صوت تهشُّم الزجاج يبدد هدوء ما قبيل الفجر .. تتزامن معه صرخاتٌ أنثويةٌ تنمُّ عن ألمٍ واستنجاد .. للحظات المتبقية ثمنٌ يعادل الماس .. ثلاث ساعاتٍ هي زمن العد التنازلي لانطلاقة الامتحانات النهائية للتعليم الأساسي . أثارت تلك الأصوات تساؤلاتي عن مصدرها ومكنونها .. لم تكن الرؤية واضحة من خلال النافذة .. ولم أجرؤ على فتحها فلعلّ مصاص الدماء الذي شاهدته في فيلم الأمس يختبئ وراءها ! عدت إلى مكتبي وحاولت عبثاً الانكباب على قراءتي فلم يزل ما يربو على نصف المنهج لم أستكمله بعد ! حلّت فترة صمتٍ حاولت خلالها الاستغاثة بما تبقى من تركيزي .. لتعقبها صرخةٌ مدويةٌ كشفت معها عن أولى ملامح الفجر .. غادرت الغرفة .. واسترقت المفتاح من تحت وسادة أبي وخرجت نحو الشارع أتحسس مصدر تلك الأصوات .. أحسست رجفةً وأن شعيرات جسدي قد تمددت كثيراً بعد أن عاودتني صورة مصاص الدماء .. تذكرت كلمات جدتي .. " الرجال لا يخافون الظلام ! " . نفضت رداء الرهبة وأخذت أجوب بنظراتي أطراف المكان .. كان الهدوء يخيّم على الحي والشوارع يسكنها صمتٌ قاتل .. ولا وجود لأضواء تعاون خيوط الفجر في تمزيق جلباب الليل الأسود .. ولكن ثمة ضوءاً يأتي من ناحية الشرق .. اقتفيت أثره إلى أن وصلت إلى شقة الدكتورة وردة .. أمهر طبيبة أطفال كما تقول جدتي .. فكل أطفال الحي يعرفونها جيداً .. فقد كنّا نتسابق أثناء عودتنا من المدرسة للاصطفاف أمام باب شقتها .. فتأتي بسلةٍ تعجَّ بقطع الشوكولاتة الفاخرة .. فننقض عليها ومع ذلك فقد كانت تسعد بنا ولكن ما تلبث أن تستتر ثم تدلف سريعاً إلى شقتها . كان ذلك يثير تساؤلي .. فقد سألت جدتي مراراً فكانت تجيبني بأن تدخل يدها في صدرها وتهبني عشرة ريالات وتأمرني بالانصراف ! . أفقت من طيف الذكريات وعدت لأمر تلك الأصوات .. مددت يدي لطرق باب الشقة .. توقفت .. فلعلها تظن بأني قد أتيت لأخذ شيءٍ من الحلوى .. أسندت ظهري على الباب ولكن ما لبث أن فُتح على مصراعيه ! قطع الزجاج تملأ الممر المؤدي إلى صالة الشقة تطفو فوق ورقٍ فاخرٍ مبروز ! التصقت بالحائط واجتزت الممر .. بقعٌ حمراء تملأ رخام الصالة علّها لشراب التوت .. تشكل سلسلةً تمتد إلى داخل الشقة .. اقتفيت أثرها حتى وصلت إلى إحدى الغرف . ملابس .. دمى للأطفال .. جديدة .. ممزقة ! مبعثرة في أرجاء الغرفة ! - ولكن الدكتورة وردة ليس لديها أطفال ؟! - وهناك .. إنها الدكتورة وردة ! دنوت منها .. ترقد فوق طاولةٍ خشبية .. تستتر بورقةٍ غرست فيها أظافرها .. شراب التوت يطفو فوق الطاولة .. ويبدو أنه قد سكب أثناء غفوتها .. أخذتُ الورقة من تحت يدها وحاولت جاهداً إزالة بقع التوت الحمراء : (( .. خذوها .. مزقوها .. إن شئتم فاحرقوها .. !! )) وعلى الوجه الآخر .. (( هاهنا ترقد عانس .. وحدها .. والحلمُ قارس .. فوقها .. صفّت زهور .. ذبلت .. تحت شهادات المدارس .. وهنا .. ديوانُ شعرٍ .. فوقه .. بعض مناديل .. شجاها .. حرّ ما كانت تلامس .. وعلى الرفّ ملابس .. طولها شبرٌ ونصف الشبر .. كانت قد شرتها .. لتناغي بخيال الأم طفلاً .. وتناديه بفارس .. كل شيءٍ فوق هذا الرف أغراض لفارس .. دميةٌ .. لِهايةٌ .. صوفٌ على شكل قلانس .. بينها رضاعةٌ .. نامت .. تغطت .. بخيوط قد تدلت .. من عرى شرشف فارس .. ألف آهٍ أمّ فارس .. كم دعوت الله .. كم ذا .. وتوسلت .. وذا الدّمع على نقش مصلاك يائس .. إيه يا أما بلا طفل .. ويا روحاً على أعتاب إطراقة يائس .. تحبسين الدمع بين الناس إصراراً .. وما لله مع يا عانس حابس .. نمت والدمع بأجفانك .. آهٍ .. من ترى يفهم دمعاً نام في مقلةِ عانس ؟ يحرق القلب .. تذوب الروح .. تُكوى شفّة البسمة إذ يهمس هامس .. تلك عانس ! )) . سقطت الورقة من يدي بعد أن هزّني صوت عقارب الساعة وهي تعلن عن السابعة .. ولينتهي معها العد التنازلي .. تذكرت الامتحان وخرجت مسرعا .