إن ملابسات الصراع الحضاري والسياسي قد حملت معها إحساساً قوياً بالخطر الذي يتهدد الهوية الإسلامية، كما يتهدد العناصر الأساسية للوجود الحضاري والتميز الثقافي لأمة المسلمين، وكان رد الفعل الطبيعي أن ترتفع- على الجانب الإسلامي- دعوات العزلة والمحافظة على القديم الأصيل، والمبالغة- لذلك- في توكيد تميز الحضارة الإسلامية، واختلاف التصور الإسلامي عن نظائره في سائر الحضارات والشعوب.. فاستقر لدى كثير من المسلمين إحساس قوي بالاختلاف الجذري وباستحالة اللقاء مع الآخرين. وأديرت المنافسة الحضارية، كما أدير الصراع السياسي في كثير من الأحيان، على أساس النفي المتبادل، واستحالة العمل المشترك، حتى صارت الدعوة إلى مثل هذا العمل المشترك تُصوَّر على أنها تنازل حتمي عن خصوصية الإسلام، وإهدار لوظيفته الأساسية في الدعوة إلى الحق الذي يمثله المسلمون وحدهم.. وأنها بذلك كله بداية استسلام المسلمين لخصومهم وفنائهم في الحضارة الأخرى الغازية. والهدف من كتابة هذه السطور كلها يتلخص في كلمتين، تقال أولاهما للقادة والدعاة المسلمين، وتقال الأخرى للقادة والباحثين والمثقفين خارج العالم الإسلامي ممن يطرحون على أنفسهم السؤال عن مكان المسلمين من الجهد العالمي لبناء ثقافة عالمية جديدة، تكون «بنية تحتية» للنظام العالمي الجديد، تزوده بمنظومة أخلاقية جديدة ذات طابع فردي وجماعي، ترسم أسس التعامل بين الأمم والشعوب على أساس التعاون والاعتماد المتبادل بدلاً عن الصراع والسباق إلى التسلح، والدخول في حروب باردة وساخنة. كما تفتح مجالاً جديداً للعمل المشترك، يتوجه به العمل الثقافي- من جديد- إلى حماية الإنسان وصيانة حقوقه وحياته وترشيد مسيرته على طريق التقدم والبحث عن الرخاء. فأما الكلمة التي توجه إلى المسلمين فإنها تذكير بوحدة الخالق، ووحدة الخلق، ووحدة رسالة الإسلام الذي أوحى به الله لجميع الأنبياء والمرسلين «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»- «وما أرسلناك إلا كافة للناس»- «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً» .. وهي تذكير كذلك بأن الحق لا يصل إلى الناس إلا من خلال بشر مثلهم «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه».. وأن العزلة هي العدو الأول للدعاة، وأن الاغتراب مقدمة للعزلة، وهي أمر لم يعد ممكناً، ولم يعد جائزاً. وهي تذكير لهم- كذلك- بأن مسيرة الحضارة الإنسانية قد وصلت بالأمم والشعوب إلى مفترق طرق، تبحث عنده عن مسار ثقافي وأخلاقي جديد، يتدارك الآثار الجانبية المدمرة للحضارة المادية الشيئية التي حل فيها الاستكثار من الثروة محل الحرص على مودة الناس وتعميق الصلات بين الإنسان والإنسان، وإقامة العدل، وتقديم الفضل، وإشاعة الرحمة وإفشاء السلام.. وأنه إذا الإسلام قادر على الإسهام في تثبيت هذه القيم الغائبة التي يبحث عنها اليوم أكثر الناس، فإن مهمة المسلمين أن يكونوا حاضرين مع تلك الشعوب وأن يقولوا للناس جميعاً في بر ومودة وتواضع «نحن هنا» ونحن معكم على هذا الطريق. على أن الأمر في ذلك كله لا يمكن أن يكون أمر كلمات تقال، أو نداءات توجه إلى الآخرين يبقى معها واقع المسلمين شاهداً على نقيض ما يقال، وإنما يحتاج الأمر إلى أن يبدأ المسلمون داخل حدودهم- مسيرة نهضوية جديدة، التي لا بد أن تشمل المحاور الثلاثة الآتية: براءة سريعة من كل صور انتهاك الحقوق والحريات، والتزام جديد باحترام الإنسان وتكريمه، وتحويل هذا الالتزام إلى واقع معيش في الحياتين السياسية والاجتماعية على السواء. توقف عن روح الإنطواء، وقذف الآخرين بالحجارة لمجرد أنهم مختلفون، وبحث جاد صادق عن عناصر الاتفاق، والإلتقاء بين المسلمين وسائر الشعوب. تحرير المجتمعات العربية والإسلامية من واقع التخلف والتبعية الاقتصادية، وهو واقع يصعب معه على الآخرين أن يتعاملوا مع العرب والمسلمين في إطار الشعور بالندية والتكافؤ. وأما الكلمة التي توجه للقادة والمثقفين والباحثين ورجال الإعلام خارج العالم الإسلامي فخلاصتها أننا ندعوهم في هذه السطور إلى أن يلاحظوا أموراً ثلاثة: - أن المسلمين في النهاية ناس من الناس وهم يسعون في النهاية إلى تحقيق الاعتماد المتبادل وإشاعة السلام بين جميع الأمم والشعوب. - أن ما يسمى «الأصولية» ليس هو التيار الغالب بين المسلمين وإنما هو رد فعل، له أسبابه، وله نظائره داخل سائر الديانات، وعلى ساحة بقية الحضارات، وأنه من الظلم والخطأ الفادح التعامل مع الشعوب المسلمة كما لو كانت كلها جيشاً من المتشددين الأصوليين. أنه قد آن الأوان لوقف الحملة على الإسلام والمسلمين، حملة التشويه والتشهير اللذين تضيع معهما الحقيقة، وتتراجع فرص الاقتراب واللقاء وأن موقف الإسلام جوهره أن «لا إكراه في الدين» وأن يد أتباعه ممدودة بالخير والسلام إلى جميع الشعوب.