تتعقبني بالأسئلة ، ولا طاقة لي بالردود، كيف أدفع عن هذه الصحراء المأهولة بالبشر ؟! وأية فضيلة لهذا الرتاج الذي يهزأ بدموع ابنتي كل يوم ؟! قبل أن أضعها رهن الإقامة الجبرية ، في هذه الفترينة الواسعة ، وكان الأطفال في هذه المدينة زينة الشقق الفاخرة! في الصباح أضع على وجهي ما تيسَّر من المساحيق ، وأمنع يدي عن تناول أحمر الشفاه، وبعد أن أتأكد من تمام قيافتي ، أمام المرآة ، دون عجل أجري معاينة دقيقة لمحتويات الحقيبة الجلدية ، ذات الحزام ، وأدندلها على كتفي الأيسر، اجتاز البوابة التي تفضي إلى الشارع ، فيلحقني النداء ، أٌدير وجهي نحو النافذة ، حيث تلثغُ مرام بكلمات الوداع ، تلوّح بكفها، وتشيعني ببصرها حتى يبتلعني الزقاق. هذه المرة كانت مُرام ترفرف بذراعيها، تكركر من شدة الفرح، والبسمة لا تفارق فمها ، بعد أن حصلت على إذن بالخروج ، فقلّما تمكنت من النفاذ إلى الفناء. واصلت الدوران وهي تتعجل الخروج ، تنتعل حذاءها ، وتطقطق على الأرض ، وما أن تقع نظرتها في عيني ، حتى تدنو مني وتضع على كفي سلسلة من القبلات ، كأنها تعيد إليّ الجميل ، تلوح بسلام الوداع لصورتها المحفوظة في الإطار المعدني ، أحيطها بسياج من التعليمات : احذري اللعب في الشارع ! احذري الاقتراب من السيارات المسرعة! كانت مرام الطفلة الغريرة أشبه بطائر صغير ، آن له أن يفرد جناحيه على الهواء ، قبقبة حذائها لا تقر ، تتبختر على ساقين طريتين ، أواصل نصائحي ، حتى تضع قدميها على أرضية الفناء ، لتطلق كرة الماء الملونة من بين يديها وتلاحقها، وسط حفيف الأغصان في باحة الفناء ، يفتح شخص حنجرته على أشدها خلف مُكبر الصوت، فينتابها الذعر ، يحيق الدوي بأذنيها ، فترتمي على الأرض، أهرع نحوها مسرعة وعيناي تغرقان بالدمع، أحيطها بالأدعية ، وأدعو الله ألا يطيل عنق صاحب الصوت المفزع بوم يُبعثون. انتشل ابنتي ببكائها الحار ، وبما علق عليها من غبار ، نجتاز الممر ، تسترد أنفاسها وهي تعبر الباب ، يسبقها النشيج المتقطع حتى أواريها في الداخل، فيهدأ روعها .. أحاول أن أضعها على الأرض ، فيكبُر الخوف في صدرها ، وتعود مذعورة ، لتلوذ بصدري من جديد ! بعد أن أكملت التأكد من تمام قيافتي ، أطلقت نحوي ابتسامتها وهي واقفة في الممر الذي يتوسط الغرفة. أضع يدي اليمنى على مقبض الباب، فتلثغ بوصية الخروج : احذري السيارة تفجعك ! احذري الأصوات تفجعك ! احذري احذري ! احذري احذري ! تُلوح بكفها ، وهي تردد وصيتها حتى أغيب