قبيل تسعة أشهر، فوجئ تامر الذماري أن رجلاه قد أصيبتا بالعطل، وأنهما لم تعودا قادرتين على حمله حتى إلى حمّام المعتقل. وحتى الآن، بعد إطلاقه بسبعة أشهر، مازالتا كما هما، بل أسوأ. ليس غريباً أن تتدهور حالته وتصل إلى هذه النتيجة السيئة؛ فتامر لم يحظ بأي عناية صحية، باستثناء «مغذية وقسطرة»، عملت له في المستشفى الميداني، عقب إطلاقه. وقرر له المستشفى الخروج، وتُرك على تلك الحالة حتى الآن.
في 24 ديسمبر 2011، وقع تامر في فخّ نصبته قوات الأمن ومجموعات مدنية مسلحة مساندة لها، للشباب المشاركين في مسيرة الحياة القادمة من تعز، على مدخل العاصمة صنعاء، وتحديداً في «جولة دار سلم».
شكّلت القوات الأمنية، سياجاً على الجانب الأيسر للمسيرة لفرض خط سيرها بما يمنع الشباب من التوجه صوب دار الرئاسة يساراً. وقبل أن تشارف المسيرة على الانتهاء بدأت القوات والمجاميع المساندة لها اعتراض نهاية المسيرة، والاعتداء على المشاركين بالرصاص والقنابل المسيلة للدموع والضرب بالحديد واعتقال من أمكن.
كان تامر محمد رسام الذماري، 18 عاماً، أحد الضحايا. في أحد الشوارع المتفرعة من شارع تعز، كان الشاب يسير بخطوات مثقلة من عناء مسافة 200 km قطعها مشياً على الأقدام. عندما توقفت إلى جواره سيارة سوداء (صالون) «لاندكروزر» تقلّ 3 أفراد، سألوه: «تشتي تشتغل؟». كان منهكاً ومرعوباً، فأجابهم: نعم. فأفسحوا له ودعوه للركوب. وقع تامر في فخّ نصبته قوات الأمن ومجموعات مدنية مسلحة مساندة لها في ديسمبر 2011
حاول استفسارهم عن مكان العمل وهو يصعد السيارة، فأخبروه: «في ملعب الثورة». وفي طريقهم إلى الملعب، قال لنفسه: «الحمدلله لقد نجوت». لكنه في الحقيقة كان وسط الشبكة، بل ودخلها برجله.
وصل تامر إلى موقع العمل (الملعب)، الذي يبعد نحو 11 ميلاً من «دار سلم». وبمجرد دخولهم إلى الملعب، لفت انتباهه الصمت المطبق في المكان، وقبل أن يكمل سؤاله عن العمل، ضربه أحدهم بحديدة من خلفه حتى أغمي عليه، وتم تغطية وجهه وعينيه، ولم يفق من الغيبوبه إلّا في المعتقل.
قبل أن يباشر هؤلاء عملهم، كانوا محتارين في طريقة التعذيب المناسبة لهذا الشاب، فسألوه عن شغله. فرد عليهم: أنا كهربائي. ومن خلال الرد قرروا أداة التعذيب.
دقّوا مسمار في قدمه اليسرى، وشبكوا الكهرباء إلى رجليه. يقول تامر: «كانوا يعذبوني بالكهرباء دقيقة كل يوم». ويصف صورة التعذيب: «لمّا يلصوها اتكهرب حتى أفقد الوعي، ولما يطفوها ترجم بي مسافة متر».
ويضيف موضحاً أنواع الاعتداءات الأخرى التي تعرض لها: «كانوا يضربونني وأنا مقيد».
لم يكن تامر وحيداً، إذ كان نحو 19 شاباً آخرين يشاطرونه السجن والعذاب، لكنهم كانوا «يعذبوني أكثر واحد لأني قلت لهم إني كهربائي»، حد تعبيره. عندما وصل إلى المستشفى الميداني لم يحظ بأي عناية صحية، باستثناء «مغذية وقسطرة»، عقب إطلاقه
استمرت جلسات التعذيب والتنكيل، بنفس الوتيرة، نحو 6 أشهر. وفي آخر يوم لتامر في المعتقل، لم يكن لدى معتقليه أدنى شك في أنه ميت. كانت رجلاه قد تعطلتا بفعل التعذيب، وكان رأسه ولسانه ثقيلين حدّ الشلل.
ويصف لحظاته الأخيرة في المعتقل بفخر رجل تمكّن من النجاة بأعجوبة: «سمعوني وانا اقول: اثهد ألا إله إلا الله واثهد أن محمد رسول الله، وخافوا، وقال واحد منهم: خلاص هذا قد بايموت، خرجوه». كان لسانه ثقيلاً ويشعر أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وفي المكان الذي أستدرج إليه قبل سته اشهر، تم التخلص منه، في ملعب الثورة. يقول: «وصلوا بي إلى داخل الملعب ومسكني واحد من يدي وواحد من رجلي ورموا بي». لقد تعاملوا معه وكأنهم يتخلصون من نفايات إلى صندوق القمامة.
وتركوه داخل الملعب بعدما أغلقوا عليه الباب. وعقب رحيلهم سحب جسده إلى جوار الباب واستمر في الدق عليه حتى فتح له حارس هناك. وسأله من انت؟ وكيف جئت الى هنا؟فلوح له بيديه بأنه لايستطيع الكلام. فقال له الحارس، وهو رجل كبير في العمر: أشر لي كالأعجم، إلى أين تريد أن تذهب؟. فحرك فمه: «المنثة» (المنصة).
وهكذا عاد إلى الساحة بعد غياب؛ لكنه لم يجد من يهتم لأمره ولا لحجم التضحية التي قدمها. ويشكو من تجاهل وتهميش اللجنة التنظيمية له، وكذلك الناس، حتى أسرته: «ولا أحد بيدورني، كنت أجلس أفكر وأقلق، كنت أشعر بالإحباط واليأس من حالتي، وفكرت اقتل نفسي... أخلص».
لم يلتفت أحد لمعاناته وإصابته. هو الآن غير قادر على الحركة؛ فرجلاه شبه ميتة، ويحتاج إلى إنقاذ سريع وعاجل.
يقول تامر: «قدمت ملفا إلى مؤسسة وفاء قبل فترة، قال واحد إنهم بايعالجوني؛ لكنهم لم يفعلوا شيئاً». وانضم تامر منذ نحو ثلاثة أسابيع إلى عشرات الجرحى الذين قدموا وكالات للنائب أحمد سيف حاشد لرفع دعوى قضائية ضد الحكومة لمعالجتهم.
وعندما كنت أدردش معه في بوفيه داخل ساحة التغيير، تقدم أحد المباشرين لإلقاء التحية على تامر ونقل موقف شهده قبل سنة وآلمه كثيراً. يقول ماهر الشويب: «شفته كان مستنداً للحائط وهو مكتئب، وجلس نحو ساعة كاملة يطلب من الشباب مساعدته على الوصول إلى جوار المنصة؛ لكنهم لم يلتفتوا لنداءاته، فتركت المحل وجئت لمساعدته وكان يشكو لي من خذلان المجتمع له رغم تضحيته».
في أعماق هذا المخلوق الضاحك، يبرق حلم عظيم يكشف في طياته أسرار بقاء تامر حياً، حتى اليوم. فقد واجه هذا الشاب أسلحة اليأس والبؤس والألم الفتاكة بضحكة ضاجّة، وأمل بتحقيق التغيير. هو الآن غير قادر على الحركة؛ فرجلاه شبه ميتة، ويحتاج إلى إنقاذ سريع وعاجل
التقيت تامر الذماري قبل أيام، في ساحة التغيير، في اليوم الأول له على الدراجة، كان سعيداً جداً ويشعر بفارق كبير، وكان يدعوا بالتوفيق للنائب أحمد سيف حاشد الذي اشترى له الدراجة، وخلصه من معاناة عمرها سنة، هي: العكاز. يقول: «اتبهذلت قوي بالعكاز.. متعبات جداً». ويضيف: «الله يحفظ القاضي أحمد سيف حاشد، قده أبي وأسرتي».
تامر الذماري، هو الإبن الأكبر في أسرة مكونة من أب مسحور وأم ترعى أربعة أبناء مايزالون أطفالاً. اتصل بهم عند خروجه من المعتقل يعتذر لهم عن انقطاعه عنهم ويبلغهم باعتقاله وتعذيبه حد إبطال رجليه. فكان الرد من أسرته المطحونة: «مثلما طلعت برجلك لاترجع الا برجلك». والحاصل ان تامر كان عائلهم الوحيد.
لعل الكثير منا سبق له أن سمع عن خطر الكهرباء ولدغاتها القاتلة كذلك؛ لكن معظمنا لم يتعرّض لهذه الصعقات، لهذا لا يمكننا الشعور بمرارة ما ذاقه تامر زهاء 6 أشهر.