ذكر المؤرّخون قديماً وحديثاً، مسلمين وغير مسلمين أن ابن رشد بقوة فكره وسعة أفقه وتنوّع معارفه؛ استطاع أن يترك تأثيراً نوعياً وكبيراً على الفكر اليهودي من جهة، وعلى الفكر المسيحي من جهة أخرى، التأثير الذي امتد إلى قرون عدّة قاربت أربعة قرون، وتحديداً خلال الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر الميلادي.. التأثير الذي جعل ابن رشد في المجال اليهودي يمثّل محطة مهمة في تاريخ تطور الفكر اليهودي في العصر الوسيط، واكتسب هذا التأثير أهمية لكونه اتصل بعالم اليهود الشهير آنذاك موسى بن ميمون الذي وصفه الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م بشيخ اليهود الأعظم وأستاذهم الأكبر، ويعد بحق في نظره الممثّل الأول للفلسفة اليهودية المدرسية. هذا التأثير من ابن رشد على ابن ميمون، حصل بفعل عامل المكان من جهة، وعامل التزامن من جهة ثانية وعامل التثاقف من جهة ثالثة. من جهة المكان فكلاهما ولد في مدينة قرطبة عاصمة الأندلس الشهيرة والمشعّة، ومن جهة التزامن فإنهما كانا متعاصرين؛ فابن رشد ولد سنة 1126م وابن ميمون ولد سنة 1138م، وهذا يعني أن ابن رشد أكبر سناً من ابن ميمون باثنتي عشرة سنة. ومن جهة التثاقف، فقد عرف عن ابن ميمون تأثّره الواضح فكرياً وفلسفياً بابن رشد، وكانت له منزلة العالم المعتبر عنده وعند الوسط العلمي اليهودي الذي كان ينتمي إليه، وما له دلالة على ذلك، ما أشار إليه بعض المؤرخين، ومنهم المؤرخ والمستشرق الفرنسي أرنست رينان (1823-1892م) الذي يرى أن المعرفة الفلسفية عند علماء اليهود في ذلك العصر ما هي إلا انعكاس للثقافة الإسلامية. ومن المعاصرين الذين تحدّثوا عن هذا التأثير بصورة عامة، الأكاديمي اللبناني الدكتور ماجد فخري في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1970م، إذ يرى الدكتور فخري نقلاً عن مصادر أجنبية أن قبل نهاية القرن الثاني عشر كانت مؤلفات ابن رشد تُقرأ بالعربية عند علماء اليهود؛ غير أن تشرّدهم مطلع القرن الثالث عشر إلى ما وراء جبال البيرينة وعلى ساحل البحر المتوسط اقتضى أن تترجم مؤلفاته إلى العبرانية، ومن أشهر تراجمته في القرن الثالث عشر: موسى بن طبون، يعقوب بن أبا ماري، سمعان أنا طولي، سليمان بن يوسف بن أيوب، زكريا بن إسحاق، يوسف بن ماخي، وفي القرن الرابع عشر كانت هناك طبقة أخرى من المترجمين، ومن مميزات هذا القرن قيام طائفة كبرى من الشروح على شروح ابن رشد. أما في المجال المسيحي، فإن تأثير ابن رشد هو أكثر وضوحاً مع ظهور ما عُرف في الأدبيات الأوروبية بالرشدية اللاتينية في الفكر الأوروبي المسيحي الوسيط، التأثير الذي طالما أثار دهشة الكثيرين من مفكرين ومؤرخين، مسلمين ومسيحيين، ومن دهشته وفرادته تحوّل إلى مادة للبحث في المجالات الفكرية والفلسفية واللاهوتية والتاريخية. فهناك الكثير من الكتابات والمؤلفات الأوروبية التي اهتمت بابن رشد بدافع هذا التأثير، من هذه المؤلفات كتاب الباحث الفرنسي دومينيك أورفوا الصادر سنة 1996م، بعنوان (ابن رشد)، فحين تساءل المؤلف لماذا نهتم بمؤلف يعود إلى القرن الثاني عشر..؟!. أجاب بقوله: إن ابن رشد إلى جانب أنه مثّل مجد العالم العربي في حيازته للفلسفة اليونانية؛ فإنه إلى جانب ذلك ترك تأثيراً كبيراً على الفكر المسيحي في المجال الأوروبي الوسيط، وامتد أثره أيضاً على جزء من عصر النهضة هناك. وكما ارتبط تأثير ابن رشد في الفكر اليهودي، بالمفكر اللاهوتي موسى بن ميمون، ارتبط تأثيره أيضاً في الفكر المسيحي بالمفكر اللاهوتي توما الأكويني (1225-1274م) أحد أكبر الفلاسفة الدينيين في الفكر المسيحي الوسيط، لكن الفرق بين الرجلين، أن ابن ميمون ظل إلى آخر حياته مبجّلاً لابن رشد، بخلاف الأكويني الذي تأثّر بابن رشد وأخفى تأثّره، وكأنه قد غاظة ما رآه من تأثير لابن رشد العالم المسلم على الفكر المسيحي..!!. ومن المؤلفات المعاصرة والمهمة في المجال العربي، التي شرحت تأثير ابن رشد على الأكويني؛ كتاب الأكاديمي المصري الدكتور محمود قاسم (نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الأكويني) الصادر في القاهرة سنة 1964م، وهو في الأصل رسالته الكبرى للدكتوراه التي ناقشها في جامعة السربون الفرنسية. الرسالة التي امتدحها الدكتور علي سامي النشار (1335-1400ه/1917-1980م) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، واعتبر أنها تجسّد مثالاً حيّاً على أصالة البحث الذي تميّز به محمود قاسم، وكشفت عن معرفته الواسعة والعميقة بالتراث العلمي الرشدي، والتراث الفلسفي لدى الأكويني. وبهذا التأثير المزدوج، أصبح لابن رشد سيرته الفكرية في الفكر اليهودي، وقراءته بعيون ومنظورات يهودية، كما أصبح له أيضاً سيرته الفكرية في الفكر المسيحي، وقراءته بعيون ومنظورات مسيحية؛ الأمر الذي يعني أن ابن رشد مثّل محطة مهمّة لابد من استذكارها، والتوقف عندها في تاريخ تطوّر حوار الأديان.