بعيداً عن طيران التحالفات واجتماعات الموالين والمعارضين، وليس قريباً من الدعم "الإلهي" لأولئك المجرمين الذين يُمعِنون في قطع الرؤوس وحرق الأخضر واليابس بملابسهم السوداء التي ترسم داخلهم على وجوههم الكالحة، وأيديهم التي تمسح خرائط الأوطان وتستبدلها بقياسات تعيد الزمن بإمعان نحو الهلاك والهباء المنثور، يأتي جيلٌ عربي جديد من كل الأحياء والبلاد ليعيد الثقة إلى الموسيقى العربية. وهذا مؤشّر على ذوق المجتمع واهتمامه بركنٍ أساسي من المكنون الثقافي العربي الذي ننتمي إليه جميعاً دون شعارات تافهة نكراء، بعيداً عن الأفكار المدسوسة والملموسة التي رأينا ما فعلت في مجتمعاتنا وجعلتنا أمّة تقف على هامش الزمان والمكان معلنةً تخلّفها علناً دون خجل أو وجل. صغارٌ كبار … يبدون أطفالاً، لكنهم اكتشفوا أن الجمال يكمن في القلب وفي الروح، يكمن بين الكلمة والصوت، هناك في تلك الحنجرة التي منحها الله الجميل، الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الإنسان في "أجمل تكوين". خلق العقل لمهمّة واضحة المعالم هي النظر إلى تلك السماء.. وتلك الأرض، والتعارف كشعوب، ومزج ألوان الطبيعة والتعلّم من أصواتها التي تبدأ بخرير مياه ساقية وزقزقة عصفور وتنتهي عند غضب البحر وانفجار البراكين… دقائق قليلة من برنامج تلفزيوني تشي بالتغيير وبزمن جديد، زمن يعيد شيئاً من ماضٍ كان أشبه بحلم، أجهضه العسكر، واللصوص المعمّمون، زمن أُجهض "بثورات" زائفة، حمقاء، كسرت كل جميل، وهمّشت كل فكرة بناءة طموحة… جذب برنامج The Voice Kids أكبر عدد من المشاهدين، لا ليقولوا لهؤلاء الأطفال "برافو يا شطّار!"، بل ليقول لنا الطفل ما عجزنا عن قوله نحن حين أهملنا تراثنا وأنغامنا التي ابتكرها عباقرة في زمن يوصف بأنه جميل.. نعم إنه جميل.. يكفي أن الناس كانوا يستمعون أكثر مما يثرثرون.. صحيح أن الصورة كانت باللونين "الأسود والأبيض" لكن ما يمكن أن نراه لو أردنا هو تلك "النزعة" للحرية وللارتقاء، النزعة لملاقاة الآخر ومنازلته في ساحات الفن والثقافة… الجيل الذي سبق هؤلاء الأطفال كان له شرف (الثورة) البيضاء، وإن تكالب العالم ليفشلها، ويحتال الطغاة عليها ويعودوا في بدلات وهيئات مختلفة قليلاً… لكن الجيل الجديد سيقدّم نموذجا جديداً من الانفتاح والقدرة على إعادة القطار إلى السكة… هذا الجيل الذي يحب ألحان سيد درويش وأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وألحان بليغ حمدي وغيرهم ممن ساهموا في اكتشاف (الحب) الممنوع في ثقافة الملتحين الذين علقت اهتماماتهم بين كروشهم السمينة وما بين أفخاذهم وأفخاذ الآخرين. هذا الجيل الجديد سيعمل على التغيير وقلب الصورة ووضعها في الإطار الصحيح… حان وقت التغيير.. ليس في الساحات ولا في الجبهات هذه المرّة، بل في بيوتكم ومدارسكم وفي المسارح التي أقفلها الجهل وانعدام الرؤية .. قد أبدو مبالغاً لكني كل ما نظرت نحو الشمال، أجد أن الفن والموسيقى هو السلاح الوحيد الذي حرر العبيد والشعوب الحية .. الفن أعاد التوازن إلى الطبيعة، وخلط الأسود والأبيض مصدر ألوان الحياة.