد اجتماعي وبناء مؤسسي يأوي الجميع إليه. ما يدفعنا إلى هذا القول هو ما أسفرت عنه الأزمة من أوضاع متردية سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الأمن، وأصبحت القوى التي رفعت شعار الثورة منكفئة على نفسها وبدلاً من اجتثاث الاستبداد من الجذور وإحياء الوطن إذ بها تريد اجتثاث الشعب ومصادرة حقه، بل واتهامه بأنه شعب غير راشد لا يعرف مصلحته، لذلك هي تفكر نيابة عنه وتلغي الأسس الديمقراطية والانتخابات، وتحويل مؤتمر الحوار إلى جمعية تأسيسية تستمر حتى ينضج هذا الشعب. لقد فضح هؤلاء أنفسهم وافتضحت الدول التي سخرت إعلامها ومقدراتها للتبشير بهذه الثورات حينما رفض الثوار الرجوع إلى الشعب والاحتكام إلى ما يقوله، إنهم يتذرعون بأدوات سياسية محملة بالموارد الثورية. من المعيب على هؤلاء أن يلجوا إلى عالم السياسة وهم يتوسلون الثورة التي لم يعترف بها الشعب اليمني ويستثمرونها في صراعاتهم السياسية. مازالت أذكر ويذكر الكثيرون كلام الثوار الذين ما برحوا يصرحون بأن الثورة قد عمت محافظات الجمهورية، ولم يبق لعلي عبدالله صالح سوى منطقة السبعين، وأنا لا أورد اسم علي عبدالله صالح دفاعاً عنه، وإنما استشهاداً بما يقولونه اليوم من أن الذهاب نحو الانتخابات سيمكن علي عبدالله صالح وحزبه من العودة إلى السلطة، وأصبحوا يمارسون ما كانوا يرفضونه في عهد علي عبدالله صالح من إقصاءات واتهامات للآخرين والتلاعب بأسس الحوار ومبادئه والخوض فيما يفرق وليس فيما يجمع، وحولوا مؤتمر الحوار إلى ساحة للكراهية والإقصاء والبحث عن الشارات القديمة، وترك الحديث عن بناء الدولة دولة النظام والقانون، دولة المؤسسات المرتكزة على الحماية الشعبية. إثارة ما يفرق وترك ماهو مشترك بين الناس، لقد أضحت الشعارات الثورية غير جاذبة، وقد أخفقت الأحزاب التي رفعتها في تحقيق ما وعدت به، إن ما يجري على أرض الواقع عكس الوعود تماماً. كان الشعب اليمني ينتظر مصالحة حقيقية بهدف المضي نحو التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، لكن الثوار اقتسموا ما تيسر لهذا البلد من ثروات محدودة، وها نحن اليوم نلمس الصراع بين قوى الثورة نفسها التي تخلت عن مصالح الطبقات الكادحة، وتخلت عن الوحدة الوطنية وبدأت تبشر بالأقاليم. إن الذين بشروا بالعدالة الاجتماعية من شوارع المدن الرئيسية قد عمقوا الظلم ووسعوا دائرة الاستغلال والقهر وحرمان المواطن من أبسط حقوقه كالكهرباء والتعليم والصحة والمياه النظيفة، واتسعت دائرة الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، لقد شهد اليمن منذ العام 2011م تطورات سلبية، وساءت الأحوال الاقتصادية في ظل حكومة التوافق، وذلك لعدم وجود رؤية وطنية تضع ضمن أولوياتها الشعب اليمني. إضافة إلى ما سبق فإن الذين رفعوا شعار الثورة ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بالسياق الإقليمي، ونحن نعلم أن هذا السياق لن يكون محفزاً على إصلاح النظام، ولن يسمح بتأسيس ثقافة تعتمد القيم الديمقراطية.. ومن الواضح التهديدات والتحديات التي واجهتها اليمن وعدم الاستقرار الأمني وتوسيع دائرة الصراع بين قوى سياسية ترتبط بالخارج، وهو ما برز في حرب دماج. وهو ما يجعل الدولة ومؤسساتها محل تساؤل لناحية الشرعية، وخاصة تحدي شرعية تفردها بالحق في استعمال القوة وتحقيق الأمن.. خلاصة القول إن القوى الرافضة للتوافق السياسي والباحثة عن مصادرة الحق الديمقراطي تعزز التهديدات أو الأخطار الأمنية، وإضعاف كيان الدولة، وتغييب المؤسسات القادرة على القيام بمهامها واستبدالها بمؤسسات غير شرعية. رابط المقال على الفيس بوك